القارة الإفريقية ومعها كل الشعوب المضطهدة والمستعمرة والمستعبدة تفتقد زعيمها التاريخي ورمز نضالها المرير ضد العنصرية والظلم: نيلسون روليهلاهلا مانديلا ، مؤسس دولة العدل والمساواة والحرية ،لكن جانبا في شخصية الرجل ظل مغيبا عن قصد ولم يبرزه الإعلام
السلطوي إلا قليلا ومع ذلك فهو يمثل أهم منجزات القائد الإفريقي الرمز الذي أنتقل إلي ربه بهدوء ودون صخب بعيدا عن السلطة والنفوذ والأضواء، فما طبيعة هذا البعد وما أهميته بالنسبة للقارة ؟ ولماذا لا يجري التركيز عليه في إعلامنا الإفريقي والعربي؟
جنوب إفريقيا دولة وشعبا عانت من الإستعمار الإستيطاني في واحدة من أبشع فضائح الغرب الإستعماري خلال حملته الصليبية وهجمته الشرسة علي مابات يعرف بالعالم الثالث .فكانت دولة جنوب إفريقيا والجزائر في مقدمة الإستهداف الأجنبي الذي لم يسع لنهب الخيرات وإخضاع الدول لنفوذه ونشر ثقافته وإنما خطط لإستلاب الأرض من أهلها وإبادتهم واستغلالهم بأبشع الممارسات وقد سجل الشعبان الجزائري والجنوب افريقي أروع البطولات في ملحمة المقاومة والجهاد والتضحية وقد كان لجبهة التحرير الجزائرية وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي النصيب الأوفر وخرجت تلك الهيئات السياسية أجيالا من القادة والرموز التاريخية الذين سخروا إمكانياتهم الذاتية وقدراتهم المعنوية لخدمة الأهداف النبيلة لشعوبهم وأعطوا القدوة والمثال الحسن علي السلوك الواعي والشخصية الوطنية وغرسوا في ذاكرة الشعوب نماذج للعطاء والقيادة الفذة والترفع والسمو عن الرذائل والممارسات المنحطة و الإنشغال بالمصالح الشخصية والعائلية الفئوية الضيقة.
وعندما حانت لحظة جني الثمار والإستفادة من المكتسبات والتمتع بالأموال والمقدرات والنفوذ وغيرها من مفردات عصر الإنحطاط والتردي الذي شهدته بلداننا الإفريقية علي يد أجيال من القادة "المناديل"(جمع منديل هو مايوضع علي الأنف لإلتقاط مخلفات الزكام أو الأوبئة والأمراض وليس طبعا نسبة إلي مانديلا الرمز).
إن الجوانب المضيئة في شخصية مانديلا متعددة ويجري التركيز في الإعلام السلطوي علي نضال الرجل ضد سياسة الميز العنصري وقبوله الآخر والقدرة علي الصفح والمسامحة وطي صفحة الماضي المؤلمة من أجل السلام والوحدة والتنمية والرقي وكلها أمور هامة ولكن الأهم في المرحلة التالية لتحرر القارة الإفريقية من الإستعمار المباشر هو تسير الدول الناشئة والضعيفة والنامية وممارسة السلطة والتحكم في نموها وازدهارها وبناء ديمقراطياتها .
هنا تبرز أهمية البعد السلطوي والوعي الديمقراطي في شخصية مانديلا .
اعتقد أنه لم يوجد في قارتنا زعيم مكث في السجن 27 عاما وتعرض لكل أشكال التعذيب والقمع والتضيق وعندما تحققت علي يديه أسمي أماني شعبه في التحرر من الهيمنة والإستبداد وتحكم العنصرين وبعد أن دخل الرجل بقوة قلوب الملايين وأصبح رمزا وقائدا للمسيرة في مرحلة طابعها الإحتفال بالإنجازات والإستمتاع بالحكم والعيش الكريم في هذه اللحظة بالذات يهجر الرجل الرمز السلطة مستنكفا عنها معلما ومرسخا لأهم مبادئ الديمقراطية وهو التناوب السلمي علي السلطة.
لم يوجد قائد بمستوي رمزية مانديلا يزهد في السلطة ويسلمها للجيل الجديد وفي مشهد تاريخي يحقق فيه تجديد الطبقة السياسية " فعلا لاقولا" . ثم يموت الرجل وهو منزو علي فراشه وفي منزله ككل مواطن عادي جدا.....لا يجري التركيز علي هذا البعد في شخصية الرجل لأن أغلب دولنا تمنح الرمزية والقيادة والتمجيد والتبجيل لكل إنقلابي أستطاع أن يغدر برئيسه ويتحكم في شعبه بالقوة العسكرية ويتربع علي عرش المجد ثم لا يغادره إلا من خلال القوة أوالموت .
يتسابق المؤيدون للحكام الأفارقة اليوم للتمسك ب "الزعيم" إلي الأبد كرمز وكقائد لايمكن أن يوجد مثله بل إننا لانتصور مشهدا يمكن أن يغيب فيه الإنقلابي عن حكمنا واستعبادنا وتسخيرنا لرغباته ونزواته وتصرفاته !
قال أحدهم لرئيس إنقلابي سابق في بلادنا : سنقاضيك إذا لم تترشح للإنتخابات !
وقال له آخر: لقد كنت في حزن شديد علي مستقبل البلاد حتي رأيت إبنكم (.....)!
وتسمعون الآن علي قناة الحاكم التلفزية وإذاعته وحتي تفزيوناته التابعة: أشخاص يدعون الإتقلابي الجديد أو"الرمز المنديل" للترشح للرآسيات القادمة وأن الشعب يريد ذلك والإنجازات تفرض ذلك والحكمة تقتضي ذلك والشرع يوجب ذلك ووو............................
إن الحكام الأفارقة الذين أطلوا علينا بعد أن تحررت البلاد ومات القادة والرموز في ملحمة البطولة الفداء ، ألبسهم المتسولون والمرتزقة ثياب الرموز والقادة وخلعوا عليهم ألقابهم وخدعوا الناس بهم ونسي إعلامنا أن يذكر بالحقائق الدامغة عن ممارسة أولئك القادة للنفوذ وأسلوبهم في التعاطي مع السلطة والديمقرايطة.
إن الذين ألتقطوا اليوم- في غفلة من الوعي- منديل مانديلا وعبد القادر الجزائري وسيد ولد ملاي الزين لم يدركوا أن التاريخ سيفرق بين المنديل وصاحبه بين الزعامة ومن يدعيها بين القيادة والتحكم بين الرئيس وشبهه بين الأشياء وظلها وبين الرمز والصنم !.