لنبادر أولا إلى تنقية بعض الشوائب غير الملائمة التي عكرت صفاء مشهد الحداد الاحتفالي حيث تتناغم الرقصات مع الأغاني في بحر من الدموع.
فمن جهة هناك قادة القوى الغربية الرئيسية يتدافعون– وهم بالكاد يكفكفون عبراتهم- ليتباروا في تمجيد نيلسون مانديلا وكأننا نسينا أنه قبل أقل من ثلاثين سنة فقط، كانت بريطانيا
العظمى وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل -انطلاقا من مصالح اقتصادية ملموسة وحسابات جيو سياسية غامضة ومن تمالئ تمييزي جلي- تحيط برعايتها دولة جنوب إفريقيا العنصرية، باعتبارها الحفيدة المدللة "للعالم الحر" والقلعة المتقدمة لمقاومة المد الشيوعي. حينها كان المؤتمر الوطني الإفريقي بالنسبة لهم، جحرا للأفاعي الشيوعية وكان نيلسون مانديلا ورفاقه زمرة من الدمويين والإرهابيين.
كلمة الرئيس أوباما التأبينية لماديبا، كانت مؤثرة بالفعل لكن مصداقيته كانت ستتعزز أكثر لو أنه ضمن تلك الكلمة اعتذارا لشعب جنوب إفريقيا عن دعم الولايات المتحدة الأمريكية لنظام لابارتايد وعن الدور المخزي الذي لعبته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في اعتقال مانديلا سنة 1963.
هل أصبحت استراتيجية المغازلة أكثر فعالية من الممارسات البالية للتلويح بالقوة أو استخدامها؟ لقد تغير العالم بالفعل لكن ليس للدرجة التي يودون منا أن نعتقدها!
ومن جهة أخرى ينتقل الاتحاد الإفريقي إلى أرض "السيد" حيث تلتئم قمة الإليزيه حول السلام والأمن في إفريقيا، لتجمع حول الرئيس الفرنسي خمسين من قادة الدول الأفارقة. من بين ألئك القادة أمراء حرب سابقون، طغاة جبارون، متسلطون على شعوبهم، وأسوأ النهابة في التاريخ الحديث للقارة. كلهم تسمروا خلال دقيقة صمت مخادعة، احتراما لرجل ظل طوال حياته يمثل النقيض لنهم بعضهم ولتعطش بعضهم الآخر للسلطة كما ظل النقيض لخنوعهم جميعا للقوى العظمى مع استثناءات قليلة.
لقد كان قلب الفقيد موطنا للشجاعة كما كانت الإنسانية ممتزجة بدمائه، كان من بين ألئك الرجال النادرين عبر التاريخ، كان شخصا استثنائيا عاش في فترة استثنائية. وكما يقول عن نفسه فقد كان شخصا عاديا تعوزه الشجاعة إلى أن علمته الظروف الشجاعة والمثابرة.
بدأ حياته شابا مناضلا في المؤتمر الوطني الإفريقي الذي تشبع منذ تأسيسه بالقيم الأخلاقية وبمناهضة العنف وآمن بالمبادئ الديمقراطية. ومع بلوغه أصبح قائدا سياسيا ورجل حرب حين لم تترك لا إنسانية لابارتايد ووحشية مذبحة Sharpeville، أي خيار آخر أمام المناضلين من أجل الحرية سوى الخيار اليائس المتمثل في تبني العنف. حينها أسس وقاد الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الإفريقي (رمح الأمة MK ) في خطواته الأولى، ليمنح بذلك شعبه أول سلاح للدفاع الذاتي.
وفي الثلث الأخير من حياته تحول إلى رجل سلام، حين فقد النظام العنصري قدرته على الاستمرار ولاحت إمكانية التوجه نحو الحوار والشرعية والمصالحة. ظهر كموحد وكباني أمة حين تصاعدت وتيرة الخصوصيات العرقية والاثنية والقبلية (الزولو إنكاتا، القوميون الأفارقة المتطرفون)، مهددة بجر البلاد نحو الهاوية.
ومع كل ذلك، ظل طوال ما يقارب القرن هو ذاته، ليس منظرا ولا متعاليا، بل إنسانا يمتلك بعد نظر. تحركه نفس المثل نحو نفس الهدف، مركزا اهتمامه حول نفس القضايا: حرية وكرامة شعبه وكل الشعوب، كراهية الظلم والتعسف، رفض كل أشكال إذلال الإنسان.
لم تستطع فترة 27 سنة من الاعتقال –رغم ما حملته من عذابات وحرمان وإذلال ووحدة- أن تجعل الحقد يتسلل إلى قلبه ولا أن توجد للرغبة في الانتقام مكانا في نفسه، بل ظل خلالها يشحذ إرادته ويعمق تفكيره حول مجتمع جنوب إفريقيا (الأفارقة على وجه خاص) وحول مستقبل بلاده.
ولم يكن مانديلا البطل الوحيد خلال المسيرة الطويلة نحو حرية شعب جنوب إفريقيا التي بدأت قبل ميلاده بأكثر من 10 سنوات والتي بقيت منها أشواط قد تكون مؤلمة، يتعين قطعها في المستقبل. فهناك العديد من الرجال النساء من بينهم من سبقوه ومنهم من كانوا رفاق دربه أو خصومه خلال الكفاح الطويل والشرس ضد لابارتايد.
وإذا كان من ظلم التاريخ أنه لا يحتفظ سوى بأسماء قليلة من بين الأبطال العديدين الذين يساهمون في صنع ملحمة، فإن هؤلاء يستحقون التعريف بهم: آلبرت لوتولي، والتر وآلبرتين سيزولو، جويي سلوفو، أوليفييه تامبو، آمهيد كاذارتا، جووان امبكي، ليونيل برنستينه، ألياس موتسوواليدي، ويني ماديكيزيلا-مانديلا، دينيس جولد بيرغ، روبيرت سوبوكوي، ابريتن ابريتن باش، ديسمون توتو، واستيف بيكو الذي توفي تحت التعذيب. زرزت افيرست وديلسي سبتمبر اللذين صفتهما الاستخبارات الخاصة لجنوب إفريقيا.
وسواء كان هؤلاء أعضاء في المؤتمر الوطني الإفريقي أو في منظمات حليفة أو منافسة له (المؤتمر الإفريقي، حركة الضمير الأسود) أو رفاق درب بسطاء، فإنهم جميعا رفعوا عاليا صوت شعبهم ودافعوا عنه خلال لحظات حاسمة من تاريخ بلادهم.
من بين هؤلاء الرفاق، برز مانديلا بمواهبه المتعددة الكفيلة بصنع القادة الاستثنائيين: الذكاء، الشجاعة، قوة العزيمة، الهيبة، خاصية إدراك الأهم، وإيمان لا يتزعزع بالإنسانية.
انطلقت أسطورته فعليا قبل خمسين سنة بافتتاح محكمة "ريفونيا" في يوم 9 اكتوبر 1963، التي ضمت إلى جانبه بعض قادة المؤتمر الوطني الإفريقي ومنظمات ديمقراطية أخرى. كانوا متهمين بالعصيان والخيانة ويواجهون خطر الحكم بالإعدام. كانوا سودا وبيضا وهنودا؛ مسلمين ويهود ومسيحيين أو ملحدين؛ قوميين، ديمقراطيين أو شيوعيين. كان المثال الذي يؤمنون به وكفاحهم المشترك، يعلن –ثلاثين سنة قبل أن يحين الوقت- ميلاد الأمة التي ستشرق من فوق حطام نظام التمييز العنصري.
كلهم يجدون ذواتهم في المرافعة البديعة "الرائعة مثل الهواء الطلق"، لنيلسون مانديلا أمام قضاته: "طوال حياتي وهبت نفسي لكفاح الشعوب الإفريقية، حاربت ضد هيمنة البيض كما حاربت ضد هيمنة السود. تعلقت بمثال مجتمع حر وديمقراطي يتعايش فيه الجميع في تناغم وفي ظل المساواة في الحظوظ. وهو مثال آمل أن أعيش من أجله وأن أتمكن من تجسيده، لكنني عند الضرورة سأكون مستعدا للموت في سبيله".
لم يكن مانديلا رجلا بلا نواقص وبلا أخطاء، وقد مكنه تواضعه وذكاؤه من الاعتراف بذلك وبالتالي من رفض وضعه في مصاف القديسين والمخلصين. وما يثير الغرابة من هذا المنظور أنه نموذج يكاد يكون فذا: ذلك أن هذا الزعيم والقائد الكاريزمي لا يثير الخشية ولا الإجلال، بل الحنان والتقدير والمحبة.
صحيح أن المساومة التاريخية التي قضت على نظام لابارتيد وآذنت بميلاد جنوب إفريقيا جديدة، تركت مظالم عديدة معلقة، غير أنه مهما كان حجم النقد الموجه لها –جديا كان أو منحازا- ومهما تعددت نواقصها وتراكمت المطالب المتعلقة بها، فإن مبدعها نيلسون مانديلا –مع رفاقه في الكفاح وآلاف المناضلين والضحايا المجهولين- يبقى هو من نجح في تحويل أشعة لابارتايد المسمومة إلى قوس قزح يشع بألوان الإنسانية.
ما الذي بقي لنا منه...
لا يتعلق الأمر بذكرى ل"رجل عادي" عاش في دولة تمر بمرحلة عصيبة، تفرض عليه التمرد على القواعد السارية المفعول وتجاوزها.
ولا يتعلق الأمر فقط بصورة مناضل من أجل حرية وكرامة الشعوب، حساس تجاه شتى أشكال الظلم، متعاطف مع كفاح الشعوب الأخرى ضد الهيمنة الاستعمارية والاحتلال: "نعرف تماما –كما يقول- بأن حريتنا لن تكتمل من دون حرية الفلسطينيين".
كما لا يتعلق الأمر فقط بالمواقف النبيلة لقائد شهم، وفي لصداقاته لا يتردد في تحدي القوى العظمى في سبيل رد الجميل أو القيام بواجب التضامن تجاه من يتعرضون لأي شكل من أشكال الظلم (كوبا، العراق، فنزويلا، ليبيا).
نحتفظ منه كذلك...
بابتسامته فائقة العذوبة والقادرة –حتى من خلال شاشة تلفزيون- على انتشالك للحظة من واقعك اليومي وإقناعك بأنه من "الجميل والمشروع" أن تكون إنسانا.
بهالة النور التي تسكن كيانه وتتلألأ حوله، لتمنح كل كلماته وحركاته مفعولا يلامس الروح قبل أن يهز الجسد.
بتلك النظرة الوقورة وتينك العينين الضحوكتين والقادرتين على اختبار العالم والرجال وسبر أغوارهم لاستخراج أفضل ما يخبئون.
نحتفظ منه بذلك الحماس الطفولي، وأخيرا بتلقائيته وبتصرفاته غير المتوقعة والمحيرة التي تميز الأشخاص الاستثنائيين: آينشتاين يخرج لسانه؛ مانديلا، الجد، يرقص وسط الجمهور ووجهه يتهلل سعادة، على أنغام Johnny Clegg أو Brenda Fassie. آه ماديبا!
وإذا كانت الذكرى هي أحد أشكال الوفاء، فإن أفضل خدمة تقدمها الأجيال الحالية والمسقبلية لكل ما كان يمثله مانديلا، ليس التغني بالأمجاد الماضية، بل العمل على صنع مآثر جديدة تضيء المستقبل وتفتح المجال واسعا أمام عوالم أخرى من الحرية والعدالة، من الموسيقى والبهجة.
حفظ الله إفريقيا!