من البرنامج الانتخابي إلى المشروع الوطني / سيدي محمد ولد ابه

alt" المشكلة أنه لم يعد لنا وطن نضحي من أجله." هكذا رد الجنرال سيمون بوليفار على الثلة من قيادة أركانه الذين بقوا حوله، حين أخبروه أن البوليفيين طالبوهم بالرحيل لأنهم ليسوا مواطنين. قضى الجنرال حياته على صهوة جواده يقاتل الإسبان حتى حرر أمريكا الجنوبية، فأصبح بلا وطن، حين أصبح الوطن متاهة يهيم فيها سياسيون بلا بوصلة ولا خرائط...

استُثمر الجنرال، صاحب المشروع الوطني، الذي اندفع يضحي بنفسه من أجل فكرة آمن بها. ذهب المستثمرون مع الريح وبقي الجنرال في التاريخ لأن مشروعه تجاوز صغائر الفعل السياسي اليومي إلى قيمة أسمى... تحرير بلاده. قدرُ الجنرال بوليفار هو قدر كل رجال الدولة الذين تمثل ممارستهم للسياسة اليومية تنظيرا لرؤية وطنية تبني عليها الأجيال القادمة من السياسيين فعلها ورؤيتها. وحدهم رجال الدولة يحملون روح الأمة لأن السلطة لم تكن هدفهم وإنما هي وسيلة لتنفيذ رؤية تتجاوز بطبيعتها نطاق فعلهم السياسي إلى آفاق المستقبل الذي يستشرفونه للأجيال القادمة، وهم بذلك زعماء أمة، وبناة وطن يستخدمون محترفي السياسة لتنفيذ رؤاهم...

يتطلب ذلك بناء منظومة سياسية عقائدية تعطي للمشروع الوطني بنيته التفصيلية، وشحنته الأيديولوجية القادرة على جعل الشعب، بمختلف مكوناته، يتبنى المشروع الوطني ويتحمل عبء إنجازه. لا غنى عن هذا البعد الأيديولوجي لإعطاء الانجازات المادية قيمتها الرمزية بصفتها تجسيدا لرؤى المشروع الوطني الذي يتحقق مرحليا بفعل تلك الانجازات.

لكن المشروع الوطني ينبغي أن يتجاوز بمراحل المشروع الانتخابي، لأن المشروع الانتخابي محدود في الزمان والمكان، بينما المشروع الوطني توجه عام يحدد ثوابت الأمة والصلة بين ماضيها وحاضرها، ومستقبلها المنشود، وليس المشروع الانتخابي سوى جزء يسير منه يخطط لإنجازه في ميادين معينة و ضمن فترة زمنية محددة.

لكن مشكلة الخطاب السياسي اليوم، في بلدان العالم الثالث التي تبنت نظم الديمقراطية الليبرالية، هي أنه لا يتجاوز المشروع الانتخابي الذي تعاد صياغته عند كل موعد انتخابي، دون أن تكون هناك رؤية أيديولوجية تؤطره. فقد استقر في أذهان النخب الحاكمة والمثقفة أن الأيديولوجيا أفيون الشعوب، وأن الحقل السياسي تنظمه يد خفية شبيهة بتلك التي تنظم السوق.. زعموا!

تظهر الانتخابات التشريعية والبلدية، التي ظهرت نتائجها منذ أيام غياب المشروع الوطني عن الخطاب السياسي الذي عبء الجماهير للتصويت على خصوصيات محلية، أو عقائد مستوردة. فقد عجز محترفو السياسة عن تقديم مشروع وطني يصهر الخصوصيات في بوتقة الوطن جاعلا منها ثراء يغني المشروع بروافد تغذيه ليظل ملهما لأجيال الأمة... صاغ محترفو السياسة خطابهم ليكون صالحا لدورة انتخابية واحدة فلجؤوا إلى الخصوصيات يستنفرونها لتحقيق مكاسب آنية على حساب المشروع الوطني...

كانت القبيلة أكثر تلك الخصوصيات استثمارا في الانتخابات، وهي خصوصية لا يمكن بناء مشروع وطني إلا بتجاوزها بصفتها مؤطرا للفعل السياسي. ذلك أن الأحزاب السياسية هي الجهاز الذي ينبغي أن يمارس الفعل السياسي من خلاله، وليست القبيلة، في أحسن أحوالها، سوى هيأة من هيئات المجتمع المدني. لكن الذي حدث عكس ذلك تماما؛ فقد نافست القبيلة الأحزاب السياسية فهددت كيانها أحيانا. وضع محترفو السياسة ما عدوه مصالح قبائلهم فوق التزامهم الحزبي لأنهم تصوروا الانتماء الحزبي تجمع أصحاب مصالح ينبغي الخروج منه إذا تعارض مع مصالح القبيلة حيث الانتماء أكثر تجذرا واستمرارا؛ فالأحزاب تنشأ وتحل، بينما تظل القبائل مطردة.

يعود هذا الالتباس إلى عجز الأحزاب عن تقديم مشروع وطني يرى فيه الأفراد غنى أكثر مما تقدمه القبيلة، ولا يتعارض مع الإنتماء الاجتماعي إليها لأن مجال فعله يتجاوزها. فمثلما رضيت القبائل بالتجاور ضمن الحيز الجغرافي للدولة دون أن تشعر أي منها أن وجود الأخرى يشكل تهديدا لكيانها ينبغي أن يكون أبناء القبائل قادرين على الانصهار في مشروع وطني يتسامى على الانتماء الضيق دون أن ينافسه. غياب هذا المشروع الوطني جعل منتسبي الأحزاب ينزحون منها إلى قبائلهم، أو أحزاب أخرى رأوا فيها القدرة على تحقيق آمالهم الانتخابية...وهذه قضية منطقية جدا. فمحترفو السياسة لا يرون في الأحزاب سوى آلة انتخابية يستخدمونها للوصول إلى الوظائف الانتخابية للتمتع بمزاياها، وحين لا يكون الحزب قادرا على تحقيق هذا الهدف يسقط مبرر الانتماء إليه.

هذا الفعل المشين شجعته بعض الأحزاب السياسية، حين فتحت أبوابها للوائح سياسية نزحت إليها من أحزاب أخرى بهدف الترشح تحت يافطتها، وبذلك لعبت دور المحلل السياسي.. فقد عادت بعض تلك اللوائح إلى أحضان حزبها الأصلي قبل انقضاء العدة...

انحدر محترفو السياسة من الخصوصيات القبلية إلى الخصوصيات العائلية والفردية. فأي مشروع وطني يمكن أن يبلوره حزب سياسي يدخل البرلمان برئيس الحزب وزوجته! وأي مصداقية للوائح تستمد شرعيتها من وراء الحدود اعتمادا على أفراد، أو تنظيمات دولية!

في كل هذه الحالات يغيب المشروع الوطني، ليختفي الوطن ذاته خلف خصوصيات تجزؤه فتهدد كيانه. لكن غياب المشروع الوطني يكون أشد وطأة حين يكون الحزب الحاكم عاجزا، وأحزاب الأغلبية الرئاسية، عن بلورته فتتصارع حول رصيد الرئيس من الشعبية تنفق منه بدل أن تضيف إليه!

فما حققته أحزاب الأغلبية الرئاسية لا ينسب إليها إلا تجاوزا فهو حصاد شعبية الرئيس، فلم تقدم تلك الأحزاب للناخب أكثر من تبنيها للبرنامج السياسي الرئاسي مستثمرة إنجازاته لصالح دعايتها، وبذلك يعكس محترفو السياسة الأدوار لصالحهم... فبدل صياغة مشروع وطني يستلهم البرنامج السياسي للرئيس فيعطيه بعدا وطنيا يحشد المواطنين حوله، استغل محترفو السياسة البرنامج وإنجازاته لتحقيق أهدافهم الانتخابية الضيقة، وبذلك أصبحوا عبأ على الرئيس بدل أن يكونوا عونا له...

مهمة الأحزاب السياسية عبر التاريخ هي صياغة مشروع وطني يؤطر الممارسة السياسية للرفع من شأن الوطن. وحين تحظى الأحزاب السياسية بقيادة وطنية كارزمية فإن تعاملها معها سيحدد مستقبل المشروع الوطني. فإذا ضمت قيادة الحزب شخصيات وطنية قادرة على بلورة مشروع فكري يوظف شعبية الزعيم لصهر الخصوصيات في مشروع وطني يتجاوز المواعيد الانتخابية، والمصالح الشخصية والفئوية استطاع الوطن الرقي على بصيرة لتصبح الانجازات المادية تحقيقا لأفكار سامية.

أما حين يكتفي محترفو السياسة باستغلال شعبية الزعيم لتحقيق مصالحهم الخاصة فإن تلك الشعبية لا تلبث في تناقص لسوء استغلالها، ويظل تعلق الشعب بالزعيم عاطفيا لإدراكهم حسن نواياه، وإن كان المحيطون به قد عجزوا عن تحقيق مقاصده. وبذلك ينهار مشروعه الاجتماعي بمجرد خروجه من دائرة الفعل السياسي المباشر، وتنهار التشكيلات السياسية التي شيدت حول شخصه دون أن تستطيع التسامي بأفكاره، وصياغتها في مشروع وطني قادر على الاستمرار بعده...

لعل خير مثال على الحالة الأولى هو المشروع السياسي الديغولي الذي تبنته نخب سياسية جعلت منه مشروعا وطنيا يقدم رؤية سياسية متكاملة للأمة الفرنسية فكان قادرا على البقاء بعد ديغول الذي جعله المشروع الوطني شخصية وطنية، ورجل دولة يسمو على محترفي السياسة، ولا يقيّم مشروعه السياسي بإنجازات مادية مرحلية لأنه لا يزال قادرا على تحقيق المزيد من الانجازات.

وخير مثال على الحالة الثانية هو المشروع الناصري الذي استغله محترفو السياسة ضيقو الأفق فجعلوه أداة لتحقيق مكاسب سياسية آنية، فانهار بمجرد غياب الكارزما التي شيد حولها، وتفكك الحزب السياسي الذي اعتمد على شعبية عبد الناصر. لكن ذكرى الرجل ظلت حية في قلوب أولئك الذين رأوا في رؤيته، و فعله السياسي، إمكانية مشروع وطني عجزت النخبة السياسية التي أحاطت به عن بلورته فكريا ليصبح منظومة فكرية قادرة على الاستمرار بعد غياب الكارزما المؤسسة، كما حدث مع المشروع الديغولي. لم يبق من المشروع الناصري سوى إنجازات مادية، مثل السد العالي، وتأميم قناة السويس، والإصلاح الزراعي... وبذلك أصبح من التاريخ.

لقد أظهرت اللائحة الوطنية ضعف التمثيل الوطني للأحزاب السياسية التي استثمرت في الخصوصيات، والمحليات على حساب البعد الوطني، فبلغت أعلى نسبة حققها حزب سياسي 23.88% في لائحة النساء، و 21.34% في اللائحة المختلطة. تفسر هذه النسب المتدنية، ضمن عوامل أخرى، بأن الأحزاب رشحت على اللائحة الوطنية كوادرها الذين لا يتمتعون بأي شعبية محلية، عاكسة بذلك الهدف من اللائحة الوطنية المتمثل في إعطاء البرلمان بعدا وطنيا يتجاوز الدوائر الضيقة إلى أن يصبح الوطن دائرة انتخابية ينبغي أن تترشح لها الشخصيات الوطنية التي تجاوزت شعبيتها، وحضورها، وفعلها، الخصوصيات المحلية لتصبح شخصيات وطنية تحمل مشروعا وطنيا تنتمي إليه مكونات الوطن عموما...

لكن محترفي السياسة قللوا من شأن اللائحة الوطنية فجعلوها تكملة يحصل الحزب فيها على مقاعد إضافية دون بذل جهد يذكر، فالحملة تركز على المحليات، وتترك المرشحين على اللائحة الوطنية يتدبرون أمرهم! بل ذهبت بعض الأحزاب أبعد من ذلك فأطرت مناصريها للتصويت في المحليات، وإهمال اللائحة الوطنية!

جرت الانتخابات في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر، شهر الاستقلال، شهر الوطن، لكنها غيبت البعد الوطني، فكانت.. انتخابات برامج انتخابية، بلا مشروع وطني...

 

[email protected]

8. ديسمبر 2013 - 16:21

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا