يبدو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني متقدم فكريا على كثير من النخب. بل يبدو أن مسافة الوعي التي تفصل النخب الموريتانية عن رئيسها الهادئ جدا في تعبيراته، وقراراته، لا يمكن ردمها بغير كثير من الجهود المتراكمة.
هذا السبعيني ذو الخلفية الصوفية، الذي تمتزج في عروقه قيم الأصالة وروح الجندية، يمتلك الشجاعة للتعبير عن أدواء مجتمعه بشجاعة أكثر من أي كاتب تقدمي يعيش في ظلال الديمقراطيات الغربية.
ذات مرة قال المستشرق الـعاشق للحضارة العربية الإسلامية في الأندلس "ليفي بروفنسال" إن الناصر الأموي يشبه في تفكيره رؤساء الديمقراطيات المعاصرة أكثر من شبهه بملوك إمبراطوريات القرون الوسطى. ويمكن القول إن ولد الغزواني أشبه برؤساء الديمقراطيات العريقة، القادرين على مصارحة شعوبهم بالحقائق، أكثر من شبهه بزعماء دول العالم الثالث الذين يمتهنون دغدغة عواطف شعوبهم باعتبارها خير شعوب الأرض.
منذ خطابه التاريخيّ في مدينة وادان وولد الغزواني يجلد عادات مجتمعه المتخلفة بعنف لم يقدر عليه شعراء الرومانسيات، ويمزج ذلك بجهد على الأرض لانتشال الطبقات التي سحقتها عاديات الزمن في أدنى السلم الاجتماعي ببرامجه الاجتماعية، التي أصبحت تذكر بعهود الدول الاشتراكية في أوج ألقها.
لم يجهد الرجل، الذي ينظر في ظلال كلماته قبل النطق بها، نفسه في انتقاء العبارات عندما يتحدث عن أدواء مجتمع فاض بها قاموس الرئيس؛ فألقاها كما هي في وادان، عائبا على المجتمع ازدراء مهن صنعت تاريخا، ورسمت معالم حضارة أعانت سكان البلد على صناعة هوية خاصة بهم، ومكنتهم من الحفاظ على وجودهم في صحراء قاحلة لا ترحم. وعزز ذلك في چول، وتيشيت وولاته وأعاد الكرة في شنقيط اليوم.
تجاوز الرئيس غزواني كل ذلك على الصعيد العملي؛ فتصدرت قوائم مرشحي النيابيات نساء ورجال من مكونات موريتانيا الاجتماعية لم يكن السلم الاجتماعي ليسمح لهم بدخول قبة البرلمان دون تمييز إيجابي، يصر عليه الرجل المنحدر من الأرستوقراطية الزاوية الموريتانية.
وعي الرجل القادم من مشيخة صوفية ترفع من شأن الزكاء الروحي، وتجعله أساس التفاضل، وعي خال من أي نوع من العقد تجاه التراتبية الاجتماعية، فلا يمكن اتهامه بحمل أي إرث من الضغائن على المجتمع، ولا شيء يضطره، وهو الذي يملك أغلبية مريحة، إلى اجتراح خطاب شعبوي، فثوريته الهادئة جنبت موريتانيا الآثار المدمرة لدعوات الشعبوية التي اجتاحت العالم في العقد الماضي، وما زالت بعض موجاتها تطل في سياقات إقليمية وعالمية مؤثرة في المشهد الوطني.
الخلو من العقد معين على اجتراح خطابات، وسن سياسات ثورية لا بد منها لتغيير عقليات اجتماعية كتلك المتحكمة في النخب الموريتانية؛ تاريخيا استطاع باب ولد الشيخ سيديا وأضرابه من العلماء استقدام المستعمر لخلوهم من العقد تجاه المكون الديني من الشخصية الموريتانية، لأن حاجة البلد كانت في حفظ حياة الناس، وصناعة أمن في فضاء سائب.
وبنفس المنطق يستطيع الرجل الذي اجتمعت فيه مواريث الأرستقراطية الزاوية، مع إرث العسكرية الوطنية، والاطلاع الباذخ على تجارب المجتمعات من حول البلد، أن يقود ثورة مماثلة؛ ناطقة من خلال خطاباته، وصامتة من خلال السياسات الرافضة لمنطق الليبرالية الاقتصادية في المجال الاجتماعي.
إنه يستطيع ويفعل ذلك بهدوء، يتسرب في النظام التعليمي، وفي المنظومة السياسية، وترفده سياسة اجتماعية يصر هو نفسه على تسميتها نموذجا تنمويا محليا منحازا للفئات الهشة.
المعضلة الكبرى التي تواجه رئيس موريتانيا المثالي في سلوكه ومقارباته، أنه متقدم على نخبة بلاده، وبنفس الاستراتيجي المحنك يتجنب الصدمات التي قد تؤدي ارتدادات لا يتحملها البلد، ولكنه لا يفوت فرصة إلا ويصفع نخب المجتمع، وحراس الأوهام، بكلام خارج عن كل مألوفات التحفظ في نقد التراتبية الاجتماعية، ويمنحهم استراحة، وكأنه يتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم، مخاطبا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ "لولا قومك حديثو عهد بكفر لنقضت بناء الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم".
لو قدر واستمرت وتيرة معالجة القضايا على هذا النحو، وأخذت مداها لاستيقظ الناس قريبا على موريتانيا جديدة غير التي استلمها ولد الغزواني ذات صباح من خريف ٢٠١٩.