"صفعة" المدرس.. التوقير والهيبة / عبد الله حبيب الله

تحول ما اعتقدنا أنه "صفعة منكرة" في حق معلم متظاهر إلى قضية رأي عام، وحق لها. فمنذ القدم كان توقير المعلم والمربي، واحدا من ركائز تربية الأجيال وثوابت الفلسفة الأخلاقية، حتى نال طلاب المحاظر صك براءة، وتم التغاضي عن بعض ما يأتون مما لا يستساغ من غيرهم، وفي غير سياقهم.

كان "استيلاء" طلاب المحاظر على ما يدخل في عموم الزاد فعلا مسكوتا عنه أو مسوغا لكونه أخذا لحق طبيعي في أموال أصحاب الولائم. وأدخِل ما يجري بينهم من حيف في توزيع "شاة التلاميد"، واستئثار الأقوياء بها، في إطار المزاح المقبول شرعا وعرفا.

وكل هذا بسبب المكانة التي يحظى بها شيوخهم الذين منحوهم الحصانة الاجتماعية والدينية.

مع المدرسة الحديثة انتشرت الأدبيات المقدسة لمكانة المعلم، وتردد بيت حافظ إبراهيم على كل الألسنة.. حتى "كاد المعلم أن يكون رسولا" حقا في أذهان التلاميذ وذويهم.

اعتذار الوزيرة للمعلم الذي ظننا أنه "مصفوع" والتحقيق المفتوح، واستنكار النخب والأحزاب، وما يمكن أن يطلق عليه "هبة إعلامية" قادتها الدولة، وهو أمر غير مألوف؛ إذ جرت العادة أن تكون الدولة وأجهزتها هدفا للحملات المشابهة.

ولكن النظام الحالي، بما أتاح من مساحات حرية لمكوناته جعلت إحساس بعض هذه المكونات "مرهف الحس" تجاه الرأي العام، لدرجة تسابقه أحيانا إلى تبني خطاب إعلامي ناقد لبعض المسلكيات التي تعود الناس على أن تتلقى فيها الحكومات الهجوم، وتتدرج ردة فعلها من الإنكار إلى الاعتراف المحتشم، إلى محاولة التسويغ، أو تغيير أرضية النقاش.

بعد التحقيق، وبعد الإدانة الصريحة المحقة، وبعد الاعتذار الواضح الذي سبق كل هذا.. إلى أين يمكن أن يقود الضجيج الإعلامي؟

من أسباب رفع السقف في إدانة الفعلة المنكرة ما يتبناه نظام الرئيس محمد ولد الغزواني من رفع لمكانة المدرسة، وإعادة الاعتبار للتعليم الوطني، وتحميله مسؤولية استعادة اللحمة الاجتماعية، واعتباره ركيزة التنمية الأساسية.

إن العمل الذي قيم به في سبيل إعطاء التعليم مكانته اللائقة، ومستوى الخطاب الذي يصدر من الرئيس غزواني نفسه، هو الذي جعل المدرسين يتظاهرون ويضربون طلبا لبعض القضايا التي كانت حتى أمس القريب أحلاما بعيدة، متأخرة في قائمة المطالب، لكنما تحقق للمدرسين وللتعليم عموما جعلها أهدافا واقعية يمكن أن تنال في إضراب أو حوار اجتماعي..

الاعتذار والتحقيق.. حق وفضيلة، ولكن أين يجب أن تعتذر الدولة، وأين ينبغي أن تحبس اعتذارها؟ ما هي الحدود بين فرض النظام الذي هو واجب مقدس، وتوفير أسمى مقتضيات المهابة للمعلم الذي هو واجب مقدس؟
الصفعة التي تحولت إلى دفعة تجاوز من الشرطي في إطار قيامه بدوره المقدس في حفظ النظام، وفرض احترام القانون، الذي هو الآخر واجب، بدونه يختل البناء، وتنخرم القواعد.

استغلال الشرطي الغطاء الشريف لمهمته، وتجاوز صلاحياتها إلى دفع أو صفع معلم أو أستاذ، أو أي مواطن، أو زائر، يعد تعديا في حق الوطن والمهمة والقانون قبل أن يكون إهانة لمعلم، واحتقارا للمدرسة، وللعلم، والفضل والتاريخ. 

لكن تجاوز أستاذ أو معلم لحدود رسمتها جهة أمنية اتكالا على مكانته، أو تدثرا وراء حرمته، هو أيضا إهانة للعلم والتاريخ والقانون، وحين تصدر من معلم أجيال، وحارس للقيم، وشرطي أخلاق، تكون صفعة ودفعة للقانون، وهيبة الدولة، وأساسات التعامل بين مواطنيها.

لا تملك الشرطة الحق في صفع المعلمين، ولا الحق في تعنيفهم بأي طريق، ولا يملك المعلمون الحق في إنفاذ ما يرونه قانونا بتخليص زملائهم من قبضة الأمن، أو استيفاء حق بعضلات.

لنتفق على أن على شرطتنا، وهي ككل الشرطة في العالم، تضرب المتظاهرين وتعتقلهم، ويقسو بعض أفرادها على من يناوشونهم، أو يقعون في قبضتهم، أن تضبط أفرادها، وأن تدربهم على إنفاذ القانون، وحماية ممتلكات الأفراد والعموم، وفرض السكينة، دون عنف، ودون عنف مفرط. وهو أمر صعب، ويحتاج كثيرا من التدريب، وغير قليل من ضبط النفس.

ولنتفق على أن على متظاهرينا؛ معلمين، ومتعلمين، عمالا وصحافة، ومتظلمين من كل الفئات، أن يدركوا الفرق الكبير بين من يتظاهرون ضدهم، ومن جاؤوا ليحموهم ويحموا منهم ممتلكات الدولة والمجتمع. 
إن دور المتظاهر أن يبلغ مظلمة من انتدبه، أو ما انتدب نفسه من أجله، ودور الشرطي هو الوقوف حيث طلب منه ليكون حاجزا بين المكان الذي يسمح بالتظاهر فيه، وذلك الذي يجب أن يتوقف عنده المتظاهرون.

أغلب الشرطة الذين يحضرون لتفريق المتظاهرين، أو "تأمين المظاهرات" كما تسمي الشرطة عملها، لا يعرفون شيئا عن طبيعة المتظاهرين، ولا عن الهدف من المظاهرات. إنهم يؤدون دورا محددا، مرسوما بدقة أحيانا، وبغير دقة أحايين أخرى، لكن صلته بموضوع المظاهرات في الغالب غير قوية.

كان هذا عن الصفعة، أما وقد تحولت مع التحقيق إلى دفعة، فقد تكون مدخلا مناسبا لنقاش تضامننا المعلب، تعليب التهاني، وهو ينهال في كل مرة نسمع فيها صيحة في واحدة من جنبات هذا الفضاء، الذي يلتهم أوقاتنا، ونضالاتنا، ويلتهمنا..

 

 

9. يناير 2025 - 10:33

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا