يتميز الكثير من محللينا خلال قرائتهم للأحداث بالإستسلام للعواطف و إملاءات الأهواء و تنفيذ أغراض الحيز الضيق الذي قد يكون قبيلة أو عشيرة أو ديانة او مذهبا , أو جماعة أو حركة , الشيء الذي تدفع الحقيقة ثمنه بالضياع الممنهج لها هذه الحقيقة التي غالبا ما تكون مخالفة تماما لما يتشدق به المتطاولون على التاريخ , و لأن التاريخ يدفن و لا يموت فإن آلة الحفر التي هي سر قوة الباحثين عن الحقيقة تظل قادرة على إبتعاثها و صقلها .
و لكي نملك تلك الآلة لا بد ان نتحرر من العلل و الاوهام بل من الإنفصام في الرؤية و التشظي الفكري الذي تحطمت على نحوه جماجم الكثيرين من ناطحي صخور المكابرة و الإنكار , و لن يتسنى لنا ذلك إلا إذا سلمنا جدلا بأن الإنسان في أحسن تجلياته عدا الأنبياء و الرسل يظل بقوله و فعله و إجتهاداته يترنح بين الصواب و الخطإ , و في أسوء تلك التجليات يكون مخطئا يصر على الخطإ.
و هذا التجلي الأخير و للأسف هو سيد الموقف اليوم في عالمنا الذي تبتلعه الأخطاء التي منها ما هو مبيت و منها ما يقع عثرة في الطريق , لكن الكارثة العظيمة تأخذ بعدها الهمجي في كون تلك الأخطاء جملة لا تتبعها حالات من المعالجة و التصحيح بل في أغلب الأحيان تكون نتائجها الكارثية قاعدة تتأسس عليها جملة أخطاء أخرى قد تؤدي إلى بناء منظومة تتأسس بفعل الواقع المتأزم الذي صنعته تلك الإختلالات.
و ما واقع الأمة الدامي اليوم إلا نتيجة لتراكمات أخطاء لم تستطع الأنظمة و الحركات المناهضة لها قرائتها بالشكل الصحيح .
إن الأنظمة الأحادية التي حكمت و ستظل تحكم بلداننا إلى أجل غيرمسمى لا يمكن فصلها عن منظومة الفكر السائد في أذهان الشعوب , و ما دامت الشعوب راضية مطمئنة بواقع معين فإنه في أسوء حالاته يظل مناسبا لدرجة الوعي و الطموحات , و هي مزية تحقق بعض الظروف المريحة شيئا ما لتلك الشعوب على حساب الطبقة المتمردة على ذلك الحال و التي لا يجوز أن تكون أنانية في طموحاتها على حساب الغالبية التي لم تصل ذات الدرجة في الطموح.
و لأن واقعنا في الحقيقة تكاد تنعدم فيه طبقة متمردة محصنة ضد الشذوذ و العاهات المختلطة بجرعات الوعي الوسخ الذي يصدره الغرب في غلاف الحرية تارة و الديمقراطية تارة و حقوق الإنسان تارة أخرى , فإن تلك الطبقات لا تلبث أن تتحول إلى ماكنات تدور في فلك الإنسلاخ من القيم الأصلية متوشحة التودد و التزلف إلى صدء الفكر المستورد , الذي يحمل في طياته هدم البنية المطمئة الراضية المستسلمة.
لقد جبل الله الإنسان كما كل الكائنات بل و كل عناصر الطبيعة على حب الإستقرار و التوازن , و الطمأنينة , و بذلك الطيع فإن الشعوب تروم العدل و الإحسان لكن في حدود قابليتها للفهم و حاجتها التي تتفاوت بين المجتمعات مما يضحد القياسات ذات الفارق في التوقيت و المكان والزمان , حتى إختلاف العادات و التقاليد و المأمورات و المحظورات , إلى جانب التواقت غير المنسجم بسبب التفاوت العلمي و التقني , و وسائل التعبير و الإفصاح , و قدرة المتلقي على التفاعل و الفهم ردة الفعل.
لا يخفى على عاقل اليوم أن ما حل بدار الامة من غوغاء صبت فيه زيوت الفتنة على نياران الجهل و الحميات لم يكن وليد صدفة , و لا نتيجة تراكم عقلي و لا همزة وصل بريئة بين ماضي يسوده الظلم و حاضر ينتفض على الظالم , بل هو تراكم لسوء التفاهم العبثي و همزة وصل بين العبثية في التأثر و همجية الغوغاء , و بالتالي فنحن أمام مفارقات يتم تفكيكها على الأرضية الخطأ و بالتالي فإن أي توقع لذلك التحليل و التفكيك لا يمكن أن يؤتي النتائج المتوقعة , و بالفعل فإن ما يحصل اليوم في بلداننا المطحونة يالغوغاء لا يتطابق مع نتائج التفاعل المتوقعة أصلا .
و لكي لا تظل الغوغاء سيدة الموقف فإنه من الضروري إعادة قراءة الوقائع بتجرد يكبح شهوة التنفيذ الأعمى , و يعطي للشعوب فرصة أن تعيش التدرج الحتمي , أما عن الفئات الحالمة التي آثرت التمرد فلا شك انها إستوعبت الدروس المستخلصة من الغوغاء التي لا تجلب الحرية و لا تقيم العدل , و لنكون منصفين فقد ذاقت الشعوب ويلات مرارة الحكم الظالم و قسوة التمرد الهمجي الذي لم يكن غاية في حد ذاته , بل بلاءا مبرما طار كالنار في الهشيم .
إن الشعوب اليوم و هي تبكي الماضي القريب , لا تبكيه لانه جنة النعيم , بل تبكيه لأن الدمعة قريبة , قد تذرف لابسط المفقودين , لكنها تظل دمعة تدل على البكاء و تعبر عن الحزن , و كأنها تلعن من إعتصروا حلم الحرية المغشوشة بأصابع الغوغاء المدمرة.