اعتادت شعوب العالم أن تحتفي باليوم الوطني بنشوة غامرة وحبور لافت كتعبير عن الانتماء لوطن تفخر وتعتز به وتبالغ بعض الشعوب في الحديث عن انجازاتها الحضارية دون أن ينتقص ذلك من أهمية المناسبة لكن أن يتم التغني والتباهي بمنجزات وهمية لا أساس لها علي أرض الواقع فتلك سابقة وخصوصية ننفرد بها نحن الموريتانيون دون سوانا من الشعوب!
الدولة الموريتانية ولدت خديجا غير مكتمل النمو في عملية قيصرية شكلت تحديا تاريخيا لسكان هذا الإقليم الذي سمته فرنسا بموريتانيا في محاولة لاقتطاع هذه الدولة عن سياقها التاريخي كنشاز في منطقة تشكل امتدادا استراتيجيا لفرنسا ومع هذا انبري ثلة من الرجال الاستثنائيين الذين تنكر لهم التاريخ والأحفاد لبناء الدولة الخديج فشرعوا من تحت خيمة في وضع أسس دولة موريتانيا.
عند إدراك ظروف النشأة وما اكتنفها من تحديات ورهانات يجعلنا ندرك كم كان الآباء المؤسسون رجال دولة استثنائيين حيث قدموا وطيلة عقدين من الزمن نموذجا يحتذي به لتحويل المجتمع من حالة البداوة الي ما يشبه الدولة علي المستوي الوجداني والعقلي عبر سياسات التأسيس المرحلي التي كانت سائدة عالميا في وقت كانت وتائر التنمية فيه تسير بخطي وئيدة متباطئة في العالم برمته حتى العسكر الذين أطاحوا بالحكم المدني صبيحة العاشر من يوليو 1978 حافظوا علي الشكل العام للدولة الخديج حتى العام 1984.
إلا أن التراكم المعرفي الهائل الذي عرفه العالم في مطلع ثمانينات القرن المنصرم وصل حد الفيضان حيث غدت المفردة العلمية تتجدد كل سبع ثواني! في حين كان يلزم لحدوث ذلك عقود من الزمن ( عشرات السنين) خلال القرون الخمسة الماضية والمسماة بالعصر الحديث ووصل دفق المعلومات كمًا يصعب معه الحصر أو الإحاطة هذا المعطي المعرفي الذي مهد لثورة المعلومات الهائلة التي شهدها العالم في تسعينيات القرن المنصرم غيرت من مفاهيمنا وأحدثت قطيعة ابستيمولوجية مع ماضينا المعرفي وأوجدت عالما متسارع الأنفاس ومتلاحق الأحداث ولا مكان فيه للمتروي أو من لا يجاريه في سرعته الشيء الذي أفضي الي آليات جديدة لإدارة الدول والكيانات الاقتصادية واستدعي وجود تفكير مغاير للإدارة والحكم والتنمية إلا أن الملاحظ في الحالة الموريتانية وكأن كل شيء قد توقف عند العام 1984.
لن أغالي في جلد الذات أو التباكي علي الفرص المهدرة التي لم يحسن قادتنا ونخبتنا السياسية والثقافية في اغتنامها لما يزيد علي نصف قرن من الزمن ولن اكتفي بالنقد والسخط والتبرم علي الواقع المتردي كما اعتادت كتابات اليوم بل سأقوم بما يفعله نظرائي من المفكرين الاستراتجيين والنخب الثقافية في العالم التي لا تكتفي بالعويل والصراخ بل تقدم الحقيقة عارية دون رتوش أو تلميع حتى وان كانت مؤلمة وقاسية ومروعة كتشخيص موضعي ومن ثم المحاولة في تقديم تصور معرفي للنهضة وسبل الانطلاق كمساهمة مني في تقديم مشروع مجتمع مع غيري من مثقفي موريتانيا الذين يعيشون عصرهم ويستلهمون معطياته.
الدولة: الحصاد المر
آن الآوان علينا كموريتانيون ان نقر بحقيقة مرة نأبي الاعتراف بها وأن نتوقف عن اعتبار أن ما لدينا دولة, فالتعريف الكلاسيكي للدولة باعتبارها شعب وحكومة وحوزة ترابية أضحي جزءا من الماضي فكل المعطيات والمؤشرات علي ارض الواقع يشير بجلاء أننا ومنذ ما يزيد علي نصف قرن لم نتعدى مرحلة مشروع دولة ,هذا الإقرار سيجعلنا ندرك حجم التحدي الذي يواجهنا في عالم متسارع الأنفاس ويسير بوتيرة فلكية وأن نضع الأسس اللازمة للشروع في عملية البناء التي تأخرت كثيرا بعقلية جديدة تواكب معطبات العصر وباستخدام آليات التفكير الاستراتيجي بعيدا عن السخف والعبثية التي تطبع مسيرتنا السلحفائية.
منجزاتنا طيلة ستة عقود ونصف من نشأة الدولة الموريتانية تقدم حقائق صادمة ومروعة حيث وبالاستعانة بالإحصائيات الشحيحة حول موريتانيا نجد أن:
• نصيب الفرد من الناتج الداخلي 1110 دولار أمريكي. (الحد الأدنى عالميا للحياة الكريمة اللائقة بالبشر يتراوح من 2800 إلي 6700 دولار أمريكي)
• تبلغ نسبة الفقراء في موريتانيا 46% ﻣــﻦ السكان وهو الأعلى عربيا والتاسع عالميا
• يعيش حوالي 20 ٪ من السكان على أقل من 1.25 دولار في اليوم. (الحد الأدنى عالميا للحياة الكريمة اللائقة بالبشر يتراوح من 5.12 إلي 8.70 دولار أمريكي)
• يرزح 10 ٪ إلى 20 ٪ من سكان موريتانيا في حياة العبودية بصورة من الصور أي من 340000 إلي 680000 نسمة. وهي الأعلى عالميا
• موريتانيا ضمن دول القائمة السوداء لعمالة الأطفال (16 دولة) حيث تشير الإحصائيات غير الرسمية للمنظمات الحقوقية العاملة في موريتانيا إلي أن من 8% إلي 27% من الأطفال تحت سن 12 يجبرون علي ممارسة أعمال لا تتناسب مع أعمارهم.
• تحتل موريتانيا المرتبة 48 في قائمة الدول 66 المتاجرة بالبشر والوجهة المفضلة هي الخليج العربي.
• موريتانيا تملك مساحات أراض زراعية تقدر بنصف مليون هكتار أي نحو مليون ونصف مليون فدان، منها 137 ألف هكتار تروى بمياه نهر السنغال ونحو 240 ألف هكتار تروى بمياه الأمطار أما الباقي فيروى بمياه السدود، يعمل في القطاع الزراعي نحو 60% من إجمالي القوى العاملة الموريتانية مع ذلك فموريتانيا تستورد 70% من حاجاتها من المواد الغذائية(للعلم نصف مليون هكتار من الأراضي الزراعية تكفي لإطعام 12مليون شخص بالطرق البدائية و35مليون بالطرق الزراعية الحديثة).
• تمتلك موريتانيا 18مليون رأس من الماشية ومع ذلك لا تمتلك صناعة حقيقية قائمة علي هذا المصدر.
• تمتلك موريتانيا 2.4 مليون نخلة تشكل نسبة 3.4% من نخيل العالم ومع هذا لا توجد صناعة قائمة علي هذا المنتج ولا تصدر موريتانيا التمور للأسواق الخارجية في حين أن تونس التي تمتلك 1.76 مليون نخلة وتصدر 35% من تمورها للأسواق الخارجية تدر عليها ضعف ما يدره خام الحديد علي موريتانيا(أهم مصدر للدخل في موريتانيا).
• حسب تقرير لجنة الخبراء السنوي رقم LCTU67893 في المنظمة الدولية للسياحة الصادر في 23 أكتوبر 2012 فان موريتانيا تمتلك كل المقومات لتكون الدولة الرابعة عالميا في مجال السياحة الصحراوية (للعمل عائدات السياحة الصحراوية في الدولة رقم 5 عالميا الأردن هو 3.1 مليارات دولار سنويا أي سبعة أضعاف عائدات حديد موريتانيا).
• في موريتانيا 713 صحيفة ومجلة المرخص منها 390 (للعلم في سوريا 194 صحيفة ومجلة منذ العام 1830 و حتي العام2011 وعدد سكانها يزيد علي العشرين مليون نسمة).
• في موريتانيا 34 حزبا سياسيا(للعلم في الولايات المتحدة 6 أحزاب الفاعلة منها حزبان فقط).
• في موريتانيا وبعد 63 سنة من الاستقلال 5% من سكانها لازالوا بدو رحل.
• 12% من سكان موريتانيا لا يتمتعون بسكن و 88% الباقية يسكن 79% منهم في مساكن غير لائقة ولا تتوفر علي ابسط سبل العيش الكريم.
• استهلاك موريتانيا السنوي من الكهرباء 230,6 ميغاوات (للعلم يستهلك قطاع غزة وهو تحت الحصار الخانق 450 ميغاوات)
• 18.8% من الموريتانيين يتمتعون بخدمات الكهرباء
• الأسر الموريتانية التي تحصل علي خدمات الماء الصالح للشرب 43.7%
• موريتانيا تصدر متوسط 95 ألف طن من السمك سنويا يدر عليها 303 مليون دولار في حين أن ماليزيا التي تصدر 37 مليون ألف طن يدر عليها 4 مليار دولار.
• موريتانيا التي تعتبر احدى الدول المصدرة للسمك لا تتوفر علي صناعات سمكية حقيقية.
• يبلغ إنتاج موريتانيا من خام الحديد 12 مليون طن سنويا وبعائدات سنوية تتراوح من 435 إلي 550 مليون دولار أمريكي في حين أن مصر التي تنتح اقل من مليوني طن سنويا تتحصل علي عائدات تفوق مليار دولار أمريكي.
• تحتل موريتانيا المرتبة 150 عالميا بعد فلسطين في قائمة الطرق المعبدة في عموم البلد
• بـــــ5147 كيلومتر من الطرق المعبدة, أنشأ 46% منها في حقبة الرئيس الراحل مختار ولد داداه (للعلم مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة 6247 كلم مربع) مساحة موريتانيا تعادل 165 ضعف مساحة غزة والضفة ويبلغ عدد الطرق المعبدة في مالي 18709كلم وفي النيجر 18550 كلم.
• تحتوي موريتانيا علي أهم المعادن التحويلية كالحديد والنحاس والجبس والذهب ومع هذا لا يوجد بها مصنع واحد قائم علي هذه الخامات.
• الأمية تصل في موريتانيا إلي أرقام قياسية حيث43% من السكان يقعون في هذه الخانة.
• متوسط العمر في موريتانيا 51.24سنة للذكور و55.85 سنة للإناث وبهذا تحتل موريتانيا المرتبة 187 في قائمة دول العالم البالغة 221 دولة.
• ميزانية موريتانيا البالغ عدد سكانها 3.5 مليون نسمة هي 977 مليون دولار وهذه الميزانية بالكاد تعيل ربع مليون نسمة في ظروف تقشف صارمة.
• عدد المستشفيات الكبيرة في عموم موريتانيا 2 والعيادات المجمعة 1 وعدد المستشفيات المتخصصة 4 (مستشفي إمراض القلب ومستشفي الإمراض النفسية ومستشفي السرطان ومستشفي الأم والطفل ) وكلها بدائية وخدماته من فئة F-.
• عدد الأطباء المتخصصين 220 وعدد الاطباء العامون 300 وعدد العاملين في القطاع الصحي 1200 طبيب وممرض وفني بمعدل طبيب لكل 10000 نسمة وهو المعدل الأدنى عالميا وقد حددت منظمة الصحة العالمية بان الحد الأدنى لتوفير خدمة الكفاف الطبية هو 23 لكل 10000 نسمة.
• تبلغ نسبة المدارس 4189 مدرسة فقط 6 منها تنطبق عليها مواصفات المدرسة بمعايير العالم الثالث.
• تبلغ نسبة البطالة 33% من القوي العاملة 95% منها شباب.
• 5000 من العاطلين من حملة الشهادات العليا حوالي 1000 منهم من حملة الماجستير و الدكتوراه.
• موريتانيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك شبكة صرف صحي.
أزمة مجتمع
لغة الأرقام أعلاه تقدم حقائق صادمة ومروعة عن حجم الهشاشة وإهتراء ما يسمي بالدولة الموريتانية ويؤشر إلي غياب شبه كلي للخدمات الضرورية لأي تجمع حضري مما يعني أن عدم الإحساس بهذا المأزق الوجودي لدي النخبة السياسية والثقافية لدليل واضح أن أزمة موريتانيا هي أزمة مجتمع بالمقام الأول وليست أزمة سياسات حكومية آو برنامج سياسي انتخابي.
تساوقا مع ما ورد أعلاه أري أن حرص المعارضة وجل النخبة السياسية علي التركيز علي الشأن السياسي كالتداول السلمي للسلطة والانتخابات والدستور تعتبر ضرب من الترف الفكري وخبل في الفكر وشطط تأباه الفطرة السوية, فمجتمع يعاني غالبيته من الفقر حد العوز والحرمان والجهل وتحاصره الأمراض من كل حدب وصوب لا يمكن أن يحل مشاكله بالديمقراطية التي في ظل العقلية السائدة المتخلفة ستمعن في تحذير تخلفه. ما تحتاجه موريتانيا هو طبقة سياسية جديدة ذات فكر استراتيجي و تدرك آليات وسبل بناء الدولة في عصر العولمة بفكر مغاير لما هو موجود والعبء هنا يقع علي النخبة المثقفة التي ينبغي عليها أن تشعر الشعب الموريتاني بخطورة الوضع الكارثي.
موريتانيا تحتاج لمن يدرك إنها في أمس الحاجة إلي خطة مارشال مستعجلة لانتشال المجتمع من وهدة التخلف والجهل والمرض والفقر, موريتانيا تحتاج إلي رجالات دولة أفذاذ من طراز مهاتير محمد يتسلحون بالعلم ويضعون خطط تنموية بآماد زمنية محددة مع توظيف كل السبل المتاحة لتوفير الرساميل اللازمة للتنمية دون إبطاء.
القنابل الموقوتة كالتطرف الديني وانجرار شريحة عريضة من الشباب وراء الجريمة المنظمة وعالم المخدرات والشرخ الذي يزداد اتساعا مع الأيام للوحدة الوطنية مرده انسداد الأفق وغياب مشروع مجتمعي يلتف حوله كافة مكونات المجتمع الموريتاني. غياب الدولة وتقاعسها عن أداء واجبها تجاه المواطنين هو المسئول عن ظاهرة التسول السياسي حيث استشري الفساد وتدني حس الانتماء إلي الوطن وفقدان بوصلة التوجيه لدي الشباب والناشئة.
سبل الحل
عندما استمع إلي خطب الرؤساء الموريتانيون وأتتبع سياساتهم علي المستوي التنموي أحس وكأنهم لا يفقهون كثيرا في السياسة وأنهم يتصرفون بعقلية شيخ القبيلة في العصور الغابرة ويعتصرني الألم والقهر عندما استمع لسياسيينا معارضة وموالاة فأحس وكأنني أمام أجداث محنطة فغياب الرؤية وعدم إدراك حجم المأساة والتكالب علي المناصب واعتبار الوطن كعكعة يجب اقتسامها كلها مؤشرات تنم عن مدي تخلف طريقة تعاطيهم مع الشأن العام.
عندما استمع لسياسي موريتاني أو مثقف يتحدث أحس وكأن عجلة الزمن توقفت عند مضارب بني عبس وقطفان وحمير
منطق التخطيط الاستراتيجي يقول بجلاء أننا أمام مجتمع يحتاج لبنية تحتية كاملة وعلي كافة الأصعدة فكيف السبيل إلي ذلك؟.
لابد من تكوين خلية أزمة مكونة من اختصاصيين موريتانيين في كافة الشؤون التنموية وهم كثر في المراكز البحثية العالمية ومنهم من يساهم بفعالية في تحديث مجتمعات أخري تقر بموهبتهم وتقدر عقولهم النيرة وفي أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان والصين وماليزيا استراليا ودول الخليج العربي مئات من الباحثين الموريتانيين ومن العيار الثقيل هؤلاء هم من سيبنون موريتانيا حقا لأنهم عايشوا عالم اليوم المتسارع الوتائر واللاهث في سباق محموم لا هوادة فيه.
أولا : تحديد سلم الأولويات
ثانيا: ضرورة القيام بدراسات مسحية استقرائية للوقوف علي الاحتياجات والمتطلبات ووضع خطة استعجالية سقفها سنتان وأخري مداها 5 سنوات.
ثالثا: سبل توفير الرساميل اللازمة لإنشاء البنية التحتية المطلوبة
رابعا: حملة تحسيس شاملة تستهدف إشراك كافة مكونات المجتمع في عملية البناء.
سلم الأولويات
بالنسبة لدولة سكانها 3.5 مليون نسمة ومساحتها تفوق المليون كلم مربع وتحتاج لبنية تحتية شاملة علي كافة الصعد فإن سلم الأولويات ينحصر في:
1. قطاع الصحة.
2. الزراعة.
3. الاسكان.
4. التعليم.
5. الكهرباء والمياه.
6. المواصلات والطرق.
7. الخدمات البلدية.
8. الحالة المدنية.
9. الجاليات في الخارج.
10. الدبلوماسية الخارجية.
يتبع غدا إن شاء الله
د. الحسين ولد الشيخ العلوي
01/12/2013
الحمامات / تونس