مانديلا .. النكسة والتنكيسات!! / محمد سالم بن دودو

altعمت موجة من الحزن والأسى أنحاء عديدة من العالم بعد موت مناضل جنوب إفريقيا الشهير؛ نيلسون مانديلا.. لقد كانت وفاته فاجعة حقيقية لقلوب كل المستضعفين والمظلومين في العالم، الذين رأوا فيه نموذجا للتضحية من أجل المبدإ والهدف.. وأسطورة للكفاح من أجل العدل والكرامة!!..

ولا أنكر أنني كنت من بين أولئك الذين حزنوا لموته!! بل حزنت لموته مرتين، وحزنت إثر موته مرات عدة !!..

حزنت لموته أوَّلاً كما حزن كل المناضلين عن حقوقهم المستلبة في أوطانهم، من قبل عصابات يرون أنفسهم شعب الله المختار؛ للون بشرتهم، أو لتلون خيالات أنفسهم المريضة!!.. وكما حزن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته على هزيمة الدولة الرومية النصرانية أمام الدولة الفارسية المجوسية، حتى عزاهم الله جل جلاله بقرآن كريم: «الۤـمۤ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ فِىۤ أَدْنَى ٱلارْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ».

وحزنت لموته ثانيا؛ شفقة عليه، وضنا بأمثاله ممن أجرى الله على أيديهم منافع بعض من خلقه من مصير محتوم، لن يفلت منه من مات على غير الإسلام!.. وقد دخل مانديلا في طفولته في النصرانية مكرها، لأن تعليم نظام الفصل للأفارقة حينها كان في رعاية مدارس إرساليات التنصير، التي تفرض على من يريد تعليم ابنه أن يقبل بتنصره.

لذلك كان مانديلا نصرانيا بالاسم فقط، وقد قال عن نفسه في كتابه؛ "مشوار طويل نحو الحرية" إنه: «يؤمن بالخالق، ولكنه لا يعتنق دينا بعينه!!».

هكذا حزنت مرتين لنكسة موته، وأما أحزاني وحسراتي المتتالية إثر موته، فألخصها في ظاهرة التنكيسات التي أعقبت ذلك.. والتي شملت تنكيس العقائد، وتنكيس الأولويات، وتنكيس الأعلام، وتنكيس الحقائق..

وأقصد بتنكيس العقائد تجاوز كثير من كتابنا في أنحاء متفرقة من العالم (ومن بينها بلادنا) لضوابط العقيدة والشريعة في حرمة الترحم على من مات كافرا مهما كانت حسناته للدين أو للدنيا.. دفاعا عن المظلومين، أو نصرة للمضطهدين.. وهل شهد التاريخ في هذه القيم مثلا أعلى من نضال أبي طالب عم رسول الله صلى الله وسلم عن بيضة الإسلام المظلومة المضطهدة في زمنه؟! ألم يدخل من أجلهم في حصار الشعب ثلاث سنين ذاق خلالها مرارة العزلة والحرمان من كل شيء ؟! ألم يسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام موته بعام الحزن ؟! ثم ألم يمنعه الله جل وعلا بقرآن كريم يتلى إلى اليوم من الترحم عليه ؟! أما  قرأ هؤلاء قول الله جل وعلا: «مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤا أُوْلِى قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ الجحيم».

  نعم كان مانديلا ميالا إلى الإسلام، وكثيرا ما صرح بعبارات منصفة تجاهه، وله محاضرة جميلة عن الإسلام وقيمه.. وقد اطلع عليه من خلال رفاق دربه المناضلين، من أبناء مسلمي جنوب إفريقيا.. كما قرأ عنه كثيرا أيام سجنه..

وخلال زيارته لبلاد الحرمين عام 1994م، قابل هناك مواطنه الداعية الشهير أحمد ديدات، الذي أهداه نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم، ودعاه للإسلام بشكل مباشر، وفي جلسة خاصة مطولة ناقشه فيها لأكثر من ساعة، فاعتذر!!.

وفي عام 1997م، حضر مانديلا احتفال مسلمي بلاده بعيد الأضحى، وأجلسوه إلى جوار أصغر طفلة تحفظ القرآن الكريم، وبكى أمام الجماهير الحاضرة من تلاوتها!!

وبعدها قال الشيخ ديدات للمسلمين، وهو في فراش مرضه: «إن الله سيسألهم لماذا بخلوا بدعوته، ولم يصارحوا بها مانديلا ؟! لو أحبوه لأحبوا له الدين الذي ارتضاه الله!!».

هذا التنكيس في العقائد أحزنني، وأحزنني تنكيس الأولويات حين أعلنت جامعة الدول العربية الحداد على نيلسون مانديلا!! وهي التي جمعت بين دفتيها المترهلتين أكابر مجرمي الاستكبار، وألد أعداء الحرية والمساواة اللتين سخر مانديلا لأجلهما حياته!!.. أعلنت الحداد عليه، وهي تدوس في اللحظة ذاتها شرف الملايين من أبناء الشام!! وتسحق بتواطئها أحيانا، وبصمتها المخجل أحيانا.. شيوخه ونساءه وأطفاله!!.. وتنعي وسائل إعلامها الببغاوية يوميا العشرات أو الميئات منهم!!.. دون أن تحرك ساكنا لنصرتهم.. أو تجود عليهم ولو بحداد!.. وقد قضى منهم أزيد من ثلاثمائة ألف شهيد!!..

كذلك.. أحزنني تنكيس أعلامنا العربية، لا ضنا بهذا التعبير الإنساني الحضاري.. على قيم النضال والعدل والمساواة التي يرمز لها الراحل مانديلا، فهي تستحق ذلك.. ولكني تمنيت لو كان تنكيسها لقناعة منا بتلك القيم، لا مجرد استجابة آلية "للريموت كونترول" الذي أصبح يحرك أعلامنا وإعلامنا في وضح النهار، وبدون أي ستار!!

وأخيرا، وليس آخرا.. أحزنني وحز في نفسي.. جهل أبناء الأمة الإسلامية، وخاصة مثقفيها وإعلامييها لحقيقة النضال الجنوب إفريقي.. وأن تضحيات المسلمين فيه سبقت بكثير ميلاد نيلسون مانديلا، بشهادته هو ذاته في كتابه "مشوار طويل نحو الحرية"، حيث أقر: «بأن مسلمي جنوب إفريقيا وكيب تاون بالذات، سبقوه للنضال ضد العنصرية!!»، وقد سجل التاريخ عشرات الأسماء من مسلمي جنوب إفريقيا كانوا من قادة النضال ضد الفصل العنصري؛ سجنوا أو استشهدوا رغم أن إجمالي عدد المسلمين في هذا البلد يقل عن ١٪ من ساكنته. نعم يذكر لمانديلا صموده في السجن ٢٧ عاما، لكن الإمام الشيخ عبدالله هارون من كيب تاون، سبقه إلى السجن في ذات القضية، ومكث فيه ٣٠ سنة، وتوفي فيه شهيدا مناضلا ضد العنصرية!!.. لذلك حرص نيلسون مانديلا على زيارة قبره فور خروجه من السجن!!.. أما نحن فنسيناه وذكرنا مانديلا؛ لأن الغرب ذكر هذا، وأهمل ذاك!!..

لم تعان فئة من العنصرية والظلم في جنوب إفريقيا أكثر من مسلمي كيب تاون، الذين جلبهم الهولنديون أسرى من أرخبيل الملايو، وساموهم العذاب.. ونصَّروهم بالإكراه.. واستعبدوهم لقرنين.

كانت كيب تاون قبل أكثر من ٣٠٠ عام -كما يقول الأستاذ عصام مدير، تلميذ الشيخ ديدات- جوانتانمو ومنفى المجاهدين وعلماء ودعاة مسلمي الملايو!!..  كان الهولندي في مستعمرته الجديدة في جنوب إفريقيا يحرق أي مسلم في الأفران إذا وجد معه ورقة من مصحف أو أي كتابة بالعربية!!

كتم مسلمو كيب تاون إسلامهم وتظاهروا بالتنصر.. وحفروا الخنادق ليعلموا أولادهم القرآن.. وكتبوا نسخة من المصحف من صدور حفاظهم توجد اليوم بمتحف كيب تاون.. لذلك أشاد الشيخ ديدات –رحمه الله- بصمود مسلمي كيب تاون وروحهم الدينية ونضالهم العجيب على مدى ٣٠٠ سنة.

لا أجد أبلغ لختام هذه التداعيات المشوشة من تغريدة لعصام مدير، الذي استقيت منه معظم مادة هذا المقال، يقول فيها: «نعم لن أترحم على مانديلا، وإن أحزنني أن يموت على غير دين الإسلام!!.. ولو مرت بي جنازته لوقفت لها احتراما».

 

بقلم/ محمد سالم بن دودو

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

9. ديسمبر 2013 - 9:14

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا