للمرة العشرين نعود من جديد للجدل القانوني وهو أمر ربما ليس بالسيئ حتى نقتنع ويقتنع أصحاب القرار والسياسيون والموريتانيون أجمعون أن لا ملجأ من القانون إلا إليه لأنه وضع ليحمي النظام العام و الأقوياء .
لقد أثار قرار اللجنة المستقلة الانتخابات تأجيل الشوط الثاني من الانتخابات التشريعية والبلدية زوبعة من الانتقادات و التجاذبات القانونية والسياسية و لأنها سابقة فى مجال الممارسة الديمقراطية تمركز كل حسب ما يراه يخدم مصلحته.
وهنا أريد أن أشير إلي أن الجدال قانوني أكثر منه سياسي لأول مرة . ويتعلق الأمر أساسا باحترام الآجال في الطعن و الحسم الممنوحة للمعنيين بالنتائج الرسمية للانتخابات. و لإن كانت آجال الطعن في مجملها لا تتجاوز الثمانية أيام على أكثر تقدير عكس ما يراه بعض المعنيين بالعملية ، فان إعطاء هذه المهلة كاملة على الأقل وما ينشأ عنها من آجال للرد من شأنه أن يضفي مصداقية حقيقية على الانتخابات ويخفف من الضغط والاحتقان الناجمين عن الإخفاقات لدى بعض الأحزاب السياسية.
أما فيما يتعلق بالرأي القانوني الذي أبداه المجلس الدستوري فانه يدعو من جهة إلي التفاؤل بشأن استقلالية جديدة إلا انه يتضمن تناقضا صارخا من حيث المضمون.
فمثلا عندما يجزم المجلس بان الحكومة لا يمكن أن تؤجل الانتخابات قبل تدخل المشرع ثم يعترف أن تحديد آجال الاقتراع من اختصاص الحكومة التي بإمكانها أن تلجأ إلى مسطرة "إلغاء الشرعنة "la délégalisation" و هو إجراء يسمح للحكومة بتعديل نصوص تشريعية تدخلت في مجال التنظيم بعد إعلان تلك الوضعية من طرف المجلس الدستوري.
هنا يبدو أن أعضاء المجلس تجاوزوا مهمتهم في العدالة الدستورية، فهم ليس قضاة شرعية الأعمال الإدارية حتى يفحصوا المراسيم من خلال النصوص التشريعية وكان المطلوب منهم ان يجيبوا بصراحة هل يحق للحكومة ان تؤجل الانتخابات ام لا؟
ويبدو أنهم اعترفوا ضمنيا في رأيهم الاستشاري ثم صراحة في بيانهم اللاحق بأن تحديد آجال الاقتراع من مجال السلطة التنظيمية وهو ما يعطي قانونيا الاختصاص الحصري للحكومة فى هذا التحديد.
إما إذا ما رجعنا إلي القوانين النظامية فى هذا المجال فسنجد أمرا واضحا لم ينتبه إليه المجلس الدستوري و إلا لما عمم إمكانية اللجوء إلي البرلمان على جميع الانتخابات فبالرغم من انه تجاهل نهائيا دور اللجنة الوطنية المكلفة حسب القانون النظامي 2012 ـ 27 بالإشراف على مجموع العملية الانتخابية وهي تتمتع فى هذا الاطار على كامل السلطات لتحضير وتنظيم هذه العملية.
وحسب المادة 230 من نفس القانون "يجوز لها ( أي اللجنة) بهذا الصدد ان تصدر علنيا كل تصريح أو توصية". وبناء عليه تكون المداولة و التصريح بتأجيل الانتخابات موافقا للقانون وتكزن التوصية بان يحدد يوم 21 مطابقا لاختصاصاتها.
و إذا كانت المادة 24 من القانون النظامي 29/2012 المعدل للأمر القانوني 91 – 028 المتضمن للقانون النظامي المتعلق بانتخاب النواب في الجمعية الوطنية قد نص على انه "يكون الاقتراع الأحادي الاسم في شوط واحد إذا حصل احد المرشحين على الأغلبية المطلقة من الأصوات المعبر عنها. وإذا لم يحصل أحد المرشحين على الأغلبية المطلقة في الشوط الأول من الأصوات المعبر عنها يجري شوط ثان بعد أسبوعين". و ورود أجل أسبوعين في هذه المادة ربما هو ما جعل البعض يتشبث باختصاص البرلمان في تحديد آجال الاقتراع وهذا أمر يجب الشك فيه لأمرين:
أولهما: أن المجلس الدستوري اعتبر أن تحديد الآجل من اختصاص الحكومة (كما أسلفنا، ونضيف نحن) على أساس اقتراح أو توصية من اللجنة المستقلة للانتخابات .
وثانيهما : أنه بالرجوع إلي القوانين النظامية الأخرى لا نجد أن البرلمان قد حدد أي أجل ما بين الشوطين. خاصة المادة 10جديدة من القانون النظامي رقم 30 – 2012 المعدل لبعض احكام المرسوم رقم 91 -029 المتعلق بانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، إذ نصت على انه "إذا لم يحصل أي من المرشحين فى الشوط الاول على الاغلبية المطلقة من الاصوات المعبر عنها فانه يتم إجراء شوط ثان"، دون ذكر لأي أجل. وهو نفس الآمر الذي ذهبت اليه المادة 123 جديدة من القانون النظامي 32 -2012 المعدل للأمر القانوني 87 -289 المنشئ للبلديات و التي نصت على انه "إذا لم تحصل أي من اللوائح في الشوط الأول على أغلبية الأصوات المعبر عنها يجري شوط ثاني. ولا يمكن أن يترشح للشوط الثاني..." .
و هنا يمكن أن نشير إلى تكريس مبدأ جديد من المبادئ العامة للقانون و هو اختصاص السلطة التنظيمية في تحديد آجال الاقتراع، كما رأى المجلس الدستوري و يدخل هذا المبدأ ضمن فئة "المبادئ الأساسية التي كرستها قوانين الجمهورية"، " les Principes Reconnus par les Lois de la République (PRLR) ".
من ما سبق يتضح أن الجدل لا يثار فعلا إلا بالنسبة للانتخابات النيابية، إذ يصبح ورود الأجل المتمثل في أسبوعين أمرا استثنائيا مقارنة بباقي الانتخابات وهو ما يدعو إلي أحقية ما ذهب إليه المجلس الدستوري من ان اختصاص تحديد الآجال يدخل ضمن مشمولات السلطة التنظيمية وهو ما يؤكده كما أشرنا أحكام القوانين النظامية الأخرى.
أما بالنسبة للانتخابات البلدية فإن الأمر ليس مطروحا إطلاقا لأن المشرع لم يحدد أي أجل يمكن أن يتشبث به المعترضون على التأجيل لذلك علينا ان ندرك أن قرار التأجيل يكون شرعيا مطلقا بالنسبة لانتخابات البلدية وغير شرعي في انتخابات النواب إلا في حالة وحيدة : حينما يصدر المجلس الدستوري قرارا برفع الشرعنة " délégalisation" عن الحكم التشريعي في القانون النظامي المتعلقة بالنواب و المحدد لأسبوعين بين الشوطين.
علينا جميعا أن نفرق بين المشروعية و الشرعية فالمشروعية تعني إيجاد المسوغات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها لتبرير عمل ما ؛ و الشرعية تعني إيجاد المسوغات القانونية المحضة من أجل البرهنة على مطابقة عمل ما للإجراءات و القواعد القانونية.
هكذا نخلص إلى أن مشروعية قرار التأجيل لا جدال فيها، أما شرعية المرسوم المتضمن لها فإني أطالب الحكومة لتفادي الشبهات ومن أجل إنهاء الجدل أن تمارس صلاحيتها في الطلب من المجلس الدستوري ان يصدر قرارا "برفع الشرعنة" عن الأجل المحدد فى القانون النظامي و أن يعلن بوضوح الطابع التنظيمي لذلك الحكم. ولا يستدعي هذا الأمر استبدال المرسوم الذي تمت الموافقة عليه أو إصداره الأسبوع الماضي، لأن قرارات المجلس الدستوري تسري بأثر رجعي، مما يعني فقط شكليا أن المجلس شرّع و أكد اختصاصا للحكومة حفظه و حماه دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية بموجب المادة 59 منه.
والله الموفق
أ.د حاتم محمد المامي
أستاذ القانون العام
رئيس المنشأة الموريتانية لدولة القانون