أثار المقالان اللذان كتبهما الأخ والناشط الحقوقي عبد الله ولد آلويمين مؤخرا ، وكان عنوانهما على التوالي : (ذنوب الزوايا ونبل لمعلمين ) و (لمعلمين وجحيم المجتمع النازي ) ، أثارا موجة من ردود الافعال المتباينة امكنني رصدها بوضوح من خلال مسارين اثنين : أولهما بريدي الالكتروني
الذي تلقى كما من الاسئلة كان ابرزها السؤال عن موقفي الشخصي والطيف الذي أمثله مما أثاره الكاتب من آراء ، وأما المسار الثاني وهو الأهم في نظري فهو الفضاء الافتراضي لشبكة التواصل الاجتماعي الفيس سبوك حيث امكنني رصد حجم الانقسام الواضح لرواد هذه الشبكة ما بين مؤيد متشدد ومعارض متطرف في حين غاب بالكامل أنصار المنطقة الرمادية أو الوسطى ، ما عكس لي بوضوح حالة من الاستقطاب والتخندق غير الحميد ،
و هذا أمر مؤسف ومخجل و لا يبشر بخير في بيئة يفترض في روادها أنهم من المتعلمين و نخبة المجتمع . إن الرأي يجب أن يقابل بالرأي والحجة بمثلها . و إن أي رأي مهما بلغت درجة تشدد صاحبه وتطرفه ، لا بد أن يأخذ منه ويرد وفق قاعدة الامام مالك بن أنس رحمه الله ، من خلال فهم وتفهم ما بين سطوره و تلمس مواطن أوجاع صاحبه والبحث الموضوعي عن دواعي سخطه و ثورة غضبه .. مع الأخذ في الاعتبار أن لصاحب الحق مقالا .
لقد أثار الكاتب جملة من الحقائق والوقائع المريرة و المؤلمة جدا وتكلم بمرارة وجرأة لا مثيل لها عن نكبة شريحة ضعيفة مسلمة ومسالمة ومبدعة استهدفت في عرضها وكرامتها ودينها وكينونتها ، فلم يشفع لها دينها الذي به اعتصمت وفي تعاليمه نبغت ، ولا صناعاتها التي فيها أبدعت وأعطت وما بخلت .. والأدهى من ذلك والأمر أنها أوتيت من مأمنها فانهالت عليها سهام الغدر والخيانة من حيث لم تحتسب فكان هذا الارث الثقيل من الظلم والحيف والكراهية الذي بدأت شرارة بركانه تتطاير منذرة بتفجره بعد أن ضاقت به الصدور وملت النفوس وكلت من تحمل عذاباته ومراراته .
لقد تلكأ الجميع - دولة ونخبا ومجتمعا - في إخماد ثورة بركان غضب هذه الشريحة بعد ان ايقنوا خطأ أنها حديقتهم الخلفية وأنها بالتهميش والازدراء راضية مرضية ، لذلك لم يُبذل أي جهد من أجل إطفاء نار بركان غضبها الدفين أو تبريده و تحييد مفاعيله من خلال التبكير بإتباع مقاربة شاملة عاقلة و فاعلة تصحح الصور النمطية المسيئة الهاجعة بقوة في العقول المريضة ، وتُعلي من شأن ومفهوم المواطنة لتضمد بذلك جراح المظلومين وتشعرهم بأن في الوطن عقلاء ومؤمنون ومنصفون .. وأن طريق المعاناة وإن طال فله نهاية ، وأن ثمة ضوء في نهاية النفق .. وأن عقود التخلف و الكراهية والعار يمكن تجاوزها ومحو آثارها وتحويلها إلى مجرد ذكريات عابرة تتسلى بها العجائز في الليالي الباردة لترحل وتدفن معها في ذات النعش ، لتعيش الاجيال الجديدة كريمة متآخية ومتماسكة وقد تحررت من ربقة الكراهية وسطوة الخرافة .
لقد تعمد ولد آلويمين رمى حجر في قعر بركة راكدة آسنة ، ودفعته جرأته إلى الغوص عميقا في العالم السفلي لمجتمع البيظان ؛ فخاض وصال وجال في المسكوت عنه في العرف الاجتماعي ، ما شكل من وجهة نظر المناصرين جرأة مطلوبة و تنفيسا ضروريا عن حالة حادة من الاستياء و الغضب ظل مكبوتا لعقود من الزمن اتجاه شريحة الزوايا على وجه التحديد ، فيما رأى اخرون في الامر تطاولا متعمدا وغير مبرر نال من شريحة اشتهرت بالنبوغ في العلم وحمل لواء الاسلام .
وإزاء هذا الانقسام الواضح و التضارب في الآراء وتوجس بعض الخائفين على الوحدة الوطنية من أن يكون حراك " شريحة لمعلمين " ، الذي بدأ يتعاظم ، يشــي بقرب دق مسمار جديد في جدار الوحدة الوطنية ونذير شؤم بدنو انفراط عقد مجتمع البيظان بعد أن انفض عنه أهم مرتكزات قوته ( شريحة لحراطين )، بسبب الممارسات الخاطئة ايضا ، إزاء كل ذلك برزت الحاجة لتوضيح بعض الامور ووضع مجموعة من النقاط على الحروف حتى نحدد معالم الطريق الذي عليه نسير وحتى لا يحيد القطار الحقوقي لهذه الشريحة الكريمة عن سكته فينحرف به طاقمه عن مساره الطبيعي والسلمي إلى مسار آخر تُجهل نهاياته ومآلاته ، اذ لا يصح ولا يستقيم أن نتحول من طلاب حقوق الى دعاة فتنة ، ومن مظلومين الى ظلمة نستعمل نفس الادوات و نمارس نفس الممارسات التي ندينها ونناضل من أجل ازالة آثارها ومحو مخلفاتها .
إن مبادئ الدين الذي به ندين ومنطق العدل والإنصاف الذي إليه ندعوا يفرضان عليَّ هنا أن لا أحابي أحدا ولا أجامله ولو كان ذا قربى ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) ، مع علمي بان البعض من رفاق النضال الحقوقي قد تساورهم بعض الشكوك فيظنون خطأ أني قد حدت عن الطريق وتخليت عن القضية وليس الامر كذلك ، بل العكس هو الصحيح فحين نقول للمخطئ منا اخطأت ففي ذلك نصرة له وللقضية ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : انصر اخاك ظالما أو مظلوما قيل عرفنا كيف ننصره وهو مظلوم فكيف ننصره وهو ظالم قال (تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره( . ومن هذا المنطلق فليسمح لي هنا اخي الكريم والناشط الحقوقي الكبير عبد الله ولد آلويمين الذي أجله و أقدر صدق نواياه في أن اختلف معه جذريا في مسألتين اثنتين : اولاهما حدة خطابه الذي كاد ان يجنح الى التشدد والغلو ، سبب عظم مصابه وعمق جرحه ، والمسالة الثانية هي وقوعه عن قصد أو عن غير قصد في فخ التعميم و ورمي مكون بأكمله عن قوس واحدة ، وهذا لا يليق بكاتب مثله وحقوقي في وزنه اذ تقتضي الموضوعية التفريق بين الصلح والطالح والعادل والظالم والمنصف وغير المنصف ، اذ لا يخلو أي مكون أو شريحة من ان تضم بين صفوفها كل صنوف الخير والشر وتلك سنة الله في خلقه (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ، ومن ثمة كانت تقتضي المصلحة كسب الفريق الاول وتعرية الثاني من خلال توجيه سهام النقد له فحسب .
صحيح بأن فئة قليلة من الزوايا اختارت قديما أن تبيع الآخرة بعرض من الدنيا والحق الأبلج بالباطل الأعرج فقررت ، بعد أن أعمها التعصب وحجبت الكراهية عن بصرها وبصيرتها نور الحق ، أن تصبح خصما لدودا وسيفا مسلطا على رقاب شريحة بأكملها ، بعد أن رأت في فقهائها وعلمائها منافسا ومزاحما لها غير مرحب به في سلطتها الروحية التي سعت الى احتكارها والظفر بامتيازاتها وثمارها ومنافعها الدنيوية والأخروية ، فراحت تلك الاقلية المتعصبة تنسج من وحي خيالها الخصب الاحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا خير في الحداد ولو كان عالما)، وتنظم اراجيفها في اراجيز شعرية : ( شهادة القين ترد سرمدا _ والمصلي خلفه يعيد أبدا ) وتوزع الفتاوى المجانية ، وتدس في السيرة النبوية :( كقولها بأن من كسر ثنية النبي (ص) في غزوة أحد هو " امعلم " !!) ... مستخدمة كل انواع الاسلحة و كلما من شأنه أن يقوي حجتها ويقوض جهود الآخر بهدف وضع حد لطموحاته ونسف أية إمكانية لنجاح مسعاه ، فكان أن تلقف الجهلاء من بقية الشرائح الاخرى تلك المزاعم والفتاوى والأباطيل والخزعبلات - باعتبارها جزءا من الدين - ليستخدموها سلاحا مدمرا في وجه شريحة بأكملها ، كان كل ذنبها أنها أرادت أن تحيى حياة كريمة فتجمع بين فضيلة العمل وشرف تحصيل العلم لتزاوج بين ما هو نافع دنيويا و أخرويا معتمدة على الله ثم على نفسها ، فكان التحدي صعبا والثمن باهظا .
لكن وفي مقابل تلك الاقلية الظالمة ، انبرى علماء شناقطة أجلاء كثيرون من الزوايا مدافعين عن شريحة رأوا فيها الخير والصلاح والنفع الوفير للمجتمع فذادوا عن اعراضها وحموا بيضتها واستصدروا الفتاوى الصريحة التي دحضت تلك المزاعم وفضحت زيفها وسوء طوية أصحابها ... كالفتوى الشهيرة التي اطلقها العلامة الكبير سيد اعمر ولد شيخنا الكنتــــي وأوردها المختار ولد حامدون في موسوعته الصفحة 104 - 105 : ( يقول العلامة سيد اعمر والد شيخنا الكنتي ، وما ذكر عن الحدادين بديهي البطلان إذ من المعلوم أنهم لا يرجعون الى أب واحد وإنما جمعتهم الحرفة ، فنهم من هو شريف الاصل ومنهم من هو عربي محض والظاهر من حال اكثرهم أنه من السودان وفيهم أئمة وأفاضل وعوامهم كسائر العوام بل هم خير من كثير ، فمن نسبهم الى الرق أو الشؤم أو أبطل شهادة من ظهرت عدالته منهم أو منع إمامته ضل وكذب وقال ما لا علم له به و لشيخنا جد الوالد كلام في كتبه استدل به بعض الجهال لهذا السؤال ولا حجة له فيه ) . ان هذه الفتوى الهامة من هذا العالم الجليل المتوفى عام ( 1930 م ) تعكس ثلاثة عناصر أساسية يمكن التوقف عندها ، فهي تعكس أولا وبشكل واضح شدة الهجمة الشرسة التي كانت تتعرض لها هذه الشريحة من متطرفين من الزوايا كقوله : ( وما "ذكر" عن الحدادين بديهي البطلان ) وكقوله ( فمن نسبهم الى "الرق" او "الشؤم" او "أبطل" شهادة من ظهرت عدالته منهم او "منع " "إمامته " ضل وكذب و "قال" ما لا علم له به !) ، والعنصر الثاني الذي يمكن التوقف عنده أيضا في هذه الفتوى هو قوله ( وفيهم "أئمة "و "أفاضل" ) وهما صفتان لا تنالان إلا بعد بلوغ اعلا درجات العلم والاستقامة وهذه الشهادة الصادرة عن هذا العالم الكبير تؤكد وجود عنصري النبوغ والمنافسة التي كانت سببا في هذه الهجمة ، والعنصر الثالث الذي تفيده هذه الفتوى او الوثيقة الهامة جدا هي وجود علماء كبار منصفين كهذا العالم الجليل الذي عارض هنا فتوى جده ، التي استغلت من قبل الجهلاء كما قال ، بقصد الاساءة الى هذه الشريحة وهذا ما اردت التأكيد عليه هنا .
ومن العلماء الكبار المنصفين ايضا العلامة البارز( سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم العلوي ) رحمه الله ، الذي ناصرهم حتى أنه قام بتزويج إحدى بناته من أحد طلابه المنتمين لهذه الشريحة بعد أن توسم فيه العلم والاستقامة لينسف بذلك مقولة عدم الكفاءة الاجتماعية والدينية .
ومن العلماء المعاصرين المنصفين العلامة الحاج ولد فحفو الذي اختار وإلى اليوم احد علماء هذه الشريحة كنائب له في مسجده يخلفه في غيابه وعند مرضه ناسفا بذلك كذب من يزعم بطلان الصلاة خلف إمامهم .
هذا بالإضافة الى بعض المواقف الاجتماعية العظمية والمنصفة و التي جاءت مناصرة لأسر من الشريحة بعينها من ذلك على سبيل المثال ما يعرف على نطاق واسع في منطقة افطوط بولاية لعصابة ب " رحلت ما تقدر " التي جاءت انتصارا لرجل معروف من الشريحة اعتدي على أحد أبنائه وسلبت منه راحلته من قبل زعيم احدي القبائل الحسانية المجاورة خلال حقبة "السيبة " ، فقررت عشيرته ترك تلك القبيلة التي كانت ترتبط معها في حلف وارتحلت لأكثر من ثلاثة أيام متواصلة قطعت خلالها عشرات الكيلومترات وسميت برحلة " ما تقدر " نصرة لأحد ابنائها و هذه العبارة في حد ذاتها تعكس الكثير من معاني الوفاء و العزة و موقفا نبيلا لا ينسى .
وفي أيامنا هذه لا يستطيع أحد أن ينكر مواقف علماء بارزين ومثقفين يشار إليهم بالبنان من مسألة الظلم الذي لحق بشريحة "لمعلمين" ؛ فهذا الشيخ محمد ولد سيدي يحيى الذي يستحق منا أن نلقبه (بعالم الضعفاء ونصير المستضعفين) ، لما اشتهر به من الذود والدفاع الحازم عن اعراض الشرائح الموريتانية المظلومة وتحميله من اسماهم بعلماء " بنافه " مسؤولية ذلك قديما وحديثا ، لقد افرد شريطا كاملا للدفاع عن "لمعلمين" و "لحراطين" مؤكدا فيه كفاءتهم الدينية والاجتماعية يباع هذا الشريط في الاسواق تحت عنوان: "شريط العنصرية " وقد افتى فيه بعدم جواز الصلاة خلف من يزعم بان " لمعلمين " و " لحراطين " لا تصح امامتهم لكونه عنصري ويفتري على الله الكذب . ثم من ينكر مواقف الشيخ محمد الحسن الددو حفظه الله والشيخ محمد محمود ولد أبواه ، الذي سبب له دفاعه عن " لمعلمين " متاعب مع وسائل الاعلام الرسمية وكذلك الصحفى الكريم محمد لمجد الذي تعرض لتهميش الاعلام الرسمي بسبب جرأة طرحه ، وكيف ننسى المواقف المناصرة و المؤازرة للأستاذ الكبير و المحامي البارز محمد ولد الشدو الرئيس الشرفي لـ "منظمة إنصاف " الذي أعلن انضمامه لها من أول يوم , و هو يحرص على حضور جميع انشطتها الاعلامية والتحسيسية مدافعا ومنافحا عن حق هذه الشريحة في الانصاف والعيش الكريم على هذه الارض .
إن علينا جميعا أن نعمل على تجاوز إرث الماضي بكل مآسيه ومراراته والتطلع إلى المستقبل بروح غير انتقامية كي لا نوسع الفجوة من حيث أردنا ردمها أو تضييقها ولا ننكأ جرحا نسعى إلى علاجه ، ولن يتم ذلك إلا من خلال نهج مقاربة عاقلة وراشدة تقوم على المزاوجة بين الحزم في طلب الحقوق وعقلانية الخطاب مع التشبث بالصبر وطول النفس ، فذلك وحده ما يضمن لنا ربح معركة استمالة القلوب وكسب المزيد من الاصدقاء والمتعاطفين الخيرين من نخب شعبنا الدينية والثقافية والسياسية الحقوقية .
إن قضية شريحة " لمعلمين " رغم آلامها وآثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المدمرة ، لم تأخذ يوما – من وجهة نظري - طابعا عنصريا واضحا ولا بعدا إسترقاقيا ؛ لذا لا يمكن اخراج حلها عن سياقه الاجتماعي وإطاره المحلي ، فنحن لسنا أقلية أو عرقا قائما بذاته له خصوصياته الثقافية أو السوسيولوجية أو الدينية ... وليس من مصلحتنا محاولة تجذير ذلك وترسيخه ، وإنما نحن جزء من أمة وحدها الاسلام ، وشريحة أصيلة من شرائح مجتمع البيظان الذي وإن كنا نحترمه ونجله ولا نعسى للإضرار بوحدة نسيجه أو الانسلاخ عنه ، فإننا بالمقابل لن نقبل بعد اليوم بظلمه وتجبره و غطرسة سياساته وتخلف عقلياته المجافية للدين الاسلامي الحنيف ومبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان .