إن كثيرا من الوسائل التي أحدثها الإعجاز الصناعي الحديث ـ سلاح ذو حدين .. يستعمل في الخير فتعم به الفائدة وتتحقق المنافع ، ويستغله أرباب الشر ودعاة الفتن فيتطاير منه الشرر ، وينفث السموم .. وأحسن العلامة محنض باب ولد أمين في بيان هذا المعنى:
هذا ومخترعات العصر صالحة لما من الضر أو من ضده عظما
فهي مثل قوارير يلونهــــــــــا محويها ابيض أو بالدهمة اتسما
فللمطابع نفع بين ولهــــــــــــا ضر جسيم مع النفع الذي جسما
وللتلافز أضرار ومنفعــــــــــة وموج أضرارها قد عم والتطما
وللإذاعة من هذين حصتهــــــا فذان فيما ذكرنا كله ازدحما
وإن مواقع التواصل الاجتماعي التي غدت مأوى ومتنزها لملايين الناس يجري عليها هذا الأصل المذكور .. ففيها يجهر الغواة (والحنيفية منهم براء) بالسوء من القول ويرفعون عقيرتهم بالمنكر والفحشاء وقوعا في أعراض الناس وانتهاكا لحرمة الدين والكرامة .. وخوضا في الباطل ، وقد قال جل وعلا: {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين} وقال «.. وإن الرجل ليتكلم من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» .
ذكرت هذا المعنى وأنا أرى وأسمع وأقرأ لبعض الإعلاميين والكتاب وهم يتبارون في الثناء والنوح ـ وإنا لأجدر أن تنوح على أمتنا النوائح ـ على "نيلسون مانديلا" (فلا رقأت تلك "الدموع" الهوامل) وأردت أن "أنوح" وأبوح بالتنبيهات التالية:
أولا: لقد حرم الله في كتابه العزيز بالنص القطعي الدلالة والورود الاستغفار للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين والترحم عليهم فقال جل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}التوبة113 ، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله «يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ..} الآية ، فهي ناسخة لاستغفاره لعمه ، كما هي ناسخة للتخيير الوارد في قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر وبين ألا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار "وهو حصول الغفران لمن يرى النبي أنه أهل للملاطفة أو لبعض أهله ، فأراد نسخ ذلك بعد أن درج في تلقيه على عادة التشريع في غالب الأحوال" [التحرير والتنوير 11/44-45]
وما ورد من قوله يوم أحد لما شج وجهه وكسرت رباعيته: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» إنما كان على سبيل الحكاية عن من تقدمه من الأنبياء كما ورد في الصحيحين "لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم" [القرطبي 8/223] بل إنه قال للعين ابن قميئة «اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه»
وفي المسألة غير هذا ، ونكتفي بما ذكر خشية الإطالة
فالمشرك عدو الله حرب على الله ورسوله وأوليائه ... والمؤمن ولي الله ولا تجتمع الولاية (المحبة والنصرة) لله ورسوله والمؤمنين ، والولاية لأعداء الله ، والله جل وعلا يقول: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .
فالترحم على الكافر والاستغفار له ـ ولو بعد موته ـ يتدسس منه على شعور المؤمن شيء من القبول و الرضى عن حاله وما كان عليه من كفر وضلالة ، إذ لا ينبعث الدعاء ـ عادة ـ إلا عن عاطفة الرحمة والإشفاق على الذوات وحالها وما تلبست به ... وما أخطر مثل هذا على مشاعر المؤمنين تجاه إيمانهم وميزتهم الكبرى لأنه داع إلى انتفاء الشعور بالتفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان .
ثانيا: لا يعني بيان تحريم الاستغفار للكافر والدعاء له أنه لا يجوز أن يذكر بخير إن كان صاحب مروءة وشهامة ، ولا أنه لا يستلهم من نجاحه وتضحيته ، فذلك أمر لا حرج فيه ، وفيما ذكره عن المطعم بن عدي ، وفي شأن حلف الفضول وغيرهما دليل على ذلك .. كما لا ضير في لوفاء للكافر ورد الإحسان له ، فذلك أمر معروف من هديه
ثالثا: نيلسون مانديلا ناضل في سبيل إنهاء الفصل العنصري والظلم الطبقي في جنوب إفريقيا وتحمل في سبيل ذلك السجن 27 عاما .. ولكنه لم يكن في الميدان وحده كما يروج إعلام الكذب والتزييف .. بل سبقه إلى ذلك ـ باعترافه ـ مناضلون مسلمون اكتووا بنار الاضطهاد والقهر ـ على الرغم من أن المسلمين في جنوب إفريقيا يمثلون 1% أو أقل ـ وعلى رأسهم الشيخ عبد الله هارون رحمه الله الذي عاش في السجن 30 عاما وتوفي فيه.. ومع ذلك لا تسمع له ذكرا في إعلام العرب والمسلمين ، ولا دعوة من أصحاب "الابتهال الأعرج" و"التضرع الخائب" على روح "مانيدلا" و "اتشي غيفارا" ونحوهما .
رابعا: مانديلا دعي إلى الإسلام ، وزاره الشيخ أحمد ديدات يرحمه الله وناقشه وأهدى إليه ترجمة لمعاني القرآن ، فاعتذر عن الإسلام ـ نسأل الله العافية ـ وحين تولي رئاسة جنوب إفريقيا انهار اقتصادها ولا يزال ، وشاع فيها الانحلال والفحش ، وارتفعت معدلات الجرائم وأصبح الإيدز سبب الوفاة الأول حتى توقع بعض الخبراء اختفاء دولة جنوب إفريقيا من الخريطة 2050م بسبب انتشار داء الإيدز فيها .
تلك حقائق يجب أن تعلمها "البواكي" و "النوائح" من مشيعي جثمان "مانديلا" المتعفن
والعجب كل العجب من أمة أنجبت عمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز والشيخ أحمد ياسين ... الخ ثم يوجد بين ظهرانيها من يبكي "مانديلا" ويشيد به أسوة وقدوة
يغمى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
ويرحم الله الشيخ محمد سالم ولد عدود حيث يقول:
كفى حزنا ألا يزال يقودنــــــــــا ***** على الخسف غاو من دعاة جهنما
وفي شيعة الدجال نسعى وحزبه ***** وأسرتنا جند المسيح ابن مريما
فيا عجبا من كافر قاد مسلمــــا ***** ومن عربي شاقه صوت أعجما