ترتيب الأولويات: هل ينبغي مراجعة تخصيص 50 مليار أوقية لتحديث العاصمة؟ / موسى حرمة الله

لا ريب أن رصد 50 مليار أوقية لتحديث نواكشوط وتجميلها مبادرة محمودة للغاية. فبذلك تستجيب العاصمة لمعايير الحواضر العصرية الكبرى.
ومع ذلك، يجدر طرح السؤال التالي: هل يكتسي هذا البرنامج التحديثي الواسع للعاصمة طابعا استعجاليا؟ فإذا ما استثنينا تشييد بعض المدارس وإمداد أحياء هامشية بالماء الصالح للشرب، فبالإمكان تأجيل إنجاز هذا البرنامج الضخم وصرف ميزانيته في أمور أخرى. وسنرى لاحقا كيف يكون ذلك.
علينا ألا نغفل عن أن الشفافية في منح الصفقات وفي المصداقية الفنية لتنفيذ الأعمال، رغم يقظة رئيس الجمهورية الذي يحرص على المصلحة العامة في المقام الأول، ليست مضمونة دائما، على شتى المستويات.

1.    المراحل المختلفة للمشروع المقترح
بالمقابل، يمكن استثمار هذه الكتلة النقدية الهائلة في إطار تركيبة مالية ضمن مشاريع هيكلية، على المدى القصير نوعا ما، لإحداث تغيير جوهري في الاقتصاد الوطني، مع ما سينجرّ عن ذلك من مداخيل معتبرة للدولة، وخلقٍ للكثير من مناصب الشغل المباشرة وغير المباشرة، ومن تحسين بيّن لمستوى معيشة المواطنين. فما المقصود من ذلك؟
يتعلق الأمر بإنشاء مجمّع للصلب والحديد بحجم متوسط في ميناء انجاكو. ذلك أن هذا الميناء الاستراتيجي غير مستغل بما يكفي في الوقت الراهن. لكن مجمّع الصلب يتطلب أمريْن: كميات من معدن الحديد ومصدر للطاقة الموثوق بها. والحال أن البلد أصبح يتوفر على هاتين المكوّنتيْن: فكمية المعدن يمكن نقلها بالسفن من نواذيبو، والغاز من الوحدة العائمة التي ستعالج الغاز المسال قبل نقله. ولا تبعد هذه الوحدة عن ميناء انجاكو سوى 15 كيلومترا. 

 عوائق جسيمة تقف أمام تصدير الغاز
لقد تولّى عهد تصدير المواد الأولي في شكلها الخام. وصار من الشائع أن يتم تحويلها كلما كان ذلك ممكنا. وهذه القيمة المضافة تضاعف أسعارها. وينطبق ذلك على معدن الحديد كما ينطبق على الغاز.
وإسالة الغاز هي الوسيلة المتاحة لنقله بالناقلات الصهاريج. غير أن الغاز، سواء أكان طبيعيا أم مُسالا، لن تظل له في أمد قريب القيمة التي كانت له، على غرار مصادر الطاقة الأحفورية الأخرى أي النفط والفحم الحجري. فالمعروض اليوم من هذه المواد يفوق بكثير الطلب عليها. وقد تكاثرت مصادر التزويد بالغاز: الولايات المتحدة الأمريكية (أكبر منتج عالمي)، وروسيا، وأستراليا، وقطر، وإيران، وكازاخستان، والجزائر وغيرها من المنتجين في إفريقيا وآسيا.
ويعود هذا التراجع في سوق الغاز، على وجه الخصوص، إلى عقبات بيئية لا محيد عنها وإلى تعويضه تدريجيا بباقة متعددة من الطاقات المتجددة التي أضحت تمثل زهاء 40% من المصادر العالمية للطاقة.
وبهذا تشير كل الدلائل إلى أن التراجع الثابت لسعر الغاز سيتواصل على خط الهبوط. ومن المؤشرات على ذلك تردد شركات المحروقات بشكل متزايد في إجراء التنقيب بحرا. ويعد استغلال مناجم الغاز الموريتاني في الأعماق (3000 متر) في غاية التعقيد وباهظ الكلفة. وشركتا بريتش بتروليوم وأكسون موبيل هما وحدهما القادرتان على التحكم الكامل في هذه التكنولوجيا حيث لا يستطيع العمل في الأعماق إلا الإنسان الآلي.
ويعني ذلك أن الغاز الموريتاني ينبغي أن يُستخدم بالدرجة الأولى منطقيا في تصنيع البلاد.

خلق محور اقتصادي استراتيجي
سينتج مجمّع الصلب والحديد في انجاكو الفولاذَ إلى جانب وحدة لإنتاج حديد البناء (للإسمنت المسلح).
وللإعلام، نشير إلى أن سعر طن الحديد الخام يتراوح، حسب تقلبات السوق، بين 80 و100 دولار أمريكي. وعلى العكس، يصل سعر طن الفولاذ إلى ما يقارب عشرة أضعاف ذلك. فسعره يبلغ ما بين 800 إلى 1000 دولار للطن.
ويُقدر أن ينتج مجمّع متوسط الحجم – كما هو مقترح في انجاكو – ما بين 1 إلى 3 مليون طن من الفولاذ سنويا. ويتوزّع استهلاك موريتانيا من الحديد على النحو الآتي: الفولاذ 60.000 طن سنويا، وحديد البناء 120.000 طن سنويا. ولن يقل إنتاج مجمّع الصلب في انجاكو عن 1.5 مليون طن من الفولاذ سنويا. وبالتالي ستتمكّن بلادنا من تصدير الفائض عن استهلاكها وهو جل إنتاج المجمّع.
وستكلف إقامة المجمّع ما يتراوح بين 500 مليون و1.5 مليار دولار أمريكي. وتتضمن هذه الكلفة التجهيزات، والبنى التحتية، وتركيب الآلات.
وسيستغرق بناء هذا المجمّع مدة تتراوح بين 24 و48 شهرا، أي من 2 إلى 4 سنوات. وبين التقدير الأقصى والتقدير الأدنى نصل إلى 36 شهرا، أي 3 سنوات.
وقد تستطيع موريتانيا، بواسطة مجمّع الصلب في انجاكو، أن تزوّد بالفولاذ، إلى حد كبير، بلدان غرب إفريقيا من نيجيريا إلى مالي. وتقدر الحاجة إلى الفولاذ في هذه البلدان التي لا تتوفر على مجمّعات للصلب بأكثر من 10 ملايين طن من الفولاذ سنويا. وسنتطرق في فقرة لاحقة إلى التركيبة المالية لإقامة قطب صناعي جاهز في انجاكو.
تنبيه: إن غياب أي مصدر للطاقة الموثوق بها، على الرغم من وفرة معدن الحديد، يجعل من شبه المستحيل في الوقت الراهن بناء مجمّع للصلب في نواذيبو. اللهم إلا إذا أقمنا أنبوبا للغاز على مسافة مئات الكيلومترات بين منجم الغاز في السلحفاة الكبرى-آحميم والعاصمة الاقتصادية، وهو ما لا يتصوّر نظرا للكلفة الباهظة للعملية. لذا، بدلا من نقل الغاز إلى نواذيبو سننقل معدن الحديد بحرا (بالسفن) إلى انجاكو.
كما سنرى في التحليلات اللاحقة، ستتكفل التمويلات الوطنية بالجزء الأوفر من تكاليف إقامة القطب الصناعي في انجاكو. وعندئذ ستستفيد الدولة من عائدات مالية معتبرة، عكس ما حدث في اتفاقات تقاسم الغاز التي انحصرت في النسبة الزهيدة 7%: وهي نسبة مئوية رمزية بينما استحوذت الشركات الأجنبية على نصيب الأسد.
ولهذا النمط من العقود تسمية في القانون: عقد الإذعان حيث كل الشروط يمليها أحد المتعاقدين دون أن يتمكّن الطرف الآخر من مناقشتها. فهي هكذا تأخذها أو تتركها. وعند امتطائنا للقطار أو الطائرة نكون مضطرين إلى الإذعان لهذا النوع من العقود الذي يفرضه الناقل. 
وليست هذه العقود جائرة فحسب، وإنما هي كذلك مجحفة، لا سيما وأن شركة بريتش بتروليوم قد قلصت عند بدء الاستغلال، بعصا سحرية، مداخيلَ موريتانيا المتواضعة بحجة واهية هي أن تكاليف الاستثمار في المنجم تضاعفت لترتفع – حسب زعمها – من 3 إلى 9 مليارات من الدولار.
وقد تدخّل رئيس الجمهورية شخصيا لتصحيح آثار ما يمكن أن نسمّيه قانونيا بالغش والاحتيال. وبمقدور الحكومة الموريتانية أن توقع ملحقا لعقد الإنتاج لتمكين موريتانيا من أن تسحب مباشرة كمية من الغاز الذي يعود إليها لاتخاذه مصدرا للطاقة من أجل التصنيع، وبالأخص لمجمّع الصلب في انجاكو. 
وبإغلاق هذا القوس، نعود إلى إنتاج مجمّع انجاكو.
لتجسيد هذه المعطاة الجديدة، فلو اعتمدنا التقدير الأدنى لإنتاج الفولاذ في مجمّع انجاكو، يمكن لموريتانيا أن تصدّر 1 مليون طن من الفولاذ سنويا. وبالسعر الأدنى أي 800 دولار للطن، ستحصل على 800 مليون دولار.
وهناك جانب آخر في القطب الصناعي المرتقب في انجاكو، ألا وهو: استغلال معدن الفوسفات في بوفال الواقع على بعد 25 كيلومترا فقط من بوغي. فبالإمكان بناء مجمّع لإنتاج المواد المشتقة من الفوسفات، وخاصة الأسمدة التي يلح عليها الطلب في شبه المنطقة بأسرها. وستنقل هذه الأسمدة بالقوارب على طول النهر إلى ميناء انجاكو لتصديرها.
ويقدر سعر مصنع لإنتاج مشتقات الفوسفات، وخاصة الأسمدة، بطاقة تتراوح بين 200.000 و1 مليون طن سنويا بين 160 إلى 300 مليون دولار أمريكي.
ويقارب السعر العالمي للسماد المشبّع بالآزوت الـ 400 دولار للطن. وإذا ما اعتبرنا متوسط إنتاج في حدود 500.000 طن سنويا، فسينتج عن ذلك 200 مليون دولار. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المتوسط لا يشمل مشتقات الفوسفات الأخرى.
ولتكميل هذا المجمّع الصناعي المندمج في انجاكو، يمكن بناء محطة كهربائية بحجم متوسط تعمل بالغاز الطبيعي ويمكنها تزويد المناطق المعزولة بالطاقة. 
•    الجهد: 300 إلى 500 ميغاوات؛
•    الكلفة الإجمالية: 150 إلى 500 مليون دولار؛
•    الفوائد: كلفة أوّلية منخفضة، فاعلية مرتفعة.
والمشاريع الثلاثة المشار إلها أعلاه، وهي مجمّع الصلب في انجاكو، ومصنع إنتاج مشتقات الفوسفات، وبناء محطة كهربائية تعمل بالغاز الطبيعي، ينبغي أن تخضع لاستدراج عروض لمناقصات دولية في الوقت المناسب.
وإذا ما قُيّض لهذ المشاريع أن ترى النور فستكون بادرة لانطلاق التصنيع في موريتانيا.

الاستغلال الزراعي الأمثل لضفة النهر
ختاما، يوجد مشروع هيكلي آخر ذو أهمية قصوى بالمنطقة يتمثل في الاستغلال الزراعي الأمثل لضفة النهر (كل الضفة) بدعم من الصين بشريا، وفنيا، وماليا.
فمعلوم أن بكين، سعيا منها لإطعام سكانها، وسدّ النقص الحاد في المواد الغذائية، قد اعتمدت كأولوية وطنية اقتناء واستغلال أراض زراعية في الخارج. وتمتلك امبراطورية الوسط (أي الصين) بالفعل 10 (عشرة) ملايين هكتار مزروعة خارج حدودها.
وإذا ما أنجز هذا المشروع، فمن المحتمل أن ينشئ الصينيون مزارع شاسعة ترتكز على أقطاب تجميع في سيلبابي، وكيهيدي، وبوغي، وروصو. والهدف المتوخى من ذلك واضح وهو إنشاء بنى تحتية للحصاد، والفرز، والتخزين، والتكييف للفواكه، والخضروات، والطحين، وقصب السكر، واللحوم، والألبان، دون أن نغفل مشتقات الألبان (من جبن، وزبدة، ولبن مجفف، ولبن رائب، إلخ).
وربما يجري نقل هذه البضائع كلها عبر النهر صوْبَ مستودعاتٍ ضخمة يبنيها الصينيون، على الأرجح، قرب ميناء انجاكو تحضيرا لتصدير المواد نحو الخارج.
من الناحية العملية، يصدّر الصينيون إلى بلادهم الجزء الأكبر من منتجات الأراضي التي يزرعونها في الخارج. ومع ذلك، بعض هذه المنتجات تباع في البلد المضيف. وهكذا، سيتسنّى لموريتانيا أن توفّر مبالغ هامة من العملة الصعبة التي كانت تنفقها في استيراد مواد غذائية أساسية. دون أن ننسى العائدات الاقتصادية المتعددة والانعكاسات الاجتماعية والمالية. والأهم من ذلك تحقيق شبه اكتفاء ذاتي في مجال الغذاء.

2.    تمويل المشروع
ملحوظة تمهيدية: بمنح الدولة مجالا عقاريا في حيّز ميناء انجاكو، وبإجراء دراسة جدوى صلبة ومقنعة على يد مكتب دراسات ذي خبرات دولية، سيوافق أي محلل اقتصادي  على أن هذين الشرطين لا غنى عنهما للحصول على التمويل سواء أكان عربيا، أم أوربيا، أم أمريكيا، أم غير ذلك. ولن يكون التمويل الخارجي سوى تكملة ودعم، لأن القسط الأوفر من التمويل سيكون موريتانيا. كيف ذلك؟ ستشكل الخمسون مليار أوقية المرصودة لتحديث نواكشوط (وهي تعادل 130 مليون دولار أمريكي) محفظة مالية قاعدية. ثم ينضاف إلى هذا المبلغ الأموال المحصّلة من عملية تضامن وطني واسع.
وبالفعل، سيشعر كل موريتاني، أيا كان، بالفخر والاعتزاز وسيكون شرف له وواجب أن يساهم، حسب وسائله، في تصنيع البلاد. وستقوم العملية على أساس التطوع. وستساهم فيها المقاولات الصغيرة والمتوسطة، والشركات الكبرى، والموريتانيون المقيمون في الخارج، وميزانية الدولة. وفيما يلي جداول المقاييس المقترحة.

الجدول رقم 1
المقياس المقترح للمساهمة على أساس التطوع بالنسبة للأجراء في القطاعين العمومي والخصوصي لفترة تمتد على مدى عاميْن، بالأوقية:
150.000    150.000 إلى 250.000    250.000 إلى 350.000    350.000 إلى 500.000    أكثر من 500.000
1%    2.5%    5%    10%    15%

الجدول رقم 2
المقياس المقترح على أساس التطوع بحسب رقم المعاملات بالنسبة لمختلف الشركات الوطنية على مدى سنتين مع إمكانية خصم المبلغ من الضرائب.
الوحدات الصغيرة للصناعة التقليدية    المقاولات الصغيرة والمتوسطة    الشركات الكبرى    المجموعات الصناعية والمالية الكبرى
1%    2%    3%    4%

الجدول رقم 3
ميزانية الدولة خلال سنتين.
ميزانية التجهيز    ميزانية التسيير
2.5%    6.5%

ملحوظة: يمكن للمواطنين المساهمين تطوعا أن يدفعوا تبرّعاتهم في حساب خاص مفتوح لهذا الغرض. كما أن باستطاعة رجال الأعمال أن يتبرّعوا بالإضافة إلى مساهمة شركاتهم. وسيفتح حساب خاص آخر لهبات الموريتانيين المقيمين في الخارج.

من سيقود هذا المشروع العملاق؟
لضمان نجاح هذا المشروع الضخم، لا بد أن يدير دفّته رجل معروف ومشهور بكفاءته، وتجربته، وشعوره بالواجب، ونزاهته الأخلاقية، ومعرفته العميقة بمختلف دواليب الدولة والآليات المالية.
رجل ليس همّه أن يملأ جيوبه، ولا يتأثر بأي ضغط، وليس مسؤولا إلا أمام الرئيس.
باستعراض العديد من الشخصيات المشهورة على الساحة السياسية بحثا عن الرجل الذي تتوفر فيه كل الصفات، خطر ببالي أحد الأسماء: أحمد ولد مولاي أحمد. إنه وزير سابق للمالية، حائز على دكتورا في الجباية، خبير في التركيبات المالية، متفرّغ منذ مدة لمكتب دراساته بعيدا عن زحمة الوظيفة وأضواء الإعلام.
المعني رجل لطيف المَعْشر مهذّب لكنه صارم عندما يجد الجدّ. وبشهادة من يعرفونه، هذا الرجل مسْكون في كل ما يقوم به بهاجس واحد: الخوف من الغضب الإلهي.
ونقول استطرادا بأننا لا نتشبّث باسم بعينه، فليكن هو أو غيره، المهم أن يكون على رأس هذا المشروع الهام شخص لا مطعن في نزاهته وخبرته وشغفه بالشأن العام.

موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط
 

 

19. يناير 2025 - 22:09

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا