في كلام سابق تحت عنوان "الانتخابات بين المشاركة والمقاطعة" قدمت ما سمحت لي به قدراتي الاستشرافية المتواضعة لمآلات تلك الانتخابات التي كانت حينها تدوح بين التنظيم والتأجيل لعدة عوامل، منها عدم وصول التقييد السكاني وإعداد وسحب بطاقات التعريف آنذاك
إلى مستوى يمكن من إعداد لائحة انتخابية، وكذا الجهود المبذولة من أكثر من طرف، لضمان مشاركة كافة الأطياف السياسية وخاصة منسقية المعارضة التي تقدمت بشروط لمشاركتها في الانتخابات، شروط استخدمتها كجسر للعبور من ضفة " لا بديل عن رحيل النظام " إلى ضفة القبول بخوض انتخابات في وجوده وتحت قيادته، لترحيلة بصناديق الاقتراع كما صرحت.
وأتذكر أنني شبهت تلك الشروط حينها، بمظلة للهبوط الاضطراري من قمم اللاعقلانية والأحلام، إلى سفوح الواقعية والمتاح، بارتطام أخف ورضوض سياسية أقل.. وذلك لإدراك هذه الأحزاب لخطورة قرار المقاطعة على مستقبلها السياسي وحضورها الساحاتي.. لكن يبدو أن ذلك الهبوط إلى سفوح الواقعية، لم يتم بنجاح بالنسبة لبعض قادة أحزاب المنسقية الرئيسية، إذ تصارعت في داخل كل واحد منهم ابراكماتيته ومواقفه الشخصية من النظام، لتنتصر ابراكماتية أحد هذه الأحزاب ويعلن مشاركته، ناكرا أن يكون الاجماع قد انعقد أصلا على قرار المقاطعة. غير واثقين مما عبر عنه من حرص على مشاركة رفاقه، إذ سيظهر فيما بعد أن مقاطعتهم خدمته كثيرا ومن حيث كان يُبيت ويخطط..
وذلك ما توقعته من أنه كلما أصرت السلطات على إجراء الانتخابات، كلما ضاق حيز المناورة، وعندها سيعمد كل حزب إلى مراجعة حساباته بمعزل عن بقية الأحزاب، مدفوعا بهاجس خطر المقاطعة على مستقبله من جهة، ومن جهة أخرى، تميز هذه الانتخابات عن سابقاتها بما أضافه الحوار الوطني من تحسينات وضمانات، ظهر أثرها جليا في نتائج الشوط الأول من الانتخابات، وظهر أن من بخسوا تلك التحسينات، إنما جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، عندما قيموها لا على أساس جوهريتها وما ستضيفه، وإنما على أساس مواقفهم ممن صاغوها وأقروها!
حزب أخر من مكونات المنسقية ذهب حتى ثلاثة أرباع الطريق، وكان قاب قوسين أو أدنى من إعلان المشاركة، لكن يبدو أن المواقف الشخصية- لقادته أساسا- من رأس النظام كانت أقوى مما نتصور، إلى درجة أنها طغت على ابراكماتيته المعهودة! فعاد وقرر المقاطعة معترفا بمرارة القرار، مقرا بما سيسببه له من خسارة، نافيا أثره على تماسكه الداخلي، وهو ما حدث بعضه رغم النفي.. أما كبير هذه الأحزاب، فلم يكن معروفا بالبراكماتية أصلا، فتأخر به العناد و " كبر الكرش " في الأهداف والمكاسب السياسية عن المشاركة في هذه الانتخابات، وإلا كان حصل على ما تسمح له به مكانته في الساحة كما حدث مع " حليفه " الخارج على قرار المنسقية، والذي كان المستفيد الأكبر من مقاطعته..!
مما توقعته أيضا، أن لا تتأثر نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بمقاطعة أحزاب المنسقية لها، معتمدا في ذلك على معرفتي بطبيعة مجتمعنا الذي يصوت لمرشحيه على أساس المصالح والعلاقات، وبنفس الحماس، سواء كانوا مرشحين لأحزاب، أوكانوا مستقلين، أومغاضبين منسحبين للتو من أحزاب.. فرابط الناخبين بالأحزاب هم من يلونهم من الأقارب والوجهاء، لا أطروحات وبرامج الأحزاب، وكثيرون هم من صوتوا لأحزاب المعارضة في لوائح، وصوتوا لحزب الاتحاد في لوائح أخرى لأن أقاربهم تفرقوا في هذه اللوائح! وقد قلت سابقا- وسأكرر- أن هذا ليس قدرا سرمديا، لكنه واقع سيأخذ وقتا ليس بالقليل حتى يتراجع، لا بالقوانين أو سياسة كبس المراحل، ولكن بالتناسب طرديا مع اتساع وانتشار طبقة النخب، على حساب طبقات الأميين والمتقوقعين في دوائر البدائية والتقليد. وللأحزاب دور كبير في تغيير هذا الواقع من خلال تنوير وتثقيف المجتمع، لكنها لم تقم بأبسط مجهود في سبيل ذلك، بل شغلتها عنه المعارك مع الأنظمة، معتقدة أن دورها هو الوصول إلى السلطة والسلطة فقط!
لم تتأثر نسبة المشاركة بمقاطعة أحزاب المنسقية إذن، بل إنها فاقت التوقعات، وفاقت النسب المعهودة في الاستحقاقات السابقة رآسية كانت أو بلدية وتشريعية، ولذلك نلاحظ أن أحزاب المنسقية المقاطعة، في تعليقها على نتائج الشوط الأول من الاقتراع، قد تجاهلت وتحاشت ذكر نسبة المشاركة المرتفعة، تهربا من حرج اكتشافها " صدأ " ما كانت تعتبره السلاح الأقوى في أساليب مقاطعة الانتخابات، أي سلاح المقاطعة.. وركزت كما دأبت- وكما هو متوقع- على دور المال العام وسلطة الدولة، ولا مفاجأة في هذا الموقف طبعا!
سمى البعض هذه الانتخابات بالانتخابات القبلية، وكأن الانتخابات التي كانت تجري في السابق كانت تجرى أعلى أسس أخرى..! وكل ما في الأمر هو أن الضغوط الهائلة والإغراءات التي كانت ُتمارس على الطامحين للترشح- الذين هم في الواقع أبناء قبائل- لكي ينسجموا مع قرارات وخيارات السلطة في الترشيحات، مما يحد من التنافس، ويُظهر القبيلة أو الجهة منسجمة خلف مرشح واحد ظاهريا، هذه الضغوط والإغراءات و" التعويضات " العينية أو في صورة امتيازات التي كان البعض يفتعل المغاضبة تعويلا عليها قد اختفت الآن أو خفت على الأقل، وترك الباب مفتوحا لكل من يرغب في الترشح عن طريق ما شاء من أحزاب أخرى، مما جعل الحساسيات الكامنة تطفو للسطح في ظاهرة المغاضبين للحزب الحاكم، والتي عزاها البعض لسوء اختياراته في بعض المناطق، في حين أنه لا دورا كبيرا لتلك الاختيارات في الانشقاقات التي شهدها الحزب، فسواء كان اعتمد الأساليب القديمة في فرض الترشيحات دون التشاور مع قاعدته، أو كان اعتمد اسلوبه الجديد بالتشاور لاختيار مرشحيه، فإن تلك الانشقاقات، كانت ستحدث حتما ما دامت السلطة قد تخلت عن أسلوب ترضية المغاضبين وتركهم وشأنهم.. وليس هناك من تعفف أو استنكف عن استخدام عامل القبيلة أو الجهة والعرق، أو تحصل على نتائج نقية صافية من هذه الاعتبارات !
وقد كان لافتا انشقاق بعد المنتسبين لأحزاب معارضة وترشحهم عن طريق أحزاب معارضة أخرى، كردة فعل منهم على مقاطعة أحزابهم الأصلية للإنتخابات، أو انضموا للحزب الحاكم طمعا في ترشيحهم، كما انشق آخرون عن حزب الاتحاد وترشحوا عن طريق أحزاب معارضة لم تكن لهم بها أية صلة، وقد قال لي شباب من سكان إحدى المقاطعات، رفض الحزب الحاكم إعادة ترشيح عمدتها السابق لمنصب العمدة ثانية، فانضم فورا لحزب معارض ورشحه فورا كذلك لعمدة هذه المقاطعة، ( أو على الأصح ضمن له الترشيح فانضم إليه ) فقال لنساء حيه : نحن لسنا من هذا الحزب الذي رشحنا ولن نكون منه، لكن " البسوا اعبايات أتوف " واصبرن معنا حتى نجتاز هذا السباق ونستعيد منصب العمدة..!
ورغم النتيجة المقبولة التي حققها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في الشوط الأول من الانتخابات، بفوزه ب 53 مقعدا برلمانيا وما يقارب المائة بلدية، إلا أنها كانت نتيجة لا تعكس مكانته كحزب كبير، به الكثير من الأطر من ذوي الخبرات الميدانية، ويغطى بترشيحاته كامل التراب الوطني. وإن كان يمكن تفسير هذه النتيجة بكثرة المترشحين والمنافسين، بالإضافة إلى قدر من الشفافية ظهر في صورة تصويت معاقل معروفة بموالاتها للسلطة ضد الحزب- وإن لم يكن تصويتا ضد النظام- إلا أننا إذا اعتبرنا أن الحزب حقق خلال هذا الشوط الأول نصف فوز ونصف خسارة، فإنها خسارة صنعها بيده.. ففي الوقت الذي استغل فيه مناضلوا الاحزاب المنافسة، وخاصة أحزاب المعارضة النشطة اسبوعي الحملة في الطواف بالأحياء بيتا بيتا، والمرابضة في أماكن تجمع المواطنين في الأسواق ومحطات الحافلات وأمام المؤسسات التعليمية، بل وفي صفوف الناخبين أمام مكاتب الاقتراع، يطلبون التصويت لهم ويشرحون طريقته، لم نجد أي أثر لأطر ونشطاء حملة حزب الاتحاد إلا في الخيام والأضواء والسهرات، والتنافس على الظهور بملابس " أزبي " الجديدة المزركشة! فالكثيرين من مناضليهم لم يطرقوا أبوابهم، ولم يقدموا لهم مرشحيهم، ولم يفقهوهم في كيفية التصويت، فإما أنهم لم يصوتوا أصلا، أو صوتوا لكن اصواتهم كانت لاغية، أو ذهبت لصالح جهات أخرى بالخطإ.. بل إن الأنانية بلغت ببعض مرشحيه في الداخل خصوصا- كما نقل لنا بعض الشهود- أنهم يأمرون المصوتين بطي اللائحتين الوطنية ولائحة النساء ووضعهما جانبا كي لا تشوشا عليهم، والتركيز على اللا ئحتين المحليتين لنواب المقاطعة وعمدتها! وهذا ما يفسر كثرة البطاقات اللاغية للائحة الوطنية ولائحة النساء، كما يفسر أيضا التقارب الغريب، بل والتساوي بين نتائج حزب الاتحاد ونتائج حزب تواصل في هاتين اللائحتين، رغم تباعدهما الكبير على مستوى عدد نواب المقاطعات وعمد البلديات!
وبالتالي فإننى أجزم بأن غالبية الأصوات اللاغية كانت أصواتا ضائعة لحزب الاتحاد، وذلك تبعا لمنطق " بما أن " أي بما أن الحزب حصل على أكثر من نصف الأصوات المعبر عنها في هذا الشوط، فإنه من ضمن ما يقارب الثلاثمائة ألف بطاقة لاغية، هناك ما يقارب المائتي ألف بطاقة كانت لمصوتيه.. وهو عدد من الأصوات لو كان صحيحا، فإنه كاف للفوز بعد ة نواب وعمد ومئات المستشارين.
وعليه فعلى هذا الحزب، انطلاقا من المسئوليات الملقاة على عاتقه كواجهة لنظام يحمل شعارات كبيرة، أن يكون حزبا جماهيريا ميدانيا أكثر، وأن يخفف من الاعتماد على المظاهر، وينتهج سنة المكاشفة والشفافية الداخلية، والدفع بالوجوه المخلصة والمقنِعة إلى الواجهة بدل الوجوه المتفحمة سياسيا، ويتدارك ما هو مقصر فيه حتى الآن من جذب وإقناع وتعبئة الشباب واستغلال حيويته ونشاطه، لكي يكون سندا حقيقيا للنظام لا جسما مريضا يمثل عبئا عليه! وأن يوجه منتخبيه مستقبلا إذا كانوا عمدا لمعرفة أدوارهم الحقيقية والقيام بها، ويمدهم بالوسائل ويراقبهم ويحاسبهم، على أن لا تكون اللآلية الوحيدة لتلك المحاسبة هي عدم ترشيحهم ثانية ( طبيب بعد الموت )، ويلزمهم إذا كانوا نوابا بأن يكونوا صوتا للمواطنين وقضايا الشأن العام وليس فقط أبواقا للحكومة، أو مجرد " بريد صوتي " للرد على نقد نواب المعارضة، فأحيانا يكون ما يطرحه نواب المعارضة صحيحا، لكن الفرق بين نقد المعارضة والموالاة للحكومة عندنا، هو أن نقد المعارضة تلطخه صبغة الدعاية، وغالبا ما يكون نقدا من أجل النقد لا غير..! أما نقد الموالاة لحكومتها، فهو نقد ذاتي يفترض أن يكون " ما فيه لعظام " كمن يقف أمام المرآة ويصلح من هيئة منظره.. كما أن نقد الموالاة للحكومة وتنبيهها، هو عينه دعم النظام والدفاع عنه إذا كانوا يعتقدون أن العكس هو الصحيح!
ولنعد لديمقراطيتنا معتذرين مسبقا لكل من يفضل، أو يتلذذ بسماع كلام في الهواء عن الشفافية والنزاهة والديمقراطية الحقيقية، لا كرها منا في هذه القيم، لكن إيمانا منا بأنه مثلما أن لكل من الصناعة والزراعة والصحة والتعليم.. بناها التحتية التي لا تقوم بدونها، فإن للديمقراطية أيضا بناها التحتية التي لا تتحقق إلا بها.. صحيح أن من بين تكلك البنى الإرادة والقوانين والإجراءات.. لكن لا بد قبل ذلك من المجتمعات المتنورة والراقية، فلا ديمقراطية حقيقية بدون مجتمع ديمقراطي، والديمقراطية تقدم للمجتمع في صورة قوانين وإجراءات مثالية، لكنه يُخضعها لطبيعته وخصوصيته، ويتعامل معها كما هو لا كما هي.. أفلا ترون مثلا أننا نركب إشارات المرور عند ملتقيات الطرق، ومع ذلك نضطر لوضع شرطي لتنظيم المرور وإلا تكدست السيارات في هذه الملتقيات رغم عمل الإشارات؟! يحدث ذلك في عاصمتنا حيث المتعلمون والمتمدنون، فما هو تصوركم عن تعاطي أريافنا وأعماقنا مع إجراءات جديدة على طبيعتها؟! لسنا كذلك البلد الوحيد الذي تجري به الانتخابات على أسس قبلية أو تقليدية، فأينما وجد مجتمع تقليدي انطبعت اوجه حياته بواقعه.. ولنا جار جنوبي كثيرا ما ضربه سياسيونا مثالا في الشفافية والديمقراطية، متجاهلين أنه في كل انتخاباته، عندما لا تعطي مشيخاته الصوفية الضوء الأخضر للمواطنين التابعين لها روحيا، فإن القليلين جدا هم من سيذهبون للتصويت مهما كانت قوة الأحزاب أو الدولة حتى، ولا مترشح هناك يبدأ حملته قبل تقبيل إيدي وأقدام تلك المشيخات، والتمسح بمسبحاتها أولا! فما الفرق بين انتخابات دينية أو أخرى قبلية أو عرقية أو طائفية أومناطقية؟ كلها انتخابات على أسس تقليدية!
ولن أختم- معترفا بما فرضه علي تشعب وخصوبة الموضوع من إطالة- قبل أن أسجل تعاطفي ومواساتي للجنة الانتخابات، على إثر ما تعرضت له من سياط قبل وأثناء وبعد تنظيم هذه الانتخابات، سياط استخدمها البعض لتبرير مقاطعته للانتخابات، في حين أن أسباب مقاطعته متشعبة ومنها ما يخصه شخصيا، بينما استخدمها البعض الآخر لتهيئة مناصريه نفسيا لما قد يحصل عليه من نتائج قد لا تكون بالقدر الذي كان يمنيهم به، ليقول لهم العيب في اللجنة وليس فينا..!
فليست هذه اللجنة إلا لجنة كلجنتينا اللتين سبق وأن نظمتا انتخابات سابقة من حيث الشكل، مع تميزها عنهما بعدة مميزات وظروف تجاهلها الكثيرون، أولا كونهما عملتا تحت سلطة الإدارة بينما كانت هي تعمل في اسقلال عن الإدارة، وثانيا كونها حضرت للإنتخابات في وقت ضيق، كانت خلاله وهي تُعد لها تتقاطر عليها البيانات والأخبار من هنا وهناك عن تنظيم الانتخابات تارة، وتارة عن تأجيلها، ومبادرة من هنا وأخرى من هناك! وثالثا كونها نظمت انتخابات من أكثر الانتخبات التي عرفتها البلاد تعقيدا، وأكثرها أوراقا وأعداد لوائح ومترشحين، ورابعا كونها نظمت انتخابات في ظل مقاطعة طيف سياسي خلافا للجنتين السابقتين، حيث لم يدخر هذا الطيف المقاطع أي جهد في سبيل النيل منها، وخامسا- وهو الأكبر أثرا- والذي جعلها تحت الاضواء أكثر، كونها نظمت الانتخابات لأول مرة في أجواء انفجار إعلامي هائل موجه ومنفلت، تميز بتعدد الإذاعات والقنوات والمواقع والفيس واليوتيوب، مما جعل كل من هب ودب ينشئ خبرا من عنده- له فيه مآربه غير البريئة أحيانا- فيضغط عليه ليصبح على الألسن خلال ثوان، وليقول الكل قرأنا في وسائل إعلام أنه حدث كذا وكذا.. وكأن الأمر تنزيل من حكيم عليم!
وقد تابعت الليلة الماضية برنامجا على التلفزيون الوطني، استضاف رئيسين سابقين لهذه اللجان، ملآ آذاننا بكان يجب وكان يجب.. معتمدين على ضعف ذاكرة الموريتانيين، واهتمامهم فقط بما هو جار من الأحداث! لا يسادة.. فلا يزال من بيننا من هم في عافية من تكلس الذاكرة.. وكانوا هنا شاهدين على ما كانت لجنة 2007 شاهدة عليه من طوابير الوجهاء أمام القصر الرآسي، والشخصيات التي تدخل القصر حزبية وتخرجه مستقلة، ومئات القطع الأرضية التي وزعها وزير المالية آنذاك في خضم الحملة الانتخابية، وتلويح رأس السلطة بالبطاقة البيضاء على شاشة التلفزيون وتوجيه الناخبين للتصويت بها، وما تم تداوله بشكل واسع عنما عرف باللوائح الدوارة في مكاتب التصويت، وغير ذلك كثير من التجاوزات، فأين هو البيان أو مجرد الإشارة لتلك التجاوزات من قبل هذه اللجنة أو رئيسها " الملاك " ؟! كذلك أكثر رئيس لجنة 2009 من الملاحظات على اللجنة الحالية، في اطمئنان زائد على أنه لن يجد من يذكره بأنه ما كان يحق له أن يكون رئيسا للجنة انتخابية، بميوله السياسية التي لم يستطع التحكم فيها عشية إعلان النتائج التي جاءت غير مطابقة لتلك الميول، فرفض توقيع محضر زملائه في اللجنة واستقال!
ولا يعني هذا كله تبرئة اللجنة الحالية مما ارتكبته من أخطاء، لا نعرف نسبة ماهو متعمد منها وما هو خارج عن الإرادة، كما لا يعني أيضا عدم الأخذ بتلك الملاحظات وتصحيحها مستقبلا. مع ملاحظة مهمة وهي أن الأصوات التي تعالت مع بداية فرز اللجنة للنتائج، والاحتجاجات التي ظهرت هنا وهناك بدأت تخف كلما تقدمت اللجنة في عمليات الفرز، وظهر أن ممثلي الاحزاب بل وقادتها لم تكن لديهم فكرة كافية عن عمليات احتساب النتائج، وخاصة عامل النسبية الجديد والحاسم في عمليات الاحتساب، وهو ما جعل عدة مترشحين يسلموا بالنتائج ويعترفوا بالهزيمة بعد مراجعة اللجنة وتلقي الشروح حول طريقة حساب النتيجة النهائية، بعد أن اسقبلوا نتائج أولية واحتفلوا بنصر سابق لأوانه!
فرفقا بديمقراطيتنا، فقد نظمنا انتخابات بالقدر الذي نحن قادرون على تنظيمه ماديا وفنيا، واستيعابه اجتماعيا، إن لم تكن من أحسن انتخاباتنا فليست من أسوئها، نظمت على ضوء إصلاحات كبيرة، وجرت في سكينة وهدوء، وشهدت تنافسا غير مسبوق وأقبل عليها المواطنون بشكل منقطع النظير، وأفرزت- فيما مضى منها- مجالس بلدية وهيئة تشريعية مثلت جميع شرائح وفئات ومعظم اتجاهات المجتمع بحله شبابية لافتة وذات مدلولات مبشرة، وهكذا هي الديمقراطية، مشاركة وتمثيل أولا تكون، والتمثيل والمشاركة مثل " أسحاب " إذا اتت فسيان من أين.. وليس من الإنصاف القول إن هناك من إذا حضر فقد تجسدت المشاركة وتحقق التمثيل، وإذا غاب فلا مشاركة ولا تمثيلا!
وقد سبقت ورافقت هذه الانتخابات حملة دعائية إعلامية مسعورة ومتعمدة، لتهيئة الرأي العام للحكم مسبقا باستحالة شفافيتها، ولكي يكون حكم من قال إنها تميزت بأدنى حد من الشفافية الجلد أو التعزير! ورغم ذلك سأقول إن ما تميزت به من شفافية- رغم كل المعوقات التي تخلق تجاوزات- لم يتوقعه الكثيرون ولخبط حساباتهم، واجلدوني ألف سوط.. فلو كان رئيس حزب تواصل مثلا يعلم الغيب لاستكثر من التفاؤل، ولعلم أن هناك عدة عوامل طبعت هذه الانتخابات ستدني حزبه من زعامة المعارضة في " غفلة " من كل الحسابات والتوقعات والمعطيات، وعلى رأس تلك العوامل مقاطعة حزب التكتل، وكذا الخطة العقابية التي رسمتها أحزاب المعارضة المقاطعة في حق حزبي التحالف والوئام، لتقزيم نتائجهما وإظهارهما بمكانة ثالثة ورابعة، عقابا لهما على مضيهما في الحوار مع النظام وتحمسهما لإجراء الانتخابات، فعمدت إلى توجيه مناضليها للتصويت لتواصل ليحصل على هذه النتيجة " الفقاعية " ! ولولا الشفافية وحرية الناخبين في التصويت لما نجحت تلك الخطة، ولطغي عليها التزوير والتحكم في النتائج.. وعليه لكان رئيس حزب تواصل ترشح لمنصب انتخابي لأنه- ببساطة- لا يستطيع شخصيا تولي منصب زعامة المعارضة إلا إذا كان منتخبا.. وستؤول تلك الزعامة ( إن آلت ) لنائب رئيس الحزب لأنه منتخب، وذلك- وإن كان- مكسبا، إلا أن رئيس الحزب لم يكن يتصوره هكذا وإلا كان ترشح.. لكن ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) صدق الله العظيم