لعل الغائب عن وعي البعض من قوانا السياسية، أن تاريخنا السياسي، تأسس منذ نشأته عبر آلاف السنين على التحالفات السياسية، والعسكرية، كما كان في مملكة "غانا"، حيث حصل التحالف دون أن نعرف ابعاده، وكيف تم التحالف على "حوكمة عرقية" في تقاسم السلطة، فالملك "الغاني"، كان يخضع لسلطته عشرين ملكا افريقيا، ولذلك كان من جنسها أسمر اللون، بينما كان وزراؤه بيض البشرة على ما نقل المؤرخون، وهذا يشير - فيما يشير - إلى حضور المملكة في بلادنا جغرافيا، وكذلك الانخراط في مشروعها السياسي، والأجتماعي..
وقد تلا تلك الفترة حقبا تاريخية طويلة لا يعرف الكثير عن الأدوار التي لعبتها التحالفات السياسية خلالها، إلى أن طالعنا المؤرخون بالإشادة ب
القوية بدور" الأحلاف العسكرية" اللمتونية في القرن الثالث الهجري على رأي "ابن خلدون" .. وفي القرن الرابع الهجري، ذكر "ابن حوقل" في "صورة الأرض" أن ملك البلاد " تولوتان"، طلب الإسناد منه أحد الملوك على نهر النيجر، فأرسل - " تولوتان" - له قوة عسكرية جابت تلك المسافة على" الجمال" حتى أطراف نهر النيجر، وكان النصر حليفهم، في تعزيز قوة حليفهم على خصمه...
كما ذكر " ابن حول" مظاهر الصراع نتيجة غياب غياب النظام السياسي، واحتدام الخلافات الأجتماعية المريرة، بين العرب ، والبربر في مدينة أودغشت، أم المدائن في المنطقة، لأنها المركز التجاري الذي، كانت تحط عنده الرحال، وتنفق فيه التجارة الوافدة من القيروان، ومن سجلماسة، ومن الممالك الإفريقية، كمملكة غانا التي كان لها نفوذها في في بلاد السودان" مالي"، وما وراءها..
ويستنتج من هذا المصدر التاريخي حدوث انفصال سياسي بين مملكة غانا، وبين بلاد الملثمين على اتساع مساحتها، لأن الاستنجاد بملك الاحلاف اللمتونية، ، غير الاستنجاد بملك” غانا”..
كما أهتمت المصادر التاريخية في القرن الخامس الهجري، بتحالفين دفاعيين حصلا بين " المرابطون"، وبين إمارة مجاورة لهم على النهر، لم تقدم مصادر التاريخ معلومات عنها أكثر من ذلك الإسناد العسكري الذي انقذت به مركز "المرابطون"، عندما نقلوا قوتهم العسكرية، لإسقاط الحكم السياسي في سجلماسة، فانتهزت " قبيلة “ اكدالة"، وهي واحدة من التجمعات السكانية التي استقرت على تخوم شواطئ الأطلس، و لم تدخل في دعوة "عبد الله بن ياسين" - رحمه الله تعالى- إلى ذلك الوقت وتركها لحال سبيلها، لكنها أرادت الغدر بدعوته، و القضاء على مركز" المرابطون"، أثناء غياب قوتهم، لذلك هاجمت “المركز” في جبل لمتونة، وقد تصدى الحلفاء بقوة عسكرية من الإمارة "النهرية" المتحالفة مع " المرابطون"، وانهزم المعتدون..
وقد استقام الأمر بعدئ لنظام حكم "المرابطون" في إمارتهم الجنوبية حوالي خمسة قرون إلى أن غزاها البرتغاليون في بداية القرن السادس عشر الملادي، ونتائج التدمير العمراني، تؤكد ان المحتلين ووجهوا بمقاومة قوية لم تستسلم لهم، و لذلك دمر المحتلون المدن المرابطية: " أودغست"، و"ازوكي"، و"أوليلي" وهجرها المجتمع الحضري، واستأنف المجتمع النمط القبلي في المناطق النائية عن الحواضر، كما اقتصر الاحتلال على المناطق الشاطئة.
و كان من نتائج هذه الأحداث الأليمة، غياب النظام السياسي، وتقطع اوصال العلاقات السياسية مع المحيط المجاور شمالا، وشرقا، وجنوبا..
وبعد قرنين، ازدادت الكثافة السكانية، ومع شح الموارد الأقتصادية، بدأت المحاولات المهتمة بالشأن الاجتماعي في مختلف المناطق، تدخل في تحالفات، وذلك للدفاع المشترك، وكان العنوان الجامع لتلك التجمعات، هو مفهوم” الإمارة”، فانقسمت الوحدة الأجتماعية العامة على نفسها إلى أربع إمارات في أواخر القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر..
وبدأت المواجهات المباشرة بعد نهاية حكم إمارة “ فوتا”، مع الوحدات العسكرية الفرنسية في النصف الأخير من القرن التسع عشر، غير أن تلك المواجهات الفردية كان محكوما عليها بالفشل نظرا لما سبقها من الاتفاقات البينية التي أبرمها المحتل مع كل إمارة على حدة، وذلك من أجل أن يصفيها واحدة بعد الأخرى..
.............
ولعل فشل النظام السياسي منذ الاستقلال الوطني في انجاح مشروعه التحديثي للأنظمة الاجتماعية سببه، غياب التحالفات السياسية الوطنية للحراك السياسي العام، وكذلك غياب التحالف مع الجوار العربي، لذلك كانت الأنظمة السياسية المعاقبة خلال أربع وستين سنة الماضية، عاجزة عن استحداث العقد الاجتماعي، و لم تدرك بوعيها التاريخي دور التحالفات في التطور الحضاري السابق الذي كان من نتائجه ذلك الحضور الفاعل في تاريخ المنطقة افريقيا على عهد مملكة " غانا"، وعربيا على عهد" المرابطون.
واليوم، وفي سبيل ليس الوقوف عند نقاط الخلل، بل لتجاوزها، ولاستيعاب الدروس التاريخية،و توجيه البوصلة نحو التوافق، و التحالف السياسي مع القوى الوطنية والقومية، وذلك لبناء الدولة الحديثة، وتحديث الأنظمة الاجتماعية المتخلفة التي لازالت على ابنيتها الاجتماعية، منذ عصر الإمارات الأربع، عصر الانحطاط السياسي، وهو الذي لم يختلف عليه أثناء، سواء من المطالبين بإحياء نظام الإمارة، وقد جانب منه للشماتة من القائمين على النظام السياسي، مادام الأخير عاجزا عن تحديث المجتمع، وتطويره بوضع آلية للتنمية والتطور، غير أن هذه الأصوات "الأميرية" رغم تشتتها، ليس لديها من منطق لتسويغ الدعوة، إلا الانكفاء على الذات، وإحياء دورها، نظرا لعجز النظام السياسي عن الاستجابة لمطالب المجتمع، وكذلك مطالب التحديث السياسي؛ بينما اللافتة المرفوعة عند مفترق الطرق بين الأنظمة السياسية منذ الاستقلال، وبين الإمارات الأربع المتوارية خلفنا في الماضي القريب، أن تلك اللافتة، رسم عليها بالحروف المخدوشة” الاستشهاد” في تلك المقاومة غير الموحدة، وكان أشرفها اطلاقا، مقاومة " ولد امسيكة" التي لا تذكر إلا قليلا، وفي الأحاديث المتحسرة على دور الخيانات التي يتبرؤ الكل منها، دون إدانتها..
بينما لا يتورع المشايعون للإمارات من التذكير بحضوركم في المناسبات التي يتلقون مقابلا لها " استحلابا" لمجد، يتوارثه الأحفاد في الامتداد الأسري ..!
ويعكس ذلك رؤيتهم في أن النظام السياسي الحديث، هو امتداد للفترة الاستعمارية السابقة في ظل "الاستعمار الجديد "، وقد لا يقتنع البعض في مجتمعنا السياسي الحديث، واتجاهاته السياسية بهذا "الجدل"الذي يسحب قائليه على بطونهم في عرصات الدوارس للإمارات ..!
سيما في هذا الوقت الذي تهب فيه تيارات عاصفة، قد تعبث بجميع الأنظمة السياسية العربية، وكذلك وحداتها الاجتماعية في الوطن العربي الذي تواطأت معظم انظمته السياسية، وانكفأ الباقي منها على نفسه، نظرا لتقديرهم الخاطئ ، أن الإبادة الجماعية في فلسطين، لن تنال الكل، بينما الحقائق في التاريخ، تتكرر، حيث أن النكبة في فلسطين الماضية سنة (١٩٤٨)، أو هذه إن حصلت، فستنعكس تداعياتها على الأنظمة السياسية في الوطن العربي من أدناه، إلى أقصاه، ولن تنجو منها المجتمعات العربية..
……..
لذلك استنهض القوميون في مختلف مواقعهم، ورفعوا أصواتهم، للنظر، والتبصر الحصيف بهذه الدعوة، والرؤى الاستشرافية " اليمامية"، وذلك لاستباق أي تغيير غير مخطط له، قد يزعزع الاستقرار السياسي، ويرد السهم الطائش إلى نحر النظام السياسي، والمجتمع..
وقد جاءت دعوة الأستاذ الخليل ولد الطيب في وقتها، و استجاب لها الكتاب القوميون بمقال الأستاذ شيخنا ولد أحمد سلطان، وكان طرحه واضح الرؤية، وموضوعيا فيما اجترحه من وسائل التمكين المقترحة، وذلك لتحقيق المطالب التي هي محل إجماع وطني..
وقد تعطي للنظام سندا في الحاضر يعزز مكانته الاجتماعية، ويسند ظهره بقوى وطنية، وقومية، وذلك لدفع المخاطر، وجلب المنافع في ظل تحالف من "جبهة وطنية قومية " - فيما أطالب به شخصيا - تكون من القوى السياسية الوطنية، والقومية المدركة بوعيها قيمة النظام السياسي في تحديث الأنظمة الاجتماعية، إذا ارتقى وعي القائمين عليه لتعزيزه بقوى تلتقي معه على الثوابت الوطنية، كخيارات تفرضها الوحدة الاجتماعية، ومشاركة الحراكات السياسية الوطنية، والقومية، لا السدنة: الانتهازيون، المرتشون، القبليون، الجهويون، العرقيون، الفئويون، لأن هؤلاء هؤلاء "أمعات"، ولن يصدوا خطرا داخيا، لأنهم، الخطر في حالة " الكمون" الذي، ينتظر من ينشطه لتحقيق مصالحه من قوى الخارج، مهما تظاهروا في اصطفافهم إلى جانب النظام حاليا..
إن غياب السند الذي يحمل الرؤية لمشروع سياسي حداثي ، أو الامتناع عن التحالف مع الحراك السياسي الواعي، فسيضعف النظام السياسي، ويعرضه للتطورات المتوقعة الناجمة عن تداعيات التحديات الداخلية والخارجية معا..
إن هذا التحالف المطلوب، الهدف منه تصحيح مسيرة النظام، واستنارته بالرؤىة التي توجهه، وتخطط للمشروع التنموي، والتطوري، وبناء النظام السياسي المرتبط بمجتمعه، وليس بالنخبة الانتهازية التي تخطب ود كل نظام، وتتوارث العهر السياسي، والتحالف التلقائي مع قوى الخارج،، ولن يصد خطرها، وخطر من تتحالف معه من قوى الخارج، إلا ولاء المواطن لوطنه، ووحدة الانظمة الاجتماعية مع النظام السياسي، ولا يكون ذلك، إلا بالتوافق من جهة، و بالتربية، والتعليم، والتكوين المهني وإصلاح الإدارة، والقضاء، و التركيز على القطاعات المنتجة، كالزراعة، وبناء البنية التحتية، ووضع آلية لحماية مصادر الثروة الوطنية، والاعتماد عليها في التخطيط للاقتصاد الوطني المستقل، علاوة على إعطاء الأولوية لتكوين جيش قوي يكون الولاء فيه للوطن أولا، وأخيرا..
حينها سيصبح النظام السياسي في بلادنا مدعوما بقوى وطنية وقومية لها رؤية لاستحداث المشروع النهضوي المتكامل، وقوامه بما يقدمه للمواطن من الحقوق المدنية، والسياسية، حتى يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات معا..
والسؤالان اللذان يختم بهما المقال، هما:
هل سيدرك النظام السياسي القائم، قيمة التحالف السياسي مع هذه الأحزاب السياسية الوطنية والقومية الإيديولوجية بعد الترخيص لها، وذلك للدفاع عن الوطن على غرار ما حمت به التحالفات السابقة، الأنظمة السياسية عبر تاريخنا النهضوي؟
ألا، فلنستأنف الصيرورة التاريخية المحدثة، كعودة على بدء، "والعود أحمدو "، ولنبتعد عن التقاعس الذي سيكون الركون إليه عند البعض أقرب من هذه الدعوة الجادة التي، لا تملق فيها، لأن ليس في قاموس أهلها أطماعا مادية، حتى يرموا بتهمة التزلف الذي شق - ويشق - طبلة آذان النظام، وهو الذي يتردد على مسامعه ليل نهار من سدنة الأنظمة السابقة ذات "الجينة " الأحادية قبليا التي، خذلت الأنظمة السياسية السابقة منذ الاستقلال..؟!