أسدل الستار ـ تقريبا ـ على أكبر مهزلة عرفتها موريتانيا في ظل الجنرال أبي بدر، مهزلة الانتخابات ذات الثلاثة أشواط، وذات التأجيل السخيف، لا أتكلم هنا عن الفضائح المالية والرصاصات الصديقة بل عن الجانب السياسي الصرف !
لقد كانت انتخابات 23 نوفمبر و21 اكتوبر مهزلة بكل المقاييس انطلاقا من التوقيت الذي أشار إليه الجنرال في شطحاته في النعمة حيث قفز على اللجنة المستقلة للانتخابات التي تباهى أنه لا يعرف تواريخها إلا من خلال الإذاعة ـ "اتخطاو ذيك" ـ ومرورا بغياب أهم مكونات المعارضة الموريتانية ثم بالتلاعب والتزوير وتورط أجهزة الدولة تخويفا وإغراء في كل مراحل الحملات الانتخابية كما صرّح بذلك أغلب الأحزاب المشاركة (حتى الحزب الحاكم قدم طعونا ضد بعض النتائج)!
بالنسبة لي كمعارض لحكم الجنرال ـ بالمطلق ـ حملت هذه الانتخابات نكسات متعددة، أولها ذلك الشرخ السحيق بين مكونات المعارضة الموريتانية وهو شرخ بدأ منذ 2007 عندما دعم التحالف الشعبي التقدمي سيدي ولد الشيخ عبد الله، فضاعت فرصة شبه مؤكدة تتعلق بفوز أهم شخصية معارضة برئاسة البلاد أي السيد أحمد ولد داداه. ثم ازداد هذا الشرخ بلحاق أكثر أحزاب المعارضة تنظيما وحيوية وهما حزبا "تقدم" و"تواصل" الأيديولوجييْن بحكومة ذات صلاحيات محدودة ويقودها رموز الفساد وتظلها مظلة التطبيع، كما أنها كانت من أقل الحكومات عمرا !!
وجاءت الطامّة الكبرى في إطار هذا الشرخ، الذي أخذ كل حزب منه نصيبه بالتناوب، مع دعم أكبر حزب معارض لأسوإ انقلاب في تاريخ البلد، وكانت تلك موبقة ديموقراطية بامتياز، قبل أن يتراجع عنها ويلتحق بالجبهة في مقارعة الانقلاب لكن بعد أن لعب دورا محوريا في تشريع هذا الانقلاب خاصة على مستوى الخارج، وبعد أن فات الأوان. بينما تابع أحد مكونات المعارضة ما سماه "تفهما" للانقلاب حيث بلغ به الأمر المشاركة في حكومة انقلابية، والاستعداد للمشاركة في مهزلة 6/6 ويتعلق الأمر بحزب حاتم! دون أن أنسى طبعا مواقف المعارض مختار صار (حزب التحالف من أجل العدالة والديمقراطية ـ حركة التجديد) الذي تذبذب عدة مرات في مواقفه من العسكر والنظام بين المعارضة والمساومة والموالاة !
لقد جاءت محطة أخرى وحلقة لا تقل خطورة من مسلسل الشرخ هذا بطلها هذه المرة حزب "تواصل" منفردا، وهي عبارة عن التخلي عن حلفائه في المنسقية رغم الاتفاقيات ورغم المواقف المبدئية التي تحتم رفض أي مسار أحادي يقوم به الجنرال، فجاء مسار أحادي قام به حزب مهم جدا في مكون المعارضة الموريتانية، لقد كانت خطوة مدمرة على مستوى المعارضة ككل، وبالتالي كانت هدية ثمينة للجنرال الذي يتباهى الآن بتجديد الطبقة السياسية، أي بمقدم فسيفساء من الجزئيات المتناثرة هنا وهناك يحتل فيها حزبه الصدارة بشكل مريح جدا على مستوى النيابيات والبرلمان ولن يزعجه أي صوت ذي تجربة أو خبرة في قادم الأيام تحت قبة البرلمان هذه!
ومن نكسات هذه الانتخابات ضآلة الحصاد، حتى وإن استكثره بعض المشاركين، فـأكبر حزب معارض مشارك في هذه الإنتخابات (تواصل) لم يتجاوز عتبة 11% من البرلمان ورغم أن هذه النتيجة في ظاهرها إنجاز مهم لحزب لم يتجاوز 5% في كل الاستحقاقات الماضية بما فيها الرئاسيات التي زج برئيسه فيها على عجل، فإنها نكسة للمعارضة على المستوى الوطني حيث سبق وأن حصد أكبر حزب معارض (التكتل) حوالي 20% من البرلمان المنصرم!
كما أن نتائج البلديات بالعاصمة كانت نكسة أخرى، إذ حصد الحزب الحاكم خمس مقاطعات في سابقة من نوعها منذ سقوط نظام ولد الطايع !
لكن يبقى أسوأ ما ساءني في هذا الانتخابات ـ وكلها سيئة ـ هو انحطاط الخطاب السياسي وخاصة ما ترجمَ منه تباينَ الآراء والمواقف بين مكونات الأحزاب المعارضة المقاطعة والمشاركة، وأخص هنا بالذكر حزبيْ التكتل والتواصل، فقد فضحت هذه الانتخابات مدى تخندق الطلائع الشبابية في الحزب واستعدادها لحرق كل شيء في لحظة عتب أو في صراع خفي على مصالح لا يريد أي طرف منهما الاعتراف بها (نتذكر جيد صراع الحزبين في بلدية تفرغ زين والمجموعة الحضرية ولم يكن صراعا يترجم الطبيعة المفترضة والمشوار الطويل المشترك للحزبين)، بل تمّ فيه توظيف الإشاعات والكذب والقدح، والقفز على كل شيء من أجل لا شيء !!
وطبعا لا يمكنني أن أرتاح لمشاركة أحزاب من المنسقية مقاطعة على مستويات معينة في الحملات الانتخابية خاصة إذا جاءت هذه المشاركة في مؤازرة للحزب الحاكم أو مشتقاته كما حدث في بعض مقاطعات الداخل! وهنا أشير إلى أن نزول زعيم المعارضة في الشوط الثاني فقط إلى بعض المقاطعات ربما كان له أثره السلبي على أحزاب المعارضة المشاركة فقط دون الحزب الحاكم، وهو مؤشر على خلبطة في أجندة المنسقية التي لم تنزل إلى المقاطعات قبيل ومع بداية الحملات وأثنائها وقد كان ذلك خطأ جسيما، كما كان النزول في الشوط الثاني فقط وفي العاصمة فقط خطأ آخر!
ورغم مساوئ هذه الانتخابات الجمّة ورغم أنها عقدت الأزمة السياسية أكثر بدل حلها، فقد أوضحت جانبا آخر من سوء هذا النظام وهو عدم تورعه عن أي شيء من أجل قتل الديموقراطية التي جاء أصلا على جثتها بانقلاب فج ضد رئيس مدني منتخب، حيث أذكى هذا النظام الصراعات القبلية بشكل وقح لم يسبق له مثيل، كما نشّط الصراعات الطبقية، وبلغ التزوير والتلاعب بالنتائج شكلا كنا نحسبه ولى إلى غير رجعة!
إن هذه الانتخابات أظهرت هشاشة هذا النظام ـ رغم كل شيء ـ فخروج مقاطعات وعواصم ولايات معروفة بالولاء عن ربقته، وعجزه عن حسم أي عاصمة من عواصم الولايات أو مقاطعة من مقاطعات العاصمة، في الشوط الأول مؤشر مهم على فشل النظام من جهة وزيادة وعي الشعب من جهة أخرى، رغم أنها زيادة لم يسايرها أداء المعارضة بكل تشكيلاتها مع الأسف!
إننا اليوم ـ كشباب ـ مطالبون بتجديد الطبقة السياسية وليس طبعا على طريقة الجنرال أي الإتيان ب"غوغاء" ومغمورين لاحتلال البرلمان من عشرات الأحزاب المجهرية التي انبثقت بين عشية وضحاها من ضلع الحزب الحاكم، بل بتقديم نمط جديد من النضال ضد النظام وأجندته وانتخاباته وممارساته، وبالنزول إلى عمق الشعب للتعبئة والتوعية بضرورة الإطاحة بهذا النظام عن طريق المغالبة الثورية أو المنازلة الانتخابية في ظروف مكتملة الشروط.. هذا وإلا فإننا جزء من اللعبة الأخيرة التي انتهت بنهاية أسوأ من بدايتها (game over)!