استوقفني يوم أمس نشاط ثقافي يعنى بتكريم مجلة العربي الغراء فأثار لدي ذكريات الأيام الغابرة، أيام انفتاح ذهني على القراءة والمطالعة، فكانت هذه المجلة من أوائل ما قرأت، فعشقتها أيما عشق وتعلقت بأعدادها واحدا تلو الآخر، فكانت قصتي معها نابعة مما كتبته أولا عن مدينتي، مدينة شنقيط، وقد دخلت المجلة إلى موريتانيا من خلال ذلك العدد الذي أعده سليم زبال وأسكار متري، ومن خلال ذلك العدد قررت المجلة أن تعرف بالشعب العربي الموريتاني، والذي ساعتها لم يقبل بعد ضمن شعوب جامعة الدول العربية، فكانت السفير الحقيقي لدى تلك الدول في أن تتعرف على هذا الشعب العربي البعيد عن جذوره، فعرفت بثقافته، وعاداته وتقاليده، وكانت أول مجلة تطلق على الشعب الموريتاني شعب المليون شاعر، وبذلك انتبه العرب أن لهم أختا تدعى موريتانيا، تقبع بعيدا وفي أقصى منطقة من القارة الإفريقية.
وبما نشرته المجلة في ذلك العدد الرائع، جاءت بعض الكتابات عن شعر موريتانيا، وكان مقال الدكتور طه الحاجري من أهم ما كتب العرب عن إخوانهم في هذا البلد، فقد اعتمد عليه جل من كتب عن الشعر الموريتاني، فلا تكاد تجد أطروحة عن الشعر الموريتاني إلا وترجع إليه، ثم بعد ذلك خص الدكتور شوقي ضيف جزءا من تاريخ الأدب العربي عن بلدي موريتانيا.
إن دخول موريتانيا إلى الجامعة العربية، هو ثمرة لما كتبته مجلة العربي عن هذا الشعب العربي، ولما قام به أبناء هذا البلد من جهود لإثبات ما كتبته المجلة من أحقية لهم في الالتحاق بركب العرب في جامعتهم.
وقد قامت مجلة العربي بعدة استطلاعات أكدت فيها فكرتها، وتعلقها بهذا البلد العربي الإفريقي الخير، وبينت كثيرا من الأوجه الثقافية، والعرى المتينة التي تربط القوم بجذورهم البعيدة الغور مع عرب الجزيرة العربية، والتقطت كثيرا من العادات والتقاليد المتشابهة.
إن المواطن الموريتاني لم يجد في أية مجلة عربية من الاهتمام والتعريف ما وجده في مجلة العربي، حيث عرفت الأعداد التي أعدت عن موريتانيا بجميع جوانب تاريخ موريتانيا، لغة وفكرا وأدبا، وعادات وتقاليد، وفنونا وغير ذلك كثير.
كان ذلك بلغة سهلة سليمة، وبصور رائعة جميلة، تنخلها المصورون بدقة وفنية عالية، ظهرت فيها بنات الوطن بجميع ألوانه، وأطيافه، فلم تفرق بين أسود وأبيض، فظهرت كل القوميات المكونة للنسيج الاجتماعي الوطني في تلاحم بديع.
وإيمانا مني بتثمين كل من أحب وطني وكتب عنه، فقد ارتبطت بهذه المجلة، ووضعت مقدراتي المالية في جمعها والاحتفاظ بها في مكتبتي، ففي أيام الصغر وأنا أدرس في مدينة شنقيط العامرة، وحين اكتشافي لها من خلال استطلاعها لمدينتي، بدأت جمعها، وتطلبتها عند كل من يعرفها، ولما رحلت للدراسة في مدينة تارودانت بالمغرب، طلبت من صاحب المكتبة أن يحتفظ لي بالعدد الشهري منها، وحين انتقلت إلى الرباط وأنا طالب في جامعة محمد الخامس، شرعت في البحث عنها عند المكتبات، وكنت أذهب تارة إلى مدينة الدار البيضاء لأتنقل في الحارات الضيقة بحثا عنها في الأكشاك القديمة التي تحتفظ بأعدادها القديمة حتى تجمع بفضل الله علي مجموعة كبيرة من أعدادها، فقررت تجليدها في مجلدات، لكل سنة مجلد، يحتوى على أربعة أعداد منها حتى حصل لدي ما يزيد على ثلاثين مجلدا وبقي الكثير منها لم تطاله تلك العملية بسبب العودة إلى أرض الوطن والاشتغال بالتدريس.
أقول بأن هذه المجلة خدمت اللغة العربية خدمة جلى بما أصدرته في أعدادها من مقالات علمية مبسطة تخدم كل مناحي اللغة، كما أنها لم تقتصر على ذلك، فقد قدمت مقالات في جميع مجالات الثقافة، سواء في الطب أو الفلك، أو النحت أو الرسم أو الخط العربي أو القصص القصير الخيالي والواقعي. وقد خدمت الأطفال في ثقافتهم، وذلك بإصدار العربي الصغير، كما كان لأهل الجغرافيا النصيب الخاص بهم وذلك بإصدار خريطة كل سنة مع عدها الخاص، فهي تقدم الخريطة كهدية خاصة، وأنا أمتلك منها مجموعة نادرة من تلك الخرائط المتقنة، الرائعة التصوير.
وفي فكرة جميلة بدأت المجلة في سنوات متأخرة تجميع بعض مقالاتها وضمها في كتيب خاص بها يسمى "كتاب العربي" خدمة للذين لم يستطيعوا اقتناء أعدادها القديمة.
وأخيرا أنوه برئيس تحريرها والمكون لفكرتها الدكتور أحمد زكي رحمه الله تعالى، فقد بلغت في عهده من الرقي الدرجة العليا، فلم يترك قطرا من أقطار العرب إلا واستطلعه، وأثرى ثقافته فعرف العرب بعضهم ببعض، فشآبيب الرحمة تترى عليه، ولمن لا يزالون يتشبثون بفكرة المجلة، أزف لهم كامل التبريكات، وأشد على أيديهم، وأهل موريتانيا يعترفون لهم بالمودة والعرفات.