تناسبت سرعة تساقط الحشرات على المصابيح التي أوقدها الدكتور الشيخ ولد حرمة طردا مع قوة الأضواء المنبعثة منها.
وهكذا ما كاد هذا الكاتب المفلق يضيء ثاني مصابيحه الكشافة؛ حتى بدأ الضوء في الخفوت من كثرة وضخامة جثث الحشرات المتناثرة حوله والتي كادت تحجب الرؤية عن كل من استهدف ذلك المصباح إنارة الطريق في وجهه.
طبعا كان الشيخ ولد حرمة ولد ببانه واثقا من أن الأضواء والأنوار التي سيوقدها لن تكون الاستنارة بها أمرا ممتعا للمصطلين؛ فقد حذر بداية من أنه وغيره لن يكونا أبدا في مأمن من لدغ الأفاعي الزاحفة والحشرات السامة، لكنه اختار بإرادته الحرة أن يدفع ثمن جرأته وصراحته ووضوح رؤيته.
غير أن أطرف ما كشفته مصابيح الشيخ (مما لم يخطر له على بال ربما) هو أن لبعض الحشرات عقولا مدركة علمتها أن أنوار الإضاءة كثيرا ما تكون محرقة؛ فتجنبت الاقتراب منها وكلفت غيرها من صغار الزواحف بمحاولة إطفاء الشعلة الوهاجة؛ فكانت تلك المقالات المبصومة بتوقيعات من علم بالضرورة أنه لا يحسن كتابة إنشاء سوي؛ ناهيك عن الظهور بمظهر الكاتب والمثقف وحتى العالم الموسوعي!! وتلك "خلية نائمة وعابثة" لن تفيق من غفوتها حتى ينزل الله قارعة بها وبمن ظن أنها ستغنيه عن اتباع سبيل الحق شيئا...
ليس الشيخ ولد حرمه سوى صاحب رأي عبر عن رأيه الذي يمكننا أن نتفق معه أو نختلف عليه؛ لكن ليس فينا صاحب بصيرة وضمير يخشى الله ويتقه يستطيع أن يزايد على الرجل في صدقه، وإخلاصه، وطهارته، ووضوحه، وشجاعته، ونبل مقصده وعلو محتده.. أجل؛ لكل واحد منا أن يتفق أو يختلف ابتداء مع ولد حرمه عندما دعم نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز ويتهمه بالتسرع والتعجل والاندفاع؛ لكنه لا يمكن إلا أن يعترف له بالصدق مع النفس ومع الآخرين.. تماما كما يمكن أن يتفق أو يختلف معه انتهاء في هذا المنعطف والتحول الجذري من الدعم إلى المعارضة، وأن يتهمه بالتسرع والتعجل والاندفاع العفوي، وبعدم التريث وإعطاء الوقت اللازم لرئيس الجمهورية حتى يتمكن من إنجاز كامل برنامجه وتحقيق التغيير الجذري المنشود الذي وعد به..
لكنه في كل الأحوال، لن يكون بريئا من يدفعه أي شيء من ذلك لاتهام الرجل في صدقه وعفويته ووضوحه وطهارته الفواحة؛ إلا أن يكون متبلد الضمير، مزكوم الأنف بروائح التعصب والتزلف وسيء الظنون!
في "المسار الحانوتي"؛ يشبه ولد حرمه الدولة الموريتانية ب"حانوت الدويرة"؛ وهو حانوت له مالك مخلص حريص على مصالح حانوته، ومستخدم (وكاف) خائن لأمانته متربص بولي نعمته؛ غير أن ولد حرمه لم يوضح لنا ما إذا كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو "الوكاف" أم "رب العمل"؛ فإن كان الأول فقد خونه؛ وإن كان الثاني فقد أخلص في الثناء عليه؛ فهو مخلص للحانوت (موريتانيا) وحريص على مصالحه، وهو زيادة على ذلك طاهر السريرة، حسن الظن بالناس.. وبموظفيه على وجه الخصوص.
بعض وسائل الإعلام تطوع بمحاولة فك بعض شفرات مقال الشيخ؛ فاعتبر (على مسئوليته) أن المقصود ب"الوكاف الخائن" هو رئيس الوزراء الدكتور مولاي ولد محمد الأغظف، رغم أن هذا مجال واسع للتأويل وتضارب التفسير.. إذ قد يكون مالك الحانوت هو "الشعب الموريتاني" الذي انتخب وفوض وولى "الوكاف" الذي قد يكون "الرئيس المنتخب"، أو "البرلمان المنتخب"، أو "الوزير الأول"، أو "الحكومة"، أو "الجيش"، أو "مختلف المؤسسات العمومية".. أو غير ذلك مما قد لا يكون للبحث فيه فائدة ما دامت الفكرة واضحة وناصحة وهي أن "الظاهر للعيان من أمور البلاد قد لا يكون هو الخافي عن تلك العيان"؛ وهو ما يستدعي الحذر وعدم الانخداع بالمظاهر التي كثيرا ما كانت خداعة. كاد المريب يقول خذوني..
تجاوزت أقلام "الخلية النائمة" كل هذا وفرضت أن يكون المقصود ب"الوكاف" هو ذاته الرئيس محمد ولد عبد العزيز وليس أحدا سواه؛ ثم اندفعت تضخ سيولا جارفة من البهت والسب والقذف في حق صاحب المقال؛ وفي تشييد المتاريس الحائلة بين صاحبه وبين الرئيس رجاء أن تتحقق القطيعة التامة وأن تظل أبواب "خزينة شراء الأقلام الرئاسية" مفتوحة على مصاريعها..
فهل غلب على ظن هذه الخلية أن لا أحد تنطبق عليه صفات "وكاف الدويرة" غير الرئيس الذي ائتمنها ووظفها وأنعم عليها؟ أم هو جشع الذين ظنوا أن لا ينالهم فضل من الله إلا إذا كان بمناسبة إتقانهم كل صنوف التزلف للسلطان، والتقول والتغول على خصومه؟!!
مع الرئيس...
هذا عنوان مقال كتبته يومين بعد إصابة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز في حادث "اطويله" المشئوم في وقت كان فيه كبار الحاشية ما زالوا أسرى صمتهم المخادع في انتظار تبدد الغيوم التي اكتنفت الحادث وحقيقة الوضع الصحي للرئيس حتى يتضح لهم ما إذا كانت اللحظة هي مناسبة لكتابة بيان تضامن أم بيان تبرؤ!!
وقد أتبعت ذاك المقال بسلسلة مقالات مؤازرة لفخامته ظلت متواصلة في مؤازرة أخلاقية وإنسانية ووطنية حتى استعاد كامل عافيته؛ ومنذ المقال الأول بدأت تنهال علي المكالمات من كثير من السياسيين أغلبهم من الموالاة ومن رموز صفها الأول؛ وكانت أول مكالمة وصلتني من أحد أبرز وأخلص أنصار الرئيس لم تكن لي به سابق معرفة أو التقاء؛ حيث اتصل بي شاكرا مهنئا على موقفي ومقالي بعد أن عرفني بنفسه.
باستثناء تلك الشخصية العظيمة؛ كان كل الذين تحدثوا معي من موالاة الرئيس يستغربون أنني لم أكتب شيئا صريحا داعما لهذا الرئيس إلا "بعد فوات الأوان"؛ حسب قولهم؛ متسائلين: "كيف تمتدح رئيسا أمسى في خبر كان، وقد كان بإمكانك أن تفعل هذا قبل الآن، خصوصا أنك كنت دائما من داعميه والمعجبين ببرنامجه"..
وكان ردي على الجميع واحدا: وهو "أن كثيرا من نخبة مجتمعنا أصبحت ملوثة بأمراض التزلف والمحاباة والنفاق والمجاراة حتى صار امتداح القادرين شبهة يحسن أن نتجنبها ما استطعنا، ولقد كنت دائما مؤيدا للرئيس عزيز داعما لبرنامجه؛ غير أني لم أكتب بهذا الوضوح قبل الآن تجنبا للشبهات؛ أما الآن فهذا رأيي بصراحة؛ فإن شفي الرئيس وعاد فذاك المبتغى والحمد لله رب العالمين، وإن قدر الله غير ذلك ف"إنا لله وإنا إليه راجعون"، وسيكفيني أن لا أصنف في خانة المتزلفين، ولا في خانة المخاتلين المتربصين0!!"...
ثم ماذا؟
ثم شفي الرئيس؛ وعاد العبد الفقير إلى سابق عهده لا يكتب إلا لماما، وتوقف نهائيا عن خوض حرب الدفاع عن رئيس تجاوز محنة المرض ولم يعد يحتاج لمن يدافع عنه.. كان ذلك سببا واحدا من أسباب حالة "البيات الشتوي" التي كثيرا ما سألني بعض قرائي عن سببها وعن متى سأتجاوزها؟ ولقد حان الوقت لأجيبهم أجمعين؛ فأقول:
إنه ما كاد رئيس الجمهورية يستعيد كامل عافيته حتى أخذ المشهد الوطني يتشكل ويتخلق أمام عيني بشكل ملتبس ومختلف تماما عما كنت أعهده:
- خفت الحديث الفوقي عن بشرى "تجديد الطبقة السياسية"..
- تراجع النشاط "التطهيري" للمفتشية العامة للدولة
- قفزت إلى الواجهة وجوه لم يجمع الناس على شيء كما أجمعوا على أنها وجوه فساد
- توقفت الزيارات الرئاسية المفاجئة للمؤسسات العمومية
- تحولت مؤسسات ووزارات وإدارات عمومية كثيرة إلى ما يشبه مجالس للقيادات القبلية المرتبطة بالشخصيات القائمة على تلك المؤسسات
- عاد التسيب والركود والجمود إلى مختلف قطاعات ومؤسسات الدولة، وتراجعت الرقابة الإدارية على الأشخاص والمؤسسات والعمال.. الخ والخ..
فما السبب في كل هذا؟ وهل ذهبنا ضحية خداع لفظي وبصري وخطابي ماكر؟؟
ليس بالضرورة، ولا أرجو ذلك ولا أستطيع تقبله ببساطة؛ فلا حياة مع اليأس.. والإنسان بطبعه يصعب عليه التخلص من آماله وأحلامه؛ خاصة إذا كانت آمالا عراضا بحجم الآمال العظام التي بسطها لنا البرنامج الانتخابي لفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز. إن في واقعنا المرتبط بحادثة "اطويلة" ما يستحق التحليل للمساعدة على فهم واقع ملتبس ومحير..
لقد أصيب الرئيس بالرصاصات المشئومة التي أبعدته عن الوطن فترة طويلة حفلت بالشائعات والتكهنات وبكثير من مشاعر القلق والتوجس على مستقبل البلاد؛ وكان غيابه فرصة حاول معارضوه استغلالها للتخلص منه نهائيا، كما حاول مؤيدوه استغلالها للتقرب إليه كما لم يتقرب إليه أحد من قبل ولا من بعد.
ولقد أفلح مؤيدوه في إفشال كل مخططات معارضيه؛ فحافظوا على نظامه وكرسي رئاسته حتى تعافى.. فاستحقوا الشكر، واستحقوا المكافئة.. فكيف كانت المكافئة يا ترى؟
لا ندري؛ ولكننا لا نخفي خشيتنا من أن يكون ثمن تلك المكافئة هو تراجع الرئيس عن جزء من برنامجه وبعض وعوده نزولا عند رغبة قيادات عسكرية وأمنية وسياسية ظن أنه لولا إخلاصها لما عاد رئيسا بعد خروجه مصابا بتلك الرصاصات!!.. هذا مجرد هاجس لا نجزم بصحته؛ لكننا نعتقد أن تجاهله لا يمكن إلا أن يكون ممارسة لا تخلو من مكر، أو لا تخلو من غباء..!!
ومع ذلك؛ فإننا كلما استبعدنا هذا الهاجس ورفضناه بإصرار نهض أمامنا هاجس آخر لا يقل عنه خطورة؛ وهو هاجس مرتبط بصحة الرئيس؛ حيث لا يكاد يخلو بيت ممن يتحدث لك عن أن الرئيس (كما قال هو عن نفسه) لم يعد يتمتع بذات القوة والصحة اللتين كان يتمتع بهما قبل الرصاصات، ولذلك أيضا لم يعد المشهد الوطني قبل "حادثة اطويله" هو ذاته بعد تلك الحادثة..
فهل خرجت الأمور عن نطاق سيطرة وإدراك ورقابة الرئيس بعد تراجع قدرته على المتابعة والمراقبة والضبط لأسباب خارجة عن إرادته؟
لا نتمنى ذلك؛ خصوصا أننا وجدنا من يقول بأن كل الوضع الوطني المحبط والملتبس حاليا يرجع في الأساس إلى بروز العوامل الانتخابية التي فرضت على النظام أن يتراجع "تكتيكيا وظهاريا فقط" عن جوهر برنامحه وممارسته "الثورية" حتى يتجاوز التحدي الانتخابي؛ ثم يعود كما عهدناه: محاربا للفساد؛ منفتحا على الطبقة السياسية الصاعدة الأكثر طهرا وعفوية وصدقا..
وهذا ما نتمناه، رغم علمنا أنه "ما كل ما يتمنى المرء يدركه"..
بيت القصيد في كل هذا أن أجراس الإنذار التي دقها الدكتور الشيخ المختار ولد حرمه ولد ببانه تجد في واقعنا الوطني مما يفسرها أكثر بكثير مما يصطنعه لها المتزلفون من تأويلات ذات أبعاد شخصية صرفة؛ كالزعم بأنها ردة فعل على عدم ترشيح الحزب لولد حرمه رغم أنا أيا من هذه الأقلام لم يجد ما ينكره في جميع التقلبات والتلونات السياسية في مواقف كثير من نخبنا حتى أن الواحد منهم ينتخبه حزبه نائبا أو عمدة؛ ثم لا يلبث أن ينسلخ من جلده السياسي ويلبس لبوس جلد الحاكمين!!
ولقد ذهبت مغالطات المتزلفين حد اتهام الرجل بالخيانة وتوعده بالنزول ضيفا غير مرحب به في "سجن دار النعيم"؟؟ وبئست أرض يجاهر فيها الفجرة بالطعن في أعراض المتقين!!
ومع ذلك فإننا نكاد نتمنى أن تصدق تهم هؤلاء المرجفين في حق الأخيار الطاهرين؛ حتى نسألهم: "أي شريعة تلك التي تبيح للحاكمين التستر على "جرائم" الموالين؛ حتى إذا خالفوها كشفت الغطاء عن تلك "التهم البطالة" ولاحقت بسببها أولئك المخالفين؟. إنكم أيها الأغبياء؛ إنما تدينون أنفسكم بتهم القذف دون دليل؛ ثم تدينون الرئيس الذي تضللونه وتتزلفون له إن توهمتم أنكم تملكون على ما تقولون أي دليل!!!.
"إن كيد الشيطان كان ضعيفا".
مرة أخرى؛ ليس ولد حرمه إلا صاحب رأي وكاتبا ومثقفا ومفكرا مبدعا، إن أصاب رأيه فهو يحتمل الخطأ، وإن أخطأ فهو يحتمل الصواب، وليس له ولا لغيره رأي فوق النقد والمساءلة؛ لكن له تاريخا وقيمة وأخلاقا وقيما تجعله فوق التجريح الشخصي والإهانة السافلة من أي كان؛ أحرى أن تكون إهانة صادرة عن من يتمترسون خلف أسوار الرئاسة؛ ثم يختبئون خلف الأسماء المستعارة، ثم لا يجدون من تلك الأسماء إلا أسماء من قدر الله عليه ألا يمتدح في حياته كلها إلا طاغية مشكوكا في صحة عقيدته، وسلامة عقله وجوراحه!!.
و"إن البغاث بأرضنا يستنسر"
محفوظ ولد الحنفي