المتتبع للساحة السياسية في البلد يدرك حجم الأزمة التي وقعت فيها الأحزاب السياسية المشاركة في انتخابات 23 نوفمبر. فبعدما نافحت هذه الأحزاب، و دفعت بكل ثقلها لتعرية المقاطعين لها، ثم دافعت عن شرعيتها وبذلت في ذلك كل ما باستطاعتها، وجدت نفسها في مأزق لا تحسد عليه؛
فلم يكن يدور في خلدها أن النظام الموريتاني كان يدبر مسرحية من مسرحياته المسماة بــــ" الديمقراطية ". و لكن، و لأن الشركة البريطانية المتهمة في عدة فضائح ، و صاحبة قصة الحبر السري أو "الباء الطائرة" ، لم تتمكن من إنهاء "البطاقات الانتخابية" قبل الوقت المحدد لها، فقد قرر النظام إسناد تلك المهمة إلى اللجنة "المستقلة" للانتخابات.
و لأن النظام صار بين خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن يترك الانتخابات تسير بصورة طبيعية، و حينها قد يجد الحزب الحاكم نفسه يقتات على فضلات و بقايا الآخرين، و إما أن يختار الخيار الآخر رغم فواتيره غير المحسوبة العواقب، وهو فعلا الخيار الذي أعتمده النظام. فقد قرر الكشف عن قناعه و إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي له ، فأسند المهمة للجنة التي تكلفت بدورها بالتزوير و التحريف على أكمل وجه .
المعارضة المشاركة بشقيها التواصلي و أحزاب المعاهدة وجدت نفسها وهي من ساهمت في إضفاء مسحات من الشرعية على هذه الانتخابات في واقع لا تحسد عليه، فقد غرر بها النظام و قام بخلع نتائجها و تقليم أظافرها ، فحرمها حتى من الظفر بالمناطق التي كانت تراهن عليها ، وحتى تلك التي أعلنت فوزها بها.
قصة النظام هذه مع المعارضة المشاركة تشبه إلى حد كبير قصة المهندس المشهور "سنمار" الرومي الذي بنى قصر " الخورنق " بالكوفة، للنعمان بن امرئ القيس ، و حينما أكمل بناءه بعدما أبدع فيه و تفنن ، قابل النعمان حسن صنيعه بعكس ما كان يتوقعه .
خرجت المعارضة المشاركة من الشوط الأول و هي تولول و تلوح و تهدد بالانسحاب ، لكن يبدو أنه تهديد للاستهلاك الإعلامي فقط ، و مع وقف التنفيذ طبعا ، و رغم أن أحزاب المعاهدة أعلنت عدم اعترافها بنتائج الشوط الأول من الانتخابات ، إلا أنها لم تقم بأي خطوات ملموسة ، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول سكوت تلك المعارضة على كل ما حصل و مازال يحصل لها ، و هو وإن كان يمكن إيجاد تفسير منطقي له فإننا لا يمكن أن نفهمه حسب فهمنا المتواضع ، إلا في إطار الشائعات التي راجت خلال الساعات الماضية بأن هناك طبخة سرية يتم إعدادها لإرضاء المتذمرين في المعارضة المشاركة من قبل لجنة التزوير"المستقلة" للانتخابات .
وفي كل الأحوال، فإني أطمئن القارئ الكريم إلى أنه بالرغم من الانزعاج والرفض المعلنين لنتائج هذه الانتخابات، وما استتبع ذلك من تلويح بالخروج من السباق في الشوط الثاني، فإن مقاطعة حزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" للشوط الثاني يظل أكثر احتمالا بكثير من مقاطعة المعارضة المحاورة له، كما لاحظ المحلل السياسي البارز/ محمد الامين ولد الفاضل.
ويمكننا القول أنه بمنطق الربح والخسارة، يبقى الرابح الأكبر هو منسقية المعارضة التي أثبت للرأي العام و لزملائها من المعارضة المحاورة و "الناصحة " أن الدخول مع النظام في انتخابات هو الخصم والحكم فيها ، ما هو إلا مجرد رهان خاسر ، وليس رهان التغيير كما كان يظن البعض.
لقد كان الأولى بهؤلاء العودة إلى جادة المعارضة و قطع الصيام عن الكلام ، وعدم المراهنة على شوط ثان، لأن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين ، و لأنه، وبغض النظر عن المغريات الكثيرة و الصعود في عدد كبير من المقاطعات إلى الشوط الثاني ، فإن كل ذلك لا يعدو كونه مجرد سراب يظنه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؛ و حينها قد لا ينفع الندم ، و التحسر على ما فات .