تعتبر ذكرى مناسبة الإستقلال ــ لأي بلد مهما كان ــ ذكرى عزيزة على مواطنيه، يتذكرون من خلالها أمجاده ومراحله التي مر بها، وقطعها أبناءه من أجل الوصول إلى تلك اللحظة الفاصلة بين سلطة المستعمر ــ التي كانت تهيمن عليه وعلى قراراته وكل مقدراته ــ وسلطة البلد وليد الاستقلال.
وبما أن كل بلد يختلف عن الآخر في طبيعة تلك الأمجاد والجهات التي احتضنت مقاومته وغذتها بلبانها، فإن شنقيط (موريتانيا) إذ تتذكر ــ في هذه الذكرى المجيدة الغـــالية ــ رموز أبطالها المقاومين والمؤسسين، منوهة بالدور الذي قاموا به، فإني أرى أنه من الأجدر أن تكون الأولوية لرد الإعتبار والتنويه بالحاضن الأول، والمرجع الأساسي الذي يعود له الفضل ــ بعد الله سبحانه وتعالى ــ في الجهود المضنية التي تصدت للإ فرنجة (الفرنسيين) وأدحر تهم بكل ثقة وصمود... ألا وهي : المحضرة (الجامعة البدوية) الشنقيطية (الموريتانية)، تلك النواة أو الجهة الأولى التي استمد منها المجتمع حصانته الدينية، والتي كانت الرافد الفكري ــ المعول عليه بعد الله ــ لدى أبطال المقاومة... في حضنها : تربى المشايخ وعلمتهم كيف يقاومون... ومن رحمها : خرجت فكرة المقاومة والتصدي بكل بسالة للعدو الظالم الغاشم.
وأعتقد أن الحديث ــ هنا ــ في العلاقة بين المحاضر (الجامعات البدوية) و جهاد المستعمر، ينبغي أن يتركز ــ بشكل أساسي ــ في تبيين النقاط التي تجسدت فيها مقاومة المحاضر (الجامعات البدوية)، وذلك على المستوي الثقافي والسياسي والعسكري... إلخ.
وقبل الحديث عن إبراز هذا الجانب أرى أنه من الأحسن أن نمر ــ ولو بشكل عابر ــ على ذكر بداية نشأة المحاضر (الجامعات البدوية) واشتقاقها وبروزها كمنطلق وحاضن ظل الشناقطة (الموريتانيون) ولازالوا ينهلون من معينه الصافي، أنواع التربية والتكوين بمختلف مراحله وأشكاله.
يعود تاريخ نشأة المحاضر (الجامعات البدوية) في بلاد شنقيط (موريتانيا) لأكثر من ألف عام، وذلك بعد أن انتشر الإسلام بالبلاد في القرن الثاني الهجري، ليبدأ بعد ذلك نزوح بعض القبائل العربية القادمة من خارج القطر الشنقيطي (الموريتاني)، وإحكام سيطرتها ونفوذها في المنطقة، لتتوزع، أي : القبائل ، إلى قبائل : تهتم بالأمور الحربية والسياسية، وأخرى : تهتم بالعلم كسلاح ومرجع وحيد لها، وهذه القبائل هي : التي عرفت وسميت بــاسم "الزوايا" ، وعلى يدها : تشكلت المحاضر (الجامعات البدوية)، وانطلقت كمؤسسات ذات إشعاع علمي وحضاري لا نظير لها في ربوع أقطار العالم الإسلامي أجمع.
ويعود التأسيس الحقيقي للمحـــــــــاضر (الجامعات البدوية) ــ في بلاد شنقيط (موريتانيا) ــ إلى الرباط الجهادي الذي أقامه المعلم الأول والمرابط عبد الله بن ياسين الجزولي، بالجانب الغربي من بلاد شنقيط (موريتانيا) وبالضبط قرب عاصمة البلاد الآن (انواكشوط)، وذلك في مطلع القرن الخامس الهجري (427هـ)، وهو : الرباط الذي انطلقت منه دولة المرابطين، وتأسست ، لتبني ــ بعد ذلك ــ عاصمتها بــــ(مراكش) ثم توسعت، وبسطت سيطرتها ونفوذها وحكمت ما شاء الله أن تحكمه. وظلت المحاضر (الجامعات البدوية) تنتشر وتعطي عطاء حاتميا ــ وذلك في القرون التي تلت قرن النشأة والظهور ــ في أحياء الحواضر العلمية ، كـــــــ "شنقيط" و"تينيكي" و"ولاته"... وغيرهم من المدن الصحراوية الشاسعة المترامية الأطراف، ولهذا السبب ــ الذي أقيم له ذاك الرباط ــ تكون المحاضر (الجامعات البدوية) جاءت وظهرت ــ منذ نشأتها ــ كتوأم للجهاد.
أما من حيث اشتقاق لفظ المحاضر (الجامعات البدوية) ــ التي هي جمع محضرة ــ فقد انقسمت مجمل آراء الباحثين والدارسين ــ حولها ــ إلى ثلاثة أقسام، وهي :
أ ــ أنها : مفعلة من الحظيرة، وعليه فالإشتقاق عائد إلى : طبيعة المساكن التي كان يسكنها الطلاب قديما ويأوون إليها، وهي : عبارة عن بيوت أو مكان يصنع أو يرتب من الحشيش و أغصان الأشجار.
ب ــ أنها : مشتقة من الحضور، أي : حضور الطالب درس الشيخ، لكن أبدلت الضاد ــ فيها ــ ظاء مشالة ، وذلك ناشئ عن فعل التداول المحلي، لذا صار يقال : محظرة ، بدل : محضرة.
ج ــ أنها : من الحظر، بمعنى : المنع، وذلك أنه : يحظر على الطالب بها ــ أي المحضرة ــ القيام بفعل أو قول لأي شيء يخالف شرع الله.
ومهما يكن مصدر الإشتقاق فإن المحاضر (الجامعات البدوية) ظلت عنوانا ــ لدى الشناقطة (الموريتانيين) ــ على التعلم والتربية وقوة الحافظة والأدب الجم الغفير.
وفيما يخص التعريف الاصطلاحي للمحاضر (الجامعات البدوية) ــ الذي بات المصطلح يدل عليه ــ فلعل من أحسن التعريفات وأكثرها دقة وشمولا، هو : التعريف الذي نجده عند الباحث الكبير الخليل النحوي ــ في كتابه : "بلاد شنقيط المنارة والرباط" ــ الذي يقول فيه إنها : "جامعات بدوية شعبية متنقلة تلقينية فردية التعلم طوعية الممارسة".
ولعل هذا التعريف ــ الذي ذكره الباحث ــ يؤكده مضمون أبيات شهيرة من قصيدة فخرية لشيخ المشايخ العلامة المختار بن بونا(ت : 1230هـ) حيث يقول فيها :
ونحــن ركب من الأشراف منتظم ::: أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة ::: بهـــــــــــا : نبين ديــــــــن الله تبيانا
ويختلف نظام المحاضر (الجامعات البدوية) اختلافا جذريا ــ عن المدارس والجامعات العصرية الحديثة ــ إذ تعتمد في التدريس، على شيخ يقوم بالتفرغ لذلك احتسابا لوجه الله، كما أنه لاتخلوا قبيلة ولاحي من الأحياء البدوية من محضرة (جامعة بدوية). ولعل بعض الباحين الكبار كان صادقا، حين رأى أن تجسيد المحاضر (الجامعات البدوية) لنموذج فريد، استطاع التكيف بين حياة البدو الرحل والمحافظة على استمرار التعليم والتعلم معا، هو الذي : "أنتج ثقافة بدوية عــــــــالمة فريدة من نوعها في العالم كله"، وهي : الثقافة التي عرفتها بلاد شنقيط (موريتانيا).
هذا وقد أجمع الباحثون على الدور الكبير الذي قامت به المحاضر (الجامعات البدوية) في البلاد ــ من خلال ما جسدته في كثير من المظاهر، التي كان أهمها : التصدي للمستعمر، والوقوف في وجهه بكل حزم وبسالة ــ وهو ما أولاها عناية فائقة من لدن فئات المجتمع الشنقيطي (الموريتاني)بأجمعه.
وفي هذا الإطار نجد أن دور المحاضر (الجامعات البدوية) ظهر أول مرة، وذلك حينما بدأ ليل الإستعمار يتسلل اتجاه البلاد، مما جعل مشايخ المحاضر (الجامعات البدوية) وروادها يظهرون في مقدمة صفوف المجاهدين المقاومين، وهنا يحسن بنا أن نفتح قوسا، لنعرف بالمقاومة، والتي هي ــ في عمومها ــ : مشتقة من قيام الشخص أو الجماعة دفاعا عن النفس أو المال أو هما معا، فهي إذن : مفاعلة من القيام بمعنى : المدافعة والمنازلة والمصارعة، يقول الشنفرى ــ في مطلع قصيدته المعروفة ــ :
أقــــــيموا بني أمي صــــدور مطيكم ::: فإنــــــي إلى قوم ســــــــــواكم لأميل
ويقول آخر :
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ::: ثم افزعـــــوا قد ينال الأمن من فزعا
وقلــــــــــــــدوا أمـــــركم لله دركــــــــم ::: رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لكن المقاومة التي نقصد هنا، هي : مقاومة المستعمر الذي يأتي قادما من أجل احتلال أرض غيره بدافع تعميرها والرفع من شأنها، وهو : ما يولد انطباعا، ونظرة وهمية توحي بأن الأرض ــ المستهدفة ــ كانت تعيش خرابا ودمارا تحتاج من ينقذها منه، لكن في حقيقة الأمر أن الدافع، والهدف الأول والأخير عند المستعمر، هو : التسلط على شعوب البلدان ــ التي نحى نحوها ــ واحتقارها ونزع السيادة والكرامة والهيبة عنها، إضافة لنهب ثرواتها وخيراتها، وإضفاء مظاهر الهيمنة عليها.
وهذه ــ لاشك ــ أمور كلها كانت السبب في إذكاء روح الجهاد ــ لدى مشايخ المحاضر (الجامعات البدوية) ــ والتصدي للإفرنجة، قبل دخول المستعمر وأثناء الاحتلال.
لقد حاول المستعمر"الافرنج" ــ بكل ما أوتي من قوة ــ طيلة قرون متتالية أن يخترق بلاد شنقيط (موريتانيا) العصية، خاصة من جهتي : الساحل والجنوب، إلا أنه ــ بفضل الله وعونه ــ لم يفلح في العبور إلى النهر صوب الشمال إلا في مطلع القرن العشرين (ق : 20)، وبعد فترة طويلة من سياسة فـــاشلة اتسمت في أغلبها بعمليات الكر والفر، عزم على التقدم لاحتلال البلاد (سنة : 1902) ، وكان الأمراء ــ أنذاك ــ وشيوخ المحاضر (الجامعات البدوية) هم من يتصدون له بكل قوة وبسالة وعزم متين، تجلت فيما بعد نتائجها في الكثير من المراحل.
وحينها انبهر قادة الإحتلال ــ أثناء اجتياحهم للبلاد ــ من قوة الحصانة الدينية التي تطبع المجتمع ، وصلابته في التصدي والصمود أثناء المواجهة، مع أنه لاغرابة في الأمر، ذلك أن قادة المقاومة العسكرية كانوا كلهم خريجي المحاضر (الجامعات البدوية)، كما أن شيوخ المحاضر (الجامعات البدوية)، هم العلماء الذين يمثلون السلطة التشريعية ــ بالبلاد أنذاك ــ إضافة إلى أنهم الجهة الوحيدة المعتمدة في إصدار الفتاوى والقوانين التي هي المرجع الرئيسي، منها : يأخذ المقاومون خططهم ويرسمون مسارهم للحرب ضد العدو. لذا كان يحسب لها المستعمر ألف حساب، ومما يعزز هذا ويؤكده، ماكتبه الحاكم الإفرنجي (الفرنسي) العام في غرب إفريقيا (سنة : 1902)، وذلك في تقرير منه إلى وزير المستعمرات، يتحدث فيه عن مهمة "كبولاني" في "اترارزة"، مبرزا فيه المميزات الثقافية التي كان يتسم بها المجتمع الشنقيطي(الموريتاني)، حيث يقول : "... وجدنا شعبا له ماض من الأمجاد والفتوح لم يغب عن ذاكرته بعد ومؤسسات اجتماعية ــ يعني : المحاضر (الجامعات البدوية) ــ لانستطيع أن نتجاهلها". ولذا غلب تفكير "الإفرنج" وانصب حول الترتيب لخطة كفيلة ــ في نظرهم ــ للهجوم على القلاع الدينية والثقافية، والتي كانت صمام أمان أمامهم، وهي المتمثلة في : المحاضر (الجامعات البدوية)، وأمام هذا التغيير في الخطط، عمد المستعمر إلى الإعلان عن إنشاء مدارس، لتكون مواجهة ثقافية ــ منه ــ تتصدى وتقف في وجه المحاضر (الجامعات البدوية) التي منعته من التغلغل، وأوقفته عند حده. وبذلك يستطيعون حصار بلاد شنقيط (موريتانيا) عن محيطها العربي والإسلامي، كما أنهم سيوقفون الإشعاع المعرفي والحضاري، الذي كانت تمد بها العالم حينها.
وهذا التفكير والسعي العدائي، هو : الذي جاء تأكيده من قبل الحاكم الإفرنجي (الفرنسي) في قوله : "إن المقاومة الإسلامية لنمو نفوذنا عن طريق التعليم الإفرنجي (الفرنسي)، بدت مقاومة صلبة"، ثم يضيف قائلا : "وهكذا انتصب في مواجهتنا عدو قديم وقوي، وهو : تعليم المحاضر، وللتغلب على هذا المنافس القوي، تعين انتهاج سياسة مدرسية حكيمة"، ولعل ملاحظة الحاكم الإفرنجي (الفرنسي) كانت في مكانها، ذلك أنه ــ كما ذكرنا في معرض حديث سابق ــ لاتخلوا قبيلة ــ من قبائل الزوايا أنذاك ــ أوحي إلا وبه محضرة (جامعة بدوية)، وهو : أمر يدعوا للحيرة والإندهاش.
والحقيقة ــ التي لامراء فيها ــ أن المكانة التي تبوأتها المحاضر ــ في المجتمع الشنقيطي (الموريتاني) ــ كانت مكانة مرموقة، ومن ذلك أن الأمراء في عهد التجار الأوروبيين كانوا يتخذون من شيوخ المحاضر كتابا، من أجل تحرير مراسلاتهم، فيطبعونها هم بطابعهم، وهذا من بين أمور أخرى ظهرت أكثر مع مرور الوقت.
وقد تنبه مشايخ المحاضر (الجامعات البدوية) لخطر مدارس الإفرنج، فقاموا بتوجيه نداء لعــــــــامة السكان للإمتناع عن دخول مدارسهم، والبعد عن كل ما يقرب منها، وتجلت هذه المقاومة الثقافية أكثر، في : إصدار الكثير من الفتاوى ــ المتمثلة تارة في الأشعار وأخرى في النثر و الأنظام والأهازيج ــ بتحريم تلك المدارس والبعد عنها، وقد توالت الصيحات المدوية للتعريف بخطر تلك المدارس وخبث النوايا التي يحمل أصحابها.
وهنا أظهر العلماء صوتهم منافحين عن الحق ــ غير خزايا ولانادمين ــ وأبانوا عن مواقفهم الصحيحة الصريحة، قائلين : إن الرضى بالحكم الافرنجي (الفرنسي)، معصية عظيمة، ومنهم : من أصدر الفتاوى بذلك وأنشأ القصائد الطنانة، كما هو الحال مع حريري زمانه العلامة الشيخ محمد العاقب بن مايابى، الذي نظم قصيدة ــ نادرة في بابها ــ حذر فيها من النصارى، وفند وعودهم في توفير الأمن والإستقرار، موجها فيها العتاب لمجتمعه، وذلك خوفا من أن يصدقوا تلك الإدعاءات والأكاذيب التي ظل المستعمر يروج لها، مبينا ــ في المقابل ــ أن كتاب الله وسير السابقين من السلف يشهدان على نكث عهود القوم ووعودهم ونقضهم للمواثيق، معبرا ــ رحمه الله ــ عن ذلك كله بعبارات قوية تحمل شحنات دلالية كثيرة منها :
منــــــــى إلى من في حمى المكبل ::: من "كركل" إلى ذوات العقل
أعـــــــيذكم بالله من فضيحة الد ::: نيا ومن رأيكم المفيــــــــــــــــل
لاتشتـــــــــــــــــــــــروا دنية بدينكم ::: لايرضهــــا غير الدني الأرذل
ترجون أمن الكـــــــــــافرين بعدما ::: نفــــــــــــــــاه نص المحكم المنزل
فنقضـــــــــــــــــــــــــــــوا ميثاقه وأنتم ::: ترجــــــون منهم وفا السمو أل
تالله مــــــــــــــــــــــــــالكافر عهد ولا ::: له ألية إذا مـــــــــــــــــــــا يأتلي
فعلهــــــــــــــــــــم في ما مضى مهيمن ::: وواعـــــــــظ من قلبه لم يغفل
ثم يذكر ــ الشيخ المجاهد ــ بالعواقب الوخيمة للركون للكفرة وتحكيمهم في شؤون المسلمين من تقتيل وتشريد وتعذيب... منتزعا أمثلة من إطاره البدوي وتبسيطا لهذا المجتمع، عله يذكر ويتعظ ويدرك أن الصداقة الكاذبة قناع سرعان ما تتجلى دوافعها وتظهر نتائجها. ضاربا بذلك مثالا لقصة الأسد والثيران لتكون موعظة وذكرى لمن يعقل، منزلا إياها منزلة وعود النصارى، وفي هذا السياق يقول :
ومن يحكم كـــــــــــــــــافرا في دينه ::: لاغرو أن بــــــــــــــــــــــــاء بشر مقتل
بل قصة الأسد مع ثيـــــــــــــــــرانه ::: فيها لهم ذكــــــــــــرى وضــرب مثل
هيهات أن يؤمن كــــــــــــــافر وهل ::: ترجو سخـــال الضـأن أمن الجيأل
وعد النصـــــارى كذب وعدلهم ::: جــــور وميرهم خبـــــــــــيث المأكل
وسلمهم حرب وبذل مـــــــــــــالهم ::: تغلب بالكيــــد والتحيــــــــــــــــــــــل
والسم في جــــــــــــــــوارهم وقربهم ::: ومسلم بنـــــــــــارهم لا يصطـــــــــــــــــــل
لايلدغ المؤمن مرتين فــــــــــــــــــــــــــي ::: جحر حديـــــث سار سير المثـــل
وفي السياق نفسه، نجد صرخة أخرى مدوية في وجه المستعمر البغيض، يدعوا فيها صاحبها ــ وهو : الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا ذاك الشيخ الوجيه ذو المكانة المرموقة في المجتمع ــ الأمة جمعاء، ويحثهم على حمل السلاح والإستعداد للجهاد، وهذه الدعوة ــ تعتبر هي الأخرى ــ أكبر شاهد على مقاومة الشناقطة (الموريتانيين) عموما وشيوخ المحاضر (الجامعات البدوية) خصوصا ورفضهم للمستعمر، حيث يقول بن الشيخ سيديا :
حماة الدين إن الدين صـــــــارا ::: أســــــيرا للصوص وللنصارى
فإن بـــــــــــــــــادرتموه تداركـــــوه ::: وإلا يسبق السيف البـدارا... إلخ
هذا وقد حـــــاول المستعمر العنيد الحاقد بكل الوسائل والإمكانيات ــ المتمثلة تارة في التلويح بالعصا وتارات أخرى بالإغراءات المادية ــ أن يخضع المحاضر (الجامعات البدوية) وطلابها لسلطته، لكنه ــ بفضل الله وحنكة المشايخ ــ باء بالفشل الذريع والحمد لله.
يقول محمد يوسف ــ في صدد حديثه عن بلاد شنقيط (موريتانيا) ــ : "الشيء الرائع في حياة الموريتانيين، أن التأثير الفرنسي ظل تأثيرا محدودا لم يستطع، رغم كل المحاولات، أن يضعف فيهم الروح العربية الإسلامية، فبرهنوا بذلك على مناعة قوية يستحقون من أجلها أعظم الإعجاب والاحترام".
نجد أن ماقاله : مقلد، هو : عين الحقيقة والصواب، ذلك أن المستعمر ــ رغم محاولته الإحتكاك بالمجتمع ــ لم يستطع أن يأثر فيه أحرى أن يتأثر ــ المجتمع ــ به، ولعل إجماع أغلب المشايخ والقبائل والجهات ــ أنذاك ــ على الإمتناع عن دخول المدارس الإفرنجية وإعلان الحرب عليها، يعد دليلا في غاية الوضوح على الرفض القاطع، كما أن الدعوة للجهاد ــ التي نادى بها خيرة المشايخ من أمثال المجاهد الكبير الشيخ ماء العينين، وأبناء مايابى... وغيرهم من فطاحلة العلماء أصحاب النخوة والضمائر الحية ــ كانت تصديا وضربة قوية في وجه المستعمر.
ولم تقتصر مقاومة المحاضر (الجامعات البدوية) ــ ممثلة في شيوخها وطلابها ــ على المقاومة الثقافية والعسكرية فحسب، بل تجاوزت إلى جانب آخر من المقاومة، ألا وهو : الجانب السياسي، مبتكرين في ذلك أنواعا من أساليب النضال، تمثلت في أمور، منها : كتابة المنشورات وإلقائها وتعليقها على الجدران، ومن ذلك ماحدث أوان زيارة لبعثة من المستعمر الظالم، كانت متجهة، نحو : ((أبي تلميت))، تلك المدينة العصية الضاربة في أعماق الأصالة والتاريخ، حيث علقت قصيدة شعرية على أحد أبواب المساجد، دون معرفة صاحبها، ومما جاء في القصيدة المذكورة، مايلي :
فلا أكرم الرحمــــــن ذا الوفد من وفد ::: لقد جاء للإسلام بالحادث الاد
غدا سائرا في الأرض شرقا ومغربا ::: ليطفئ نور الله فسقـــــــــــــا على عهد
ويهدم من ديـــــــــــــــــــن الإله قــواعدا ::: ليصبح بنيــــــــــــان الديانة ذا هد إلخ.
لايخفى ــ من خلال هذا التنوع في أساليب المقاومة في شقيها : الثقافي والسياسي ــ أن المجتمع الشنقيطي (الموريتاني)، وعلى رأسه شيوخ المحاضر (الجامعات البدوية)، قاوم بكل حزم وبسالة المستعمر، ووقف له بالمرصاد في شتى المجالات، علما أن مقاومة شيوخ المحاضر (الجامعات البدوية) لم تقتصر على إصدار الفتاوى ــ كما قد يتوهم البعض ــ وإعلان الجهاد ومقاطعة المدارس الإفرنجية، بل عمت وطــــــــالت الجوانب كلها، بمافيها : الجانب الإقتصادي، حيث قامت بفرض حصار تمثل في الإعلان عن منع بيع للمنتجات المحلية، وخـــــــاصة، منها : الصمغ العربي، الذي احتاج الناس له في صنع النسيج والصيدلة، وكثر التهافت صوبه، واشتد التنافس بوجه خاص ــ عليه ــ بين الهولنديين والانكليز والإفرنجة (الفرنسيين) للتحكم فيه ورغبة ــ منهم ــ في الحصول على أكبر قدر منه، وهذا ما يحدثنا عنه (بن اكتوشن) من خلال مقطوعة يقول فيها :
لاتعينوا بالعلك حزب النصارى ::: أتعـــــــــــــــــــــــــينون آثما كفارا ؟
فاقطعــــــــــوا عن الشراء حذارا ::: أن يصروا على الأذى إصرارا
فإذا ما أعنتموهم أســـــــــــــــاؤوا ::: وأصروا واستكبروا استكبار.
وبهذا تكون مقاومة المحاضر (الجامعات البدوية)، أكبر مقاومة عرفتها البلاد السائبة، وهي : الجهة الأولى التي يعود لها الفضل ــ بعد الله سبحانه وتعالى ــ في دحر العدو وإيقاع الهزيمة به.
لكن هذه الجهة التي قامت بهذا الدور ــ لازالت ولحد الساعة ــ لم تجد من يلتفت إليها ويرد لها الإعتبار... ومعلوم أن ذكرى الإستقلال ــ التي نعيشها هذه الأيام جميعا بكل فرح وسرور، سواء منا من كان هنا، خارج ربوع الوطن أو هناك داخله ــ هي الذكرى الوحيدة التي يتذكر فيها الشعب، هذا النوع من المحطات، ومن أنقذهم ــ من شر كان لامحالة واقعا عليهم ــ وأوصلهم إلى ماهم عليه الآن، تاركا آثاره مجسدا لها على أرض الواقع، ليعلمها القاصي والداني، ويستوي في قراءتها القارئ والأمي معا.
وإذا ما استثنينا مؤسسة : "المعهد العالي للدراسات والبحوث"، الذي أنشأته الدولة في بداية الثمانينات من القرن الماضي، بدعم من الملكة العربية السعودية، دعما ومساعدة ، منها، أي : الدولة لخريجي المحاضر (الجامعات البدوية)، فأصبحت تعطي لمن تخرج منه بعد أربع سنوات (4)، شهادة تعـــــــــــــادل الشهادة الجامعية، علما أن المعهد نفسه كان ــ في بداية أمره ــ يحتضن كلية الآداب، التي تتبع الآن لجامعة انواكشوط الفتية.
وأصبحت هذه الشهادة تتيح ــ لطلاب المحاضر (الجامعات البدوية) دخول سلك القضاء والمحاماة، وغيرهما من الوظائف الأخرى، إضافة لإنشاء إدارة للمحاضر (الجامعات البدوية) والتعليم الأصلي، تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ومهمتها الربط ــ بشكل مباشر ــ بين الدولة والمؤسسات المحضرية، تقدم من خلالها ــ حسب القائمين عليها ــ دعما ماديا ومعنويا، وإن كان البعض يرى أن هذه الإدارة هي ما يسمى بالكبريت الأحمر، لاغير.
فباستثناء مؤسسة المعهد العالي وإدارة المحاضر هذه ــ كما أسلفنا ــ فإن كل تلك الأنظمة المتعاقبة ــ على الدولة ــ لم تكلف نفسها أن تقدم أي لفتة ــ ولو رمزية ــ لهذه القلاع الحصينة المسماة بــــــ المحاضر (الجامعات البدوية)، رغم ماجلبت وتجلب لها من أموال كثيرة، وأنها : هي التي حملت راية الجهاد ورفعت اسم البلاد ونشرت سمعته من خلال مخافظتها على نشر التعاليم الإسلامية السمحة، وبث العلم في صدور الرجال، وذلك في العالمين العربي والإسلامي، بل أصبح كل من ينتسب لشنقيط (موريتانيا)، تجد الكل ينظر له نظرة خـــاصة، ويكون مقدما في المحافل، وعلى رأس قائمة الوفود من دبلوماسيين وقضاة ومفتين... يعلوا المنابر مرفوع الهامة... إلى غير ذلك من المميزات والخصائص التي أصبح ساكنة بلاد شنقيط (موريتانيا) يتميزون بها.
وأرى أن الأمثلة ــ على ما قلناه ــ أكثر من أن تحصى، ففي المشرق مثلا ــ وأرض الحجاز (السعودية) تحديدا ــ : نجد الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي، المقدم المبجل لدى الأمراء والساسة ومشايخ العلم، أحرى الطلاب والعامة، والحال نفسه ــ في الإمارات العربية المتحدة ــ مع الشيخ محمد عبد الله بن الصديق رحمهما الله ووالدينا ومشايخنا وموتى المسلمين أجمعين.
وفي مصر ــ أرض الكنانة ــ نجد الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي، كل مساره كان فخرا واعتزازا.
وفي المغرب ــ هنا ــ نجد الشيخ البيضاوي، وغيره في مقدمة المشايخ المحبوبين وأصحاب المكانة المرموقة لدى السلاطين والأمراء والملوك على حد السواء... وقس على مالم يقل.
خلاصة الأمر أن المحاضر (الجامعات البدوية)، كانت ولازالت قناعا حصينة استطاعت أن تكون في مقدمة من تصدى ــ بكل ثقة وبسالة ــ للمستعمر، كما حصنت المجتمع الشنقيطي بالتعاليم الإسلامية السمحة، التي مكنته من معرفة الخبيث من الطيب، وجعلته يقف ــ بكل فئاته وأعراقه ــ متلاحما صفا واحدا ضد العدو.
بناء على هذا، فإن ذكرى الاستقلال ــ غالبا ماتكون ــ فرصة تتيح لنا تذكر الماضي، والتنويه بمن قام فيه بدور يستحق أن يشاد به، كما هو الحال مع المحاضر (الجامعات البدوية)، والتي تستحق على كل مواطن ينتسب لبلاد شنقيط (موريتانيا)، أن ينوه بها ويشيد بالأدوار التي قامت بها في أحلك الظروف التي مرت بها البلاد.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.