الدكتور ولد حرمة والمستر هايد (الحلقة الأولى) / سيدي محمد ولد ابه

altكان الدكتور جيكل، كما صورته رواية الكاتب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن، طبيبا مولعا بالتجارب، مشغولا بتجاور الشر والخير في الإنسان فحاول فض هذه الجيرة بخلطات توصل إليها عن طريق أبحاثه.

جرب الدكتور خلطته السحرية على نفسه فانشطر شره عن خيره في شخصية رديفة لشخصيته سماها ستيفنسن المستر هايد.

كان الدكتور جيكل، في شبابه صاحب ميول شريرة، كبرت معه تلك الميول، حتى إذا ظهرت شخصية المستر هايد، أصبح يمارس الشر عن طريقها مرتاح الضمير. كانت لجيكل سيطرة ما على المستر هايد، يتحكم في لحظات ظهوره، لكنه أخذ يفقد تلك السيطرة مع الوقت، فيظهر المستر هايد في أوقات محرجة للدكتور جيكل، ويرتكب جرائم... تنتهي الرواية بانتحار الدكتور جيكل ليموت المستر هايد...

شيء قريب من هذا حدث مع الدكتور الشيخ؛ فقد كان مسيطرا على المستر هايد، حين كان في الحكومة، يفرغ عن طريقه شحنة السباب، والشتائم ضد المعارضة، وربما اجتاز بها الحدود إلى الجيران. أما حين يستعيد الدكتور الشيخ توازنه، بعد إحدى نوباته، فإنه يكتب معلقات في المديح على سمت ابن هانئ الأندلسي... ظل الدكتور الشيخ، والمستر هايد فرسي رهان؛ الشيخ يقرظ النظام، وشره يقرع المعارضة.. تنازعه ابن هانئ والحطيئة فغاب الوزير والطبيب...

أقيل الدكتور الشيخ من الوزارة فتفرغ للمستر هايد يقمعه؛ فكان ابن هانئ يظهر بين الفينة والأخرى، فظل المستر هايد قابعا في الظلام يتحين الفرص... سنوات والطبيب يعالج ذاته بخلطاته السحرية، وأقراصه المنومة.. ظل يؤمل العودة إلى المشهد ولو من فرجة خلفية. طرق الأبواب والنوافذ، تسور وتسلق، جاء البيوت من أبوابها، ومن ظهورها، حام حول الحمى، لكنه لم يجد مخرجا من التيه، ولم يأس عليه أحد... كان المستر هايد يتلمظ بين ضلوعه.. يشمت فيه حين يدفع "فاتورة الرأي الداعم"، ويضن عليه بوصل، ويسخر منه حين يحمد الله أن أذهب عنه الحزن وهو فيه غارق ...

فشل أفيون الدكتور، وخابت آمال السياسي فانفلت المستر هايد في "المسار الحانوتي" يربي ويطفف، يبيع ما لا يمكل، ويشتري الرخيص.. في فتحته الأولى نادى على سقَطه بلغة أهل السوق، وحين لم يلتفت أحد إلى بضاعته المجزاة قرر، في فتحته الثانية، أن يجمع بين الحشف وسوء الكيل... فلنزر دكان المستر هايد، في الدويرة، حيث يبخس الناس أشياءهم، ويستوفي إذا اكتال ويخسر إذا كال أو وزن...

يبدأ المستر هايد صباحه التجاري بما نهى الله عنه (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فيستخدم قول الله تعالى (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) ليبرر انقلابه على نظام سعى إليه، وزكاه بقوله، وأفسد فيه بفعله، فلفظته مناعة النظام التي حاصرت فيروس فساده في صفقة، وعقد، ليقضى على السرطان في مراحله الأولى...

ما يلبث المستر هايد يسخر من الدكتور، حين يدعي الاقتداء بإبراهيم، فيتقمص المستر هايد شخصية راع بعقل هبنقه: يستحلب كبشه لتدرك النعاج أن دورها قادم! لكن المستر هايد لا يفعل سوى الإفصاح عن مكنونات الدكتور الذي تعود حلب الصفقات والعقود، فظن كل مخلوق حلوب...

يعود المستر هايد إلى لغة القرآن ليكشف لنا فهم الدكتور لنص التنزيل الذي عكف على حفظه عشر سنين، حسب سيرته " ثم إن الشجاع الحقيقي أو السياسي الفعلي هو من لا يرهن نفسه لأشياء صغيرة، وبالتالي يمكنه اتخاذ قراره في كل وقت لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير." ضاعت معاني القرآن، في فهم الدكتور كما ضاع عقد على خالصة. وحده هبنقه، الذي يستحلب كبشه إنذارا لنعاجه، يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

يسارع الدكتور لإصلاح ما أفسده المستر هايد فيعلن توبته.. "وفي هذا المقام  فإني أعلن توبتي في ما فرطت في جنب الله قولا أو عملا، إفراطا أو تفريطا، قصورا أو تقصيرا..." .

هذه التوبة، التي نتمناها نصوحا، تفتقر إلى بعض الشروط.. "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب..."(النساء 17) وقد تعاطى الدكتور ما أصبح يعده سوءً بعلم يقين، وأصر عليه، وزينه لغيره، حتى إذا حضره الموت السياسي قال: "إني تبت الآن..."، ويصرح الشيخ أن توبته ليست خالصة لوجه الله.. "إعلان التوبة هذا موجه بعد الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، إلى إخوتي في المعارضة لما قد صدر مني حينا من الدهر من ما لا يليق بمقامهم الشريف، دفاعا عن قناعة تبين لي لاحقا زيفها إذ كانت مؤسسة على مغالطات و دعاوى تضليلية. "  ألا يعلم الشيخ، الذي عكف على القرآن عشر سنين، أن حجته لا تنفعه في الدنيا ولا في الآخرة! "قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل"(الأحزاب 67)! كل ما فعله الشيخ هو شهادته على نفسه أنه بهت زعماء المعارضة، وليعتذر إليهم ببهت غيرهم! "... قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم..."(التوبة).

يعود المستر هايد ليلعب مع الدكتور كما يلعب جيري مع توم.. كلما شيد الدكتور لفضيلته بناءً أتى المستر هايد بناءه من القواعد فخر عليه السقف.. "وللمحايدين و أصحاب القلوب الصافية، و قليل ما هم.. "  إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه،  "أربأ بهم أن يتصوروا أنني اتخذت هذا الموقف كردة فعل على فقدان وظيفة أو امتياز أنا بفضل الله في غنى عنه..." "أسمع كلامك يعجبني، أشوف عما يلك أتعجب! "... ولم أغذي يوما جسدي بحرام و لا بالمال العام." يكاد المريب يقول خذوني! "لقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون"؟.. بل عقلناك من قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين."(الحج 11) "...و ما أسهل الحصول على ذلك المبتغى لو كان هو فعلا ما يحرك قلمي، أو يغير موقفي، وأنا أتلقى عروضا مفتوحة بوظائف مهمة في الخارج." يا شيخ!

لا يمل الدكتور إعادة بناء ما تهدم، فعل ياجوج وماجوج، فيشهد الله على ما في قلبه.. "...نعم لقد خرجت أبتغي سبيل الهداية الوطنية بعد أن اكتشفت أنني كنت في جوف هبل.. وأنه يستحيل تحويل هيكله إلى مسجد. وأنا الآن خارج هيكل الصنم، والذي لا يملك من الصنم عفته، على حد تعبير المتنبي...>>

ينسب الشيخ نفسه إلى الخوارج، ويستند في عقيدته إلى المتنبي! يخبرنا الله عن أصناف الذين يلبسون الضلال ثوب الهداية والفساد قناع الاصلاح.."الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا."(الكهف 104)، "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون"(التوبة 107)، "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون."(البقرة) فليختر الشيخ لنفسه بين الحميم والزقوم...

أما الأصنام فالشيخ خبير بصناعتها، فانتهز فرصة تدشين مركز الأنكلوجيا ليعرض مهارته في التزلف والتكلف، رافعا الرجل الذي يشتمه اليوم إلى مصاف الأنبياء، فكافأه، على ما يقول الناس، بمنع بث ما زوره في وسائل الإعلام، حتى لا يتخذه الناس قدوة يتقربون بها...

أقام الدكتور الدنيا ولم يقعدها ضد وسائل الإعلام العمومية، فلما استيأس من بث الغث لجأ إلى المواقع ينشر ما حكمه الطي. يقول الشيخ في تلك الفضيحة، محاولا أن ينحت من رئيسه صنما ينفرد بسدانته، دون رفده وسقايته،" ثم جاء "العام الذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون" : كان ذلك في السادس من أغسطس 2008/ قمت أنت بالتغيير. و في الثامن عشر يوليو2009/ ركبت موجة الشعب، ومن يركب أمواج الشعب لا يخشى [يخش] الغرق، بل حتما يضمن الوصول، وبين ليلة وضحاها بدأت سيمفونية البناء.." ويصل "بتُّ" التزلف أقصاه، حين يُشهد الدكتور التاريخ..

" فسجل علي يا زمن..

شجاعتك سيف الوطن،

عزيمة من فولاذ،

وبصيرة من ضوء الطموح،

و بــيرق أحلام،

أنت فارس الكبرياء،

وحصان الشمس،

للشعب قلعة عمل و حصن أمل،

ما يتحقق لم يكن سحر ساحر،

..............................

والذين لا يعرفون قيمة الجبل في أزمنة الريح

ولا السير في العواصف،

أبناء المكيفات والأقاويل،

لم يجدوا تفسيرا لما يجري،

قالوا هذا "رجل شعبوي"،

لكن هل ضر محمدا أن قريشا وصفته بالجنون،

هل قبل محمد بأنصاف الحلول،  

كان محمد يعرف أنه لا خيار بين الحق والباطل.

ما تحقق كان إرادة رجل،

رجل يملك قلب أسد.. وحلم أمة.

فمن يفرط في حبل الكرامة؟"

الذي يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

يطلب منا الدكتور، في حديثه عن الأصنام، أن نعود.."... فعودوا إلى ما فعل السابقون في الإسلام بأصنامهم بعد أن نحتوها وكانوا يمسحونها ويزينونها كل يوم."  لكن المستر هايد يعود بنا إلى مكنونات الشيخ الجاهلية حين كان الأعراب يأكلون أصنامهم..إذا جاعوا.

ينفلت المستر هايد، في نهاية المقال من أي سلطة للدكتور الشيخ، ليعبر عن شره بصراحة تصل حد الوقاحة، فيدعو إلى انقلاب تمشيا مع تصوره للسياسي الفعلي الذي يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

وتصل المأساة غايتها، كما في رواية استيفنسن، فيخلف الدكتور رسالة يكشف فيها حقيقته والمستر هايد، قبل أن ينتحر وإياه.. يصب المستر هايد جام غضبه على التشيع، ويستظهر أناشيد المسيرة الخضراء الكبرى بنفس الفهم الذي استظهر به آي الذكر الحكيم خلال عقد من الزمن ليفاخر باستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير!!!

ولا يقع ذلك إلا ممن كان "رهينة هوى متبع و مزاج شخصي ارتجالي..."  ينصحنا الدكتور، مغافلا المستر هايد.." وللحيلولة دون ذلك يلزم، وبسرعة، أن نتحرك، وفي كل الاتجاهات أفقيا وعموديا، من أجل إحداث التغيير لتلافي الكارثة.. التي رصدتها عين "يمامية". لكن المستر هايد يهمس لنا، في غفلة من الدكتور.. لا يغوينكم الشيخ النجدي والتمسوا العين في الرباط، سلا وما جاورها... كتب الدكتور مقالا طريفا، حين كان مسيطرا على المستر هايد بعنوان " تحيين الذات"، أما وقد انكشف المستور، وانتحر الدكتور، فإننا وفاءً لذكراه، نعد القارئ بتحيين مديحياته، وهجائياته، كلما أطل علينا المستر هايد من شباك حانوته، ونبدأ بأقربها إلى قلبه، وأصدقها تعبيرا عن مطامعه.. صلاته في محراب الأنكلوجيا... راجين من الله العلي القدير ألا تحيّن ملفات "نجاة غيت"، ومستشفى لعيون...، فيضطر المستر هايد إلى الانتقال من ادويرة إلى دار النعيم حيث سبقه وزراء، ومدراء، كلهم يدعي دعواه..."لم أغذي يوما جسدي بحرام و لا بالمال العام." تشابهت جيوبهم...

 

يتواصل.

سيدي محمد ولد ابه

[email protected]

30. نوفمبر 2013 - 22:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا