منذ صدر الإسلام وقف العلماء في وجه كل أنواع الفتن وخصوصا الانحراف السياسي فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول الشهداء في هذا الطريق ومن بعد تتالت تضحيات العلماء بدئا بالخلفاء الراشدين وفي عصر الفتن الحديث لم يبخل حملة الشريعة بأرواحهم دفاعا عن دينهم فكانت
التضحيات الجسام.. بدئا بحسن البنا ومرورا بسيد قطب وعبد الله عزام وفي العقود الأخيرة سطر علماء فلسطين والعراق أروع الأمثلة في تكريم الله تعالى لأوليائه بالشهادة في سبيله.
وفي هذه السلسلة الملحمية الممتدة قدم الأستاذ عبد القادر الملا الأمين العام للجماعة الإسلامية في بنغلادش روحه فداء للدعوة فكان له ما تمنى من نيل الشهادة في سبيل الله.
استعلاء المؤمن
لقد نقل ذووا الرجل عنه قبل ساعات من استشهاده كلمات تكتب بماء الذهب يقول الأستاذ: " إنني بريء تماما من جميع التهم التي وجهت إليّ (...) لا يستطيع كل واحد منا أن يفوز بالشهادة،فهذا تكريم وشرف من الله عز وجل أن ييسرلي أن أموت ميتة الشهداء،وهوما سيكون من أعظم مااكتسبته في حياتي(....)
فكل قطرة من دمي ستعجل من سقوط الظالم المستبد وستزيد الحركة الإسلامية قوة ونشاطا،فأنا لست قلقا على نفسي بقدر ما أنا قلق على مستقبل هذه الدولة والحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية في هذه البلاد،وقد قدمت حياتي فداء للحركة الإسلامية والله علي ما اقوله شهيد".
ومن سياق كلمة مقتضبة نشرت على موقع الجماعة الإسلامية في بنغلاديش يتضح أن ثمة مقايضات ابتزازية وجهت للرجل لإيقاف الحكم عليه يقول: "إني لم ولن أطلب عفوا رئاسيا من أحد ، فلا أحد في هذا الكون يستطيع أن يتحكم في حياة أحدأو موته، فالله سبحانه وتعالى هو وحده يقررطبيعة موت عباده، فالحكم لن ينفذ بقرار بشري وإنما سينفذ بقرار رب العالمين، وأنا مؤمن بقضاء الله وقدره".
لقد تذكرت وأنا أقرأ كلمات الرجل المؤثرة كلمات سيد قطب الخالدة:"إن أصبع السبابة التي ترتفع لله بالوحدانية تأبى ان تكتب حرفا تقر به حكم طاغية" إنه إلهام الله لعباده وهم يقفون ذلك الموقف المحمود المشهود بين يدي الطغاة والمتجبرين فيتنزل الإيمان على قلوبهم وترتقي أرواحهم للأعلى فلا يكون لها قرار في الأرض وبذلك الاستعلاء الإيماني والتجلي الروحاني يدوس من كتبت له الشهادة تحت قدميهعلى أرواح الطغاة قبل جسومهم .. وماهي إلا لحظات قليلة حتى يحيق بهم مكر الله "والله خير الماكرين".
نظام مأزوم
في الأشهر الأخيرة تفاقمت الأزمة السياسية في بلاد البنغال وعوض تقديم الحكومة حلولا جذرية للمشكلات الاقتصادية انساقت في الحرب العالمية الموجهة للحركة الإسلامية خصوصا وأن ثمة رهانا قويا من النظام الاستبدادي في البنغال على التودد للقوى الغربية المناهضة للحالة الإسلامية ولن تكون دول الخليج العربية بعيدة من نصح الساسة في دكا بتقويض الحالة الإسلامية وإضعافها مع غياب مسوغات لذلك فمن المعروف تاريخيا أن الجماعة الإسلامية التي ينتمي لها عبد القادر الملا هي من التيار الإسلامي الرافض لاستخدام العنف ومنذ السبعينيات والجماعة شريك سياسي محترم شارك في تحالفات سياسية عديدة مع أحزاب سياسية أخرى في البلاد.
لقد تردت الأمور في البلاد ووصلت حد الإقصاء والمصادرة فقبل أقل من شهرين حظر النظام أنشطة حزب الجماعة الإسلامية المعروف باعتداله وأخرجت تهم لقادته ترجع لما قبل أربعة عقود من الزمن في محاولة بائسة لإنكار حقائق كضوء الشمس وتقرير تهم باطلة بحق مصابيح مضيئة يعرفها شعبها ويتعلق بها لأنها تعبير صادق عن هويته الثقافية والدينية وخياره الحضاري.
الملا .. يفوز بالفضل
إن قدر العلماء بما نالوه من وراثة النبوة أن يواجهوا الطغيان ويدافعوه بقدر الله والصبر على طول الطريق اللاحب الشاق فالعالم بشرع الله قدوة يـُـتـَبع ونور يهدي لسواء الطريق لذلك قالها رجل من عامة الناس لأحمد بن حنبل عندما راوده سجانوه على القول بخلق القرآن :"لا تفعل فإنك إمام منظور إليك" وقد كان الإمام مالك رحمه الله يرى أن نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجب العلماء المميز لهم فكان يقول:" حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره لأن العالم إنما يدخل على السلطان لذلك فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل".
إن القوى الدولية والإقليمية التي تسعى للنيل من هوية الشعب البنغالي لن تنجح في هذا السبيل ودماء العلماء لن تذهب هدرا فهي لامحالة ستسقي شجرة الإيمان بالكرامة وقد غرست فسيلة الحرية والنضال ورسمت طريق المستقبل للمستضعفين "ولينصرن الله من ينصره إن الله قوي عزيز".
وقبل عقود كتب داعية الإسلام الكبير الشيخ أبو الحسن الندوي أن الإسلام في القارة الهندية: "دين حي ورسالة خالدة إنه كالحياة نفسها, خالد خلود الحقائق الطبيعية إنه يسير سير نواميس الكون لأنه من تقدير العزيز العليم" والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.