شهدت موريتانيا خلال الآونة الأخيرة اهتماما كبيرا بموضوع رقمنة القطاع العمومي باعتبارها أداة لتقريب الخدمات الحكومية من المستفيدين، وخلق قنوات للتبادل بين المواطن وحكومته طلبا وإبلاغا وشكاية ومتابعة. وقد قطعت الحكومة أشواطا متقدمة في هذا المجال بدءا من استحداث وزارة للتحول الرقمي وصولا إلى عدد من التطبيقات والمنصات التي تقدم الخدمة العمومية وتنشرها وتُبسطها بشكل رقمي. وقد شملت الرقمنة حتى الآن عدة قطاعات طابعها المشترك ارتباطها بالحياة اليومية للمواطن، ولأن قطاع الشغل يعتبر أحد أكثر قطاعات الدولة تأثيرا على حياة المواطن واقتصاد الوطن فقد ارتأينا مساهمة في الإصلاح والتطوير تناول موضوع الرقمنة في هذا القطاع الحيوي ومدى قابلية تطبيقه.
أولا الحاجة إلى رقمنة قطاع الشغل:
يعد قطاع الشغل أحد ركائز الاقتصاد الوطني فهو الحاكم للعلاقة المعقدة بين طرفي العملية الإنتاجية (العامل وصاحب العمل) وهو الضامن الأول لتساوي الفرص في التشغيل، وخلق فرص جديدة، والمحافظة على مواطن الشغل القائمة. كما يلعب دورا مهما في محاربة ظواهر البطالة والهجرة والإتجار بالبشر وتشغيل الأطفال. وهو قطاع يحتاج إلى التطوير الدائم مواكبة لمتغيرات السوق ومتطلبات الاقتصاد ومستحدثات التكنلوجيا سبيلا إلى خلق قطاع قادر على الموازنة بين تلبية حاجات المستثمر، والحفاظ على حقوق العامل، وبسط سلطة الدولة.
ولكون الخدمات التي يقدمها قطاع الشغل تستهدف في الأساس العامل والمستثمر (صاحب العمل) فهو يتطلب سرعة في الإجراءات يقتضيها الدوران السريع لعجلة الاقتصاد، وبالتالي فإنه في أمس الحاجة إلى التقليل من البيروقراطية التي تستهلك وقتا كبيرا كان يمكن للعامل استغلاله في زيادة دخله ويمكن للمستثمر استغلاله في تنمية استثماره وتطويره.
إن الوقت الذي قد يقضيه مثلا مستثمر في ميناء تانيت لتسليم تصريح بوضعية اليد العاملة إلى المفتشية الجهوية للشغل التي يتبع لها بولاية إينشيري يساوي في أقل تقدير ست ساعات من السفر دون احتساب التكلفة المادية، وهو الوقت الذي يمكن اختصاره إلى دقيقتين في حال توفر منصة رقمية يمكن لهذا المستثمر تقديم التصريح من خلالها. مما قد يساعد أيضا في تشجيع المستثمرين على تقديم التصاريح في وقتها المحدد لأنها ستأخذ جهدا ووقتا أقل. وهو ما تشهد عليه بعض التجارب القائمة في عدد من الدول حيث قدمت منصة "مدونة العمل الرقمية" الفرنسية أكثر من 93 مليون استشارة خلال الأربع سنوات الأخيرة. وفي السعودية انتقل عدد المعاملات المنجزة يوميا من 700 معاملة تتم بشكل حضوري عبر مكاتب العمل (مفتشيات الشغل) إلى 50000 معاملة يوميا تتم بشكل رقمي عبر منصة "قِوى" التابعة لوزارة العمل السعودية.
إن هذه الأرقام وغيرها من الأمثلة تؤكد على أن الرقمنة تشكل أداة أساسية في تقريب الخدمة من المستهدف وتسهيل ولوجه إليها، وهو ما يؤكد ضرورة الإسراع في إدخال الرقمنة إلى قطاع الشغل لتخفيف الضغط على مفتشيات الشغل وتمكينها من التركيز على الرقابة الوقائية لتفادي التهاون في تطبيق القانون.
ثانيا: قابلية قطاع الشغل للرقمنة
يمتاز قطاع الشغل بأن الكثير من عمله، خاصة ما يتم على مستوى المفتشيات الجهوية للشغل، هو عمل إجرائي بحت وهو ما يجعله قابلا للأتمتة بشكل كبير، دعونا نتصور مثلا منصة افتراضية للشغل يمكن أن تحتوي هذه المنصة مثلا على أربع تبويبات:
الصفحة الرئيسية: ويمكن من خلالها الوصول إلى جميع النصوص والقوانين المتعلقة بالشغل مفصلة حسب المواضيع، مع سهولة الوصول إليها عبر البحث بكلمات مفتاحية. كما يمكن من خلالها تحديد أماكن جميع مفتشيات الشغل على المستوى الوطني والحصول على أرقام التواصل معها.
صفحة العامل: وهو تبويب مخصص للعمال وممثليهم يمكنهم من خلاله الوصول إلى الخدمات التالية:
· تقديم الشكاية بعد إثبات الهوية واختيار المفتشية المختصة ترابيا.
· التبليغ بمخالفات قانون الشغل في المؤسسات بسرية تامة.
· احتساب حقوق العامل (الإجازة، الفصل، الخروج للتقاعد، وغيرها) عبر واجهة سهلة
· طرح الأسئلة المتعلقة بالقانون والحصول على إجابات واستشارات مجانية من فريق المنصة القانوني.
صفحة المؤسسة: وهو تبويب خاص بأصحاب العمل والمستثمرين يمكنهم بعد تحديد المفتشية الجهوية التي يتبعون لها من القيام بالإجراءات والخدمات التالية:
· تسجيل المؤسسة لدى مفتشية الشغل (إشعار الافتتاح)
· التصريح بالاكتتابات
· التصريح الدوري بوضعية اليد العاملة
· التصريح بحوادث الشغل والأمراض المهنية
· التصريح بالمقاولة
· الحصول على نماذج من الوثائق (عقود العمل، التصاريح، كشوف الأجور، إفادات العمل ...)
· طلب ترخيص الساعات الإضافية.
· إرسال محاضر انتخاب مناديب العمال
· طلب ترخيص فصل مندوب عمال
· تبليغ الإجراءات التأديبية التي تتخذ ضد عمال المؤسسة.
صفحة الإدارة: وهو تبويب خاص يكون الولوج إليه مقتصرا على المدير العام للعمل ومساعديه بالإضافة إلى المفتشين الجهويين للشغل. ويتم من خلال هذا التبويب معالجة الشكاوى والطلبات المقدمة من العمال وأصحاب العمل وتقديم الخدمات المطلوبة حسب الاختصاص الترابي لكل مفتشية.
كما يمَكن هذا التبويب الإدارة من الحصول على إحصائيات دقيقة عن وضعية اليد العاملة وعن عمل مفتشيات الشغل بشكل يومي.
قد لا يكون ما قدمته في هذا المقال متماسكا من الناحية التقنية البحتة لكن الأكيد أنه قابل للتطبيق لوجود تجارب مماثلة. والأكيد أيضا أنه لابد من مسايرة التطور التكنلوجي والاستفادة منه لتقريب الخدمة من المواطن.
إن واقع مفتشيات الشغل حاليا يؤكد أن 80٪ من عمل هذه المفتشيات هي أعمال مكتبية على حساب الوظيفة الأساسية لمفتشيات الشغل والتي هي التفتيش والرقابة. هنالك فعلا معوقات كثيرة تمنع مفتشيات الشغل من العمل بشكل فعال، لكن رقمنة القطاع وتقليص الوقت المستهلك في الأعمال المكتبية سيشكل بكل تأكيد خطوة في اتجاه مفتشيات أكثر فاعلية وأحسن أداءً، ومن يدري ربما يصل بنا التطور يوما إلى عقد جلسات المصالحة عبر خدمة الفيديو.