متى يبدأ الإصلاح السياسي، وهل يؤدي إلى تغيير اجتماعي..؟ / د. إشيب ولد أباتي   

لعل الساؤل عن الإصلاح، هو حديث الساعة بعد أن ورد في الخطاب  الرسمي، فتصدر  وسائل  اعلام لدرجة يتهأ للمراقب، أنه أمام نظام حكم يجدد نفسه بقواه الذاتية الفاعلة لاستلاد نظام سياسي واعد بمنجزات منتظرة،ستوظف  طفرة الطاقة المكتشفة التي سيبدأ تصديرها قريبا بإذنه تعالى.. 
وربما أن المتابعين  لما كتب - ويكتب -  في وسائل الإعلام الرسمي، والحر، و  وسائل التواصل الاجتماعي، قد أدركوا  ملامح هذا الاتجاه، ودواعيه، ولكن الذي لم يتضح بعد، هو منطلقات الإصلاح، ورؤاه، ووسائله، ولهذا نرى من الأهمية بمكان إثراء الموضوع، وتأطيره  بالعلوم الاجتماعية، ودلالة كل من مفهومي الإصلاح السياسي والتغيير الاجتماعي، والعلاقة التواشجية بينهما في نظريات " التغير الاجتماعي"، وذلك أن  مفهوم الإصلاح، ومضمونه قد لا يعبرا عن  تفضيل على مفهوم  التغيير، ومضمونه، وإنما يعكس السعي لترويج رؤى الإصلاح عند بعض القوى السياسية التي تؤمن بقيمة التغيير، لكنها  تتوجس  خيفة من نتائجه على مستقبلها، وعلاقتها الداخلية، والإقليمية، والدولية، لأن التغيير أسس - فيما أسس  - لتغيير الواقع، واستشراف المستقبل، ويستدعي تشكيل  وعي الرأي  الوطني العام، وبناء علاقات مع قوى التغيير الوطنية، والقومية، واليسارية. وهذا من شأنه أن يغير العلاقات، والتحالفات السابقة...
   بينما الإصلاح، لا يستلزم  ذلك ، وإن كان  يعني صراحة،  حصول نية، بل امتلاك الإرادة، لتلافي كل ما هو فاسد، و يعتبر ذلك  اعترافا  ضمنيا، وإقرارا رسميا  بضرورة مواجهة الفساد، إن كان ماديا، أو سلوكيا، او تخطيطا لذلك صاحب كل توجه  سياسي، ترويج للإصلاح لقبول المصلح  أولا، ولتهيئة الرأي العام  فيما قد يمثل  دعاية لكل من المصلح، والإصلاح معا، إن على المستوى الوطني، أو الإقليمي، أو الدولي..
  و كان الترويج مطلوبا للإصلاح السياسي، أوالإصلاح التعليمي، أو الإصلاح الإداري، أو المالي،  وكذلك إصلاح  البنية التحتية، كالطرق التي قد لا تكون معبدة من قبل في أغلبها، أما الذي  عبد منها في سبعينات القرن الماضي، واستدعى ترميمها إصلاحا لها  في أواخر التسعينات، فتحتاج هي الأخرى لإصلاح جديد، يختلف عن الذي حصل سابقا  التعاقد فيه مع شركة " المقاولين العرب" التي كان " تسفيلها" لطريقي " أمل"، و"روصو"  عبارة عن طلاء شفاف، وبعد سنتين بدأ الشارع يتقعر، نظرا لضعف أساساته، وتحولت  الحفر الصغيرة  إلى برك مائية في موسم الأمطار كل سنة، ونتيجة لذلك  ارتفعت نسبة حوادث السير..!

 ولعل تدوال مفهوم الإصلاح في أي مجال توجه إليه البحث، ومراقبة المتابعين،  يظهر دون جدال  غياب بديله: " التغيير"، "البناء"، " التطور"، " التنمية"، " التحديث"، "التشييد"، "الإنشاء"، ومنها الحاجة للطرق الرابطة  بين المدن، وكذلك  بناء  الحائط الواقي من الغرق المحقق  على الشاطئي لصد الأمواج العاتية، وحماية أحياء العاصمة المتاخمة للشاطئ قبيل أن تغمرها أمواج المحيط الأطلسي  في موسم الخريف..
 وكذلك "إنشاء " شبكة المياه للشرب الصالح لأحياء المدن بما فيها العاصمة نواكشوط، و"إنشاء" شبكة لمجاري المياه العادمة… 
      كما غابت - بل غيبت منذ ستين عاما ونيف - الرؤية التي ترى أن كلا من الإصلاح، والتغيير في ظاهراتهما، و مضامينهما هما اللذان يحددان هوية النظام السياسي من جهة التحديث، او بقائه خارج حيز النظم الحديثة،، وذلك على أساس المراد منها في المجتمعات الحديثة، بينما الإصلاح، أريد منه التغيير الجزئي، ولو  على مراحل، نظرا لتكاليف التغيير العمودي، وما يتطلبه في الفترة الزمنية للتغيير المخطط له، وذلك لتتسع مجالاته من قمة الأنظمة الاجتماعية، الى قواعدها، اقصد من النظام السياسي، والثقافي، والتربوي، والصحي ، والاقتصادي، والحضري، إلى تأهيل الفرد لتغيير سلوكه، ووعيه، وقل الشيء نفسه عن نظام الأسرة ..

ونظرا لاستحالة قبول التعويض عن مطالب التغيير الملحة،  لأن له اشتراطات قلما تتحقق، كالتغييريين، وتكوينهم في البيئات الاجتماعية، والثقافية المتخلفة، والقيادة الكاريزمية، أو الجماعية، والجمهور الواعي بواجباته وحقوقه معا..
ليحصل التفاعل الاجتماعي كوسيلة، لإنجاز الأهداف السامية  للمشروع الأجتماعي النهضوي..

 وربما تكون هذه هي أهم الأدوات، التي يحتاجها التغيير، وتبقى المنطلقات، والغايات، التي لها فلسفتها، وموضوعاتها في البحث.  

وهذا التقديم، يؤكد على أن الإصلاح وسيلة أولية، أو قل محطة أولى على طريق التغيير، لو استؤنف الإصلاح بفاعلية، وبتتبع خطواته وفق التخطيط الخماسي، او العشري، وبتراكمه، يتحقق التغيير، وعلى اساس هذا النهج،  تكون العلاقة جدلية بين السبب ( الاصلاح السياسي  في النظام)،  والنتيجة ( في تحقيق التغيير الاجتماعي).
 
      وفي إطار النظرة التأريخية لحلقات المسلسل السياسي -  وليس التطور المتنامي -  الذي  لا زال جزءا من حاضرنا المعيش، كما في الماضي  القريب، وفي  أن الإصلاح السياسي، أخذ شكل مبادرات فردية قام بها مسئولون وطنيون،، ولكن لم تدخل مباداتهم  مجال التخطيط الممنهج ، لهذه كانت تلك المبادات أقرب  لترقيع النظام السياسي، منها لإصلاحه، والمثال على ذلك مبادرة تعريب البنية التعليمية في السبعينات،  كما اخذ الإصلاح الترقيعي معنى مداهنة القوى الداخلية، والخارجية اللتين  لا ترغبا في البناء، والتطور، والتنمية المستدامة،،
وانطلاقا من رؤية  موضوعية في التوصيف ترى، أن  مسئولي النظم السياسية السابقين، كانوا وطنيين، لكن تكلفة البناء،  والتطور، والتمنية المستدامة، والانشاء،  والتحديث المجتمعي، حال دونها:
 ١-  العجز عن إلباس النظام السياسي مظهرا مغايرا لمشيخة القبيلة، وتحالفاتها المناطقية، وفقدان الموجهين، الأمر الذي جعل النظام السياسي يتقاعس عن دوره  في إصلاح نفسه ليكون مدخلا لتحديث المجتمع، والأنتقال بالأخير  من التخلف إلى التقدم ..

٢-  تحكم   قوى الخارج، كالأنظمة العربية الرجعية التي مارست الإخضاع في النظام السياسي  منذ السبعينات، ومن أسباب ذلك  الحاجة الماسة للأمكانات المالية نتيجة لمحدوديتها، نظرا للتخلف الاجتماعي، ونسبية الكثافة السكانية، وقلة  القوى العاملة في المدن، والأرياف، ومحدودية الموارد الاقتصادية، والاعتماد على  التنمية الحيوانية، وتوقف الأخيرة بسبب العوامل البيئية، والمناخية  بعد  الجفاف الذي استغرق الفترة الأطول(1969- 1985)…

٣-   الأستجابة الصورية للفرنسيين، بتبنيهم  لقرارات  الأمم المتحدة  التي فرضت على المستعمرين  إعطاء  الشعوب المستعمرة  استقلالا بموجب القرار  1514  لسنة 1960م.

٤ - الحرب على الحدود الشمالية مع الإخوة الصحراويين، وكانت غير مطلوبة وطنيا، واستجاب لها النظام تحت تأثير الضغوطات الخارجية  لكل من اسبانيا، والمغرب، والتحفيز الفرنسي للدفاع عن موريتانيا بموجب الاتفاقية المبرمة للإستقلال، وثبت  ميدانيا، أنها اتفاقية  القصد منها الخداع، والتضليل، والسيطرة الاستعمارية...! 

٥ -  الصراع السياسي بين الانقلابيين في الفترة(1978- 2009)

 ٦- "التكيف" - بمعناه في علم الأجتماع -  واقصد به احتواء النظام السياسي  الذي حصل  بادماج قادة الماركسيين - الكادحين- في الحزب الواحد " حزب الشعب"، وقد يكون السبب تعديل الدستور  قبلئذ لحظر التعددية الحزبية التي طالب بها الراحل "بوياكي ولد عابدين" رحمه الله تعالى، وكان مناضلا وطنيا  فعارض النفوذ الفرنسي وهو وزير للمواصلات، فأقيل ، وبقي معارضا في الداخل، وتوجس خوفا  منه النظام، وكثرت التلميحات إلى تسميمه في العزومة التي استدعي لها في القصر الرئاسي، وكان حقا بمثابة مسمار نعش في نظام المختار ولد داداه رحمه الله..
و في عهد الانقلابات خلال الثمانينات، ظهر  حراك سياسي جديد  بهويته الوطنية، والقومية، ا
وروج للمشروع الوطني السيادي،  لكن تلك القيادات،  وجدت  البوليس السياسي مجندا ضدها، فأصدر تقارير مفبركة، اقنعت القادة العسكريين - وهم وكلاء فرنسا، لكونهم من خريجي المدرسة العسكرية الفرنسية في أطار، وأجرى بعضهم دورات في فرنسا غسلت ادمغتهم، ورجعوا منها، وكان  النموذج الفرنسي هو المثال الناصع في  الثقافة، والتبعية في مختلف المجالات من العسكر، والثقافة، إلى السياسة، و الاقتصاد، وعلى أن ذلك، هو  السبيل الأوحد للتطور البطيء الذي، قد لا يحدث، على غرار عجز المحتل الفرنسي عن " التحضر" الذي برر  به الاحتلال  منذ  أواخر القرن التاسع عشر، وبداية
القرن العشرين..!
   وغداة حكم العسكريين بمجيء الرئيس محمد خونا ولد هيدالة،  صور لهم البوليس السياسي، أن  الحراك السياسي الوطني، يهدف   لزعزعة الأمن الداخلي، كمرحلة اولى، واستبدال النظام في المرحلة التالية...
 واستغرقت تصفية التيارات السياسية مرحلة من التعطيل لآليات الإصلاح السياسي، إذ انكفأ النظام يصارع عدوا وهميا، والضحايا من التلاميذ  الأبرياء، والمعلمين، واساتذة الثانويات، والأطر الجدد في الإدارة،  وامتلأت السجون، وحصل القتل، و التصفيات  الجسدية، والتعذيب في قاعات الشرطة الذي أودى بالمئات من الشباب  تحت التعذيب، والموت بعيد الخروج من السجون، 
وكان التعذيب الإجرامي مبرره، وجود  قناعات وطنية  تختمر" كمونيا"  في أذهان الشبيبة الموريتانية، دون أن يسجل على الحراك السياسي قمة، وقاعدة، أي تخريب   للمؤسسات العامة، أو مظاهرات، او الصدامات عنفية مع قوى الأمن الوطني، فقط الكتابة على الجدران المطالب الوطنية..!
 ولعل المسئولية عن هذا الإجرام في حق المواطن، والوطن، تقع على :
١ عاتق قيادة النظام السياسي، 
٢- و البوليس السياسي من جهة، 
٣ - و القوى الماركسية التي اندمجت في النظام السياسي منذ الستينات، وكانت بمثابة  العقل الباطني للنظام، والعقل التوجيهي لقوى الأمن بتقاريرها المفبركة، وذلك  لتصفية الحراك السياسي الوطني القومي العربي بتياريه:  الناصري، والبعثي، واستتبع ذلك اخراج من العمل كل من انتمي سابقا حتى في  المرحلة  الإعدادية فما فوق،  فاقصي المئات من الأسلاك العامة، كالأمن الوطني، والجيش، والإدارة، والتعليم، والصحة، ومؤسسات الدولة  كالسفارات والقنصليات في الخارج..!
 وقد يتساهل القارئ عن المفارقة في الاخلاق، والوعي، والانتماء للوطن، وللمجتمع المسالم،  عمن صدر منهم هذا السلوك الخشن الذي دمر أسس الحراك السياسي الوطني، وعطل  دور الدولة في الإصلاح، والتحديث  طيلة  حكم العسكر في الثلاثين سنة الماضية، هذا من جهة، 
وبين أول  عملية إقصاء لرموز الحراك السياسي  - في الستينات - بارسالهم في بعثات تعليمية الى الأقطار العربية، وغيرها، ثم  قام النظام برئيسه الواعي، خريج الحقوق، ودمج  رموز التيار الماركسي - الكادحين -  في "حزب الشعب".. 
بينما الماركسيون قاموا بالإشراف على  التعذيب،  لابناء وطنهم، وحرمانهم من حقوقهم الوطنية، و تلزيم الأنظمة التالية عدم الاعتراف بما ارتكبت من جرائم في تختيم الأطراف، وحرمان الأرامل الذين فقدوا ازواجهم، ووالآباء في قطع اعقابه، والأمهات اللأئي فقدن ابناءهن....؟!
  ولا يستغربن أحد دور محكمة الضمير في التعذيب النفسي الذي دفع  أحد قادة الكادحين" أبرز العقول المدبرة"  في إطار التكفير عن الخطايا بالأعتراف  بها في مقال كتبه منذ شهور، ولكنه اعتراف سلبي على طريقة اصحاب الملة الاخرى في أوروبا القرون الوسطى..
  وقد حمل النظام الذي كان جزءا منه، التجاوزات التي تعرض لها قادة الأنقلاب من الإثنية الأخرى في أواخر الثمانينات..!
     ومن نتائج الدوران في حلقة مفرغة من التطهير السياسي،  حصول تناقضات مضحكة، مبكية معا، كزعزعة القناعات عند الفئات العريضة من الحراك السياسي الوطني،  و توظيف البعض لقناعاته خدمة للنظام الأمني، فيما يعرف بمتلازمة " ستكهولم" في دفاع السجين عن السجان، النظام الأمني في هذه الحالة...!
وأضحى الإقصاء السياسي مرغوبا لدى قادة الحراكات السياسية، وذلك لابعاد قواعدهم  عن العمل السياسي المنظم، وذلك لأسباب أسوؤها، وأخطرها، تأثير عامل الزمن، كالتقدم في العمر، وغياب الدافعية، وتأثير الحوافز المادية، ولذلك حصل اتفاق آثم مع رموز الحراك السياسي لحرق الأوراق السياسية لقادة التيارات الإيديولوجية، و لم يبق  مبرر للمماحكة السياسية  مع النظام ، واقتصر الدور على الترويج  للوعي  العدمي، واللامنتمي، و"المرتنة" في مقابل العروبة، وكان هناك تناقض بينهما،  و" الفرنسة " في مقابل التعريب، وذلك في عملية ممنهجة لمسخ الهوية الوطنية والدينية، والعربية، وذلك  تيئيسا موجها أساسا  لقواعد  الحراك السياسي، والمجتمع العام، ومستقبل أجياله، ومصير البلاد،  كما كان ذلك تمهيدا ل " تمويت" الوعي سريريا منذ التسعينات، وفي المقابل حصل  تفعيل العناصر القبلية، والجهوية، والإدارية،  وتوظيف النخبة الإدارية، وتحوليها إلى نخبة  سياسية" سدينية"، وذلك للتنظير للحزب الجمهوري، وهو الحزب  العتيد الذي يجدد اسمه، ولكن  بقي مسنودا للنظام السياسي الحاكم، وتفريخ " كتاتيك"  الأحزاب القبلية الأخرى التابعة  لحزب النظام، وأكبر دليل على ذلك توظيف هذه  الاحزاب ، لتتظاهر بالمعارضة قبل الانتخابات الرئاسية التي لابد من أن تتجند لانجاح الرئيس، لكن مسموح لها بأن تتظاهر بمعارضة الحكومات  في البرلمان، وبإلقاء الكلمات فارغة المعنى، و بعد ذلك لا تتوارب تلك الأحزاب بالإيعاز لنوابها للتوقيع  على قرارات رؤساء الحكومات على ميزانية  السنة، لأن أفراد الحرب الحاكم هم نواب الأغلبية في البرلمان الموريتاني،  و لا يختلف عنهم  في شيء نواب التجار المستقلون، ومعظمهم من اصحاب العلاقات  المسنودة من طرف المستثمرين ..!
 وقد  كان لهذه السياسة الآثمة  دورها المعطل للمبادرات الإصلاحية، وتوقف آليات التغيير الاجتماعي، لذلك رجعنا بالقارئ إلى موضوع المقال عن  إصلاح،  وما أفسده الدهر، و أفسدته قوى سياسية خانت وطنها، وضميرها،  فقامت بإرادة واعية وتصميم  أناني، و ببواعث الأستنفاع الذاتي، كغاية.!

 ولنأخذ على سبيل المثال ظاهرة   حصلت، وتحدث عنها الإعلام الحر في أواخر التسعينات، فلفتت انتباه الرأي العام، ذلك  أن معظم الوزارات قامت في فترة متزامنة بترميم مكاتبها، و الرفع من الأسوار حتى صارت الوزارات  بمثابة ثكنات عسكرية..
وهنا ظهر  أن  التوغل في الفساد المالي، لم يأت في غفلة من الزمن، بل كان  يجري في واضحة النهار،   فالمدراء، والكتاب العامون في الوزارات، وجد بعضهم، أن الميزانية المالية المخصصة لمؤسساتهم، لم تنفق كلها، وبقي في خزائنها ارصدة مالية، الأمر الذي  يلزم عليها، ارجاع المال للخزينة العامة،  فما كان من هؤلاء (المسئولين)، إلا  أن استحوذوا على الأموال المتبقية، بواسطة استحداث  الترميم المفتعل  للمكاتب، وزيادة الأبواب، والنوافذ، ورفع الحيطان  المسورة لأبنية الوزارات..!
وقد وجرى ذلك  في الشهور الأخيرة من السنة المالية لسنة ١٩٩٩م.
بينما غاب عن وعي المسئولين  الإصلاح المالي الذي كان موجودا في تراثنا الثقافي، والمعتقد  الديني، لكن غابت المسئولية والرقابة  في مؤسسات نظام الحكم طيلة  عمر جيلين، ومع ذلك  لم تتوقف ابواق الدعاية عن الإصلاح حتى في فترة معاوية، أسوأ نظام عرفته موريتانيا منذ الاستقلال،،!!
 وفي عنوان عريض كتب استاذ علم الاقتصاد في جامعة نواكشوط: " النظرية الأقتصادية في خطاب معاوية"، وهذا الذي حفز  صاحبه، وهو  استاذ جامعي، عين  في الوزارة حديثا حينها، أن يقفز من فوق  مقعده كلما تلعثم رئيسه في خطابه المرتجل بالعامية،  قائلا " صفقوا لمعاوية، صفقوا "، ولم يقف ، أو يصفق إلا هو..!!

ولعل تعدد الأصوات، وارتفاعها من أجل  الإصلاح، هو  من المتواضع عليه في المناسبات، كمواسم الانتخابات الرئاسية، والتشريعية، والبلدية،، وذلك للدعاية، رغم  أنالإصلاح السياسي مطلب ملح  نظرا لاتساع الفتق على الطبابة،   لذلك فالطبيب السياسي مطالب بإصلاح استعجالي، لأن النظام كله مثخن بالجراحات والنزيف الذي  يجري من كل شرايين الجسمين  السياسي، والأجتماعي، فمن الأول الدواء، يستمد، ومن الأخير الداء، يتبدد…!
   ومن هنا فإن الإصلاح السياسي المطلوب، هو في ذات النظام ، ولذاته  قبل كل شيء..
 وإذا رفع النظام مبضعه عن جتثاث الفاسد المهدد للنظام، والمجتمع العام، فهناك بديل، يصبح هو الحل الوحيد، ألا وهو التغيير، هذا  القانون الكوني الموجود في الطبيعة، والاجتماع البشري، كما في الأنظمة السياسية ، كتداول السلطة بالانتخابات الحرة، أو الانقلابات السياسية، أو الانتفاضات الشعبية، او الثورات الاجتماعية، وعندما يأتي نظام جديد، على انقاض السابق، ولا يقوم الأخير بالإصلاح الفعلي، يكون بالتالي  امتدادا لما قبله، وفي هذه الحالة يفقد مبرره السياسي موضوعيا، لكون الأول أسقط رئيسه، بأحدى الوسائل المتاحة، لأنه  لم يستجب لمطالب الوطن، و المواطن، كحماية الوطن من التهديدات القائمة، او المتوقعة، بمعنى، أنه لم يتحمل المسئولية الوطنية في الحفاظ على الثوابت الوطنية، كالنظام الجمهوري، والوحدتين الديموغرافية، والجغرافية، وهذا الذي برر استبدال قادة الأنظمة السياسية،  ليصل عددهم  حوالي عشرة رؤساء منذ الاستقلال..
وكان في مقدور الأنظمة السابقة ذلك،  لولا تلك المتاهات التي لم  تحقق الا التخلف الاجتماعي والثقافي، والسياسي،  وانسداد الأفق فضلا عن   السادية، والتعذيب، والقتل الذي طال خيرة  ابناء الوطن من الشبية، وذلك لوأد الحراك السياسي الوطني..
 وبدلا من ذلك كان الواجب هو، التركز  حينئذ على الاصلاح التدريجي، وتراكمه، ليحصل التغيير الاجتماعي المنشود، و ينعم المجتمع بالتنمية المتطورة، والمستدامة على غرار الأقطار العربية، والافريقية بين ظهرانينا  خاصة،  أن هناك عوامل كانت مساعدة ، ولازالت  لكل من الاصلاح السياسي، و التغيير الجذري، لينعم مجتمعنا بما تنعم  به المجتمعات الحديثة، حين  ظهرت فيها حراكات وطنية، قادت الإصلاح والتغيير ، ولأن مجتمعنا قبلي ورعوي،، وليس طبقيا، لذلك لم يفرز الطبقة المتوسطة المثقفة،ولكن نشأت قوى سياسية ، وحقوقية، وعلمية، و في مقدورها ، أن تدافع عن الحقوق المدنية للمواطن، والحقوق السياسية للمثقف ، قبل أن يدجن النظام السياسي تلك النخبة" السدينية" التي كان وجودها الوظيفي تسييرا للإدارة،  ثم تطور وأصبح دورها سياسيا، يشترط في التوظيف الانتماء الحزبي.. بينما كان المطلوب أن تكون  النخبة المتعلمة بمثابة  الخيط الواصل بين النظام، وبين  المجتمع غير ، أنه استحال إلى خيط سالب، ولما احتاج الى خيط موجب،  وقد  افرزته الجامعات، والمعاهد، والبعثات العلمية، ولذات الغاية، لكن النخبة السدينة تضخمت، و شكلت جسرا قاطعا للتواصل بين النظام السياسي، وبين المجتمع المدني..!!

 واليوم حين تداولت الاخبار عن الإصلاح السياسي،  بدأت عناصر النخبة المذكورة، ترمي بالمسئولية  على رؤساء النظم السياسية وعجزها السابق عن الإصلاح والتغيير، سواء المدنيين منهم، أو المخضرمهم - من عسكري، إلى مدني-  كما تشير إلى ذلك بعض الكتابات المستفزة، أو المتثاقفة..!!

وأخيرا:

         السؤال الذي يطرح، هو:
ما هي "هوية" النظم السياسية الموريتانية منذ الاستقلال  ؟
الإجابة (أ):
زعم هذا الفريق الذي آثر  الإجابة،(أ)،  على أساس السلوك الاعتباري، في السياسة العملية، لأن النظم أحالت الرؤساء إلى شيوخ قبائل، وأمراء مناطق، وذلك بناء على  الاستنفاع، وتفشي المحسوبية خلال فترة الرئاسة، وأن الفساد قائم على  قاعدة: " الأقربون أولى بالمعروف"، فالنظم السابقة، آثرت بالعطايا، والهبات، والسمسرة لشركات النظام، والتعيينات الوظيفية، فئة المنحدرين من تلك الأصول القبلية، والمناطقية، بشكل خضع لتعدد  الرؤساء، واختلاف مناطقهم، وكل ما تغير رأس  النظام السياسي، صاحبه تغير في  ميزان الحظوة، وزوال النعم عن  أهل تلك المنطقة، وهلم جرا..
بينما الإجابة ( ب):
اعتقد هذا الفريق، أن هوية النظام السياسي ، تحددها " نظرية الدولة"، فوجود  مؤسسات، لتأطير  النظام السياسي، و تلك المؤسسات توزع  الصلاحيات على السلطات الثلاث ولها مؤسساتها، كما يوجد البرلمان ونوابه من حزبيين، ومستقلين، على شاكلة الأنظمة القائمة في دول الجوار العربي والإفريقي، والمجتمعات الحديثة..
ولكن هذا الاتجاه، اعترف  بصورية النظرية، واستحالة تطبيقها، نظرا لتعطيل دور  المؤسسات، واقتصارها على  الداعية للنظام، إن لم تكن للزينة والتشبه بالآخرين،  نظرا لضعف أداء المؤسسات للدور الوظيفي المناط بها تفعيله..!
.......
ملحوظة: 
          إن هذا المقال مقتطف من بحث سسيولوجي عن " الحالة السياسية في موريتانيا في الفترة (١٩٦٠- ٢٠٢٠)
ولعل هذه  القراءة  الوصفية التحليلية،  تنور الرأي العام، الأمر الذي يحول  - موضوعيا -  دون أن تؤول  على أنها تعبر عن موقف سياسي معياري، يهدف  للتعريض بنظام سياسي من الانظمة السابقة، أو لجهة سياسية، غير ما  بدر من سلوكها..
والهدف الأهم، هو التأريخ لفترة من حياتنا السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وهذه الأخيرة، لم يتم ذكر لها ، لأن الموضوع لا يتعلق بها.
اما النظام الحالي، فلربما  تقدم عنه دراسة  استكشافية، وصفية، تحليلة حين، تكتمل التجربة السياسية بفترتيها، ولا بد أن تستغرق الفترة الزمنية عشر سنوات لأن البحث السوسيولوجي، يريد أن يغطي تجربتين سياسيتين على الأقل، ولأن الاختيار، وقع على البحث الاستكشافي الوصفي التحليلي، وليس البحث الميداني الذي يدرس الظواهر في حينها..
السؤال المطروح للنقاش، هو ما هي أوجه الأعتراض على هذا التقديم في شكله، ومضومنه؟

6. يناير 2025 - 10:32

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا