الإسراء والمعراج / ‏رقية أحمد منيه ‏

من معجزات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه معجزة الإسراء والمعراج، إذ أسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته، وعرج به إلى السماء ليرى من آيات ربه الكبرى، رحلة نبوية كريمة تلخص أسمى المعاني والدلالات العظيمة، في ظرف زماني اشتد فيه الكرب على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد عام الحزن، وما تتابع من وقائع، مع صد المشركين وتكذيبهم، إنه الاصطفاء يتجلى في احتفاء العالم العلوي بالرحمة المهداة للعالمين سيد ولد آدم محمد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، لئن كان أهل الأرض قد اجتالتهم الشياطين عن رؤية الحق الأبلج الذي أرسل به، فإن أهل السماوات يتلقونه بحفاوة بالغة "مَرْحَبًا بِهِ وأهْلًا "، في عوالم تختصر السياقات الزمانية؛ حيث لا يدرك العقل البشري عظم قدرة الخالق جل شأنه وتعالى ذكره، إلا من عصمه الله تعالى، ما زاغ البصر وما طغى، مشاهد يسجلها الذكر الحكيم للدلالة على تنزيل الحكيم العليم، في سورة الإسراء..

 إن السامع لا يسعه إلا تنزيه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره، وإطلاق اللسان والجنان بالتسبيح، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، قال صاحب الجامع لأحكام القرآن: "وَمَعْنَاهُ التَّنْزِيهُ وَالْبَرَاءَةُ لِله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ. فَهُوَ ذِكْرٌ عَظِيمٌ لِله تَعَالَى لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ الله الْفَيَّاضُ أَحَدُ الْعَشَرَةِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : مَا مَعْنَى سُبْحَانَ الله ؟ فَقَالَ: تَنْزِيهُ الله مِنْ كُلِّ سُوءٍ".

كان الإسراء من بقعة تشرفت بأول بيت وضع للناس، إلى مسجد يجتمع فيه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، للصلاة في الأرض المباركة، إمامهم صاحب الرسالة الخاتمة صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، جعله الله تعالى، مهيمنا على الكتب السماوية، وبث فيه من عجائب الأسرار ما يعجز عن الإتيان به.
أما قوله تعالى: ﴿مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا﴾، فقد اختلف العلماء هل يعني بالمسجد الحرام مسجد مكة المحيط بالكعبة أم البلد الحرام، قال صاحب التسهيل لعلوم التنزيل: " وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: 《 بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل》، وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيته، فالمسجد الحرام على هذا مكة أي بلد المسجد الحرام" ،
 وقال غيره من الأئمة أنه صلى الله عليه وسلم أسري به من بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب، فعنها رضي الله عنها قالت في مسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقول:" ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قُبيل الفجر، أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: 《يا أمّ هانِئٍ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمْ العِشاءَ الآخِرَةَ كَمَا رأيْت بِهَذَا الوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الغدَاةِ مَعَكُمُ الآنَ كَمَا تَرينَ》، ذكره الإمام الطبري .
وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء:" وسُمِّيَ الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد، ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد؛ فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة". قاله صاحب التسهيل لعلوم التنزيل.
إنه مسرى الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وأولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومأرز الإيمان عند فساد الزمان.
وأما المعراج، فقد اختلف العلماء هل بالروح أم الجسد أم هما معا؟
الجمهور على أنه بهما معا، لما وقع من عدم تصديق قريش، إذ لو كان بالروح لما حدث استغراب، ما يعني أن الإسراء بروحه وجسده معا صلى الله عليه وسلم، وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة، ومن ذلك امتحان الناس، حيث ثبت القلة؛ منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه: روى الإمام الحاكم الخبر ولأجل هذا الموقف سمي بالصديق، "فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن، وسعوا إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه! قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي الصديق)".

لقد كانت رؤيا حق وصدق بالبصر للرسول صلى الله عليه وسلم، أراه الله من آياته ما ازداد به ثباتا، وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث رفع قدره، قال صاحب التحرير والتنوير: وقَوْلُهُ: ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ تَعْلِيلُ الإسْراءِ بِإرادَةِ إراءَةِ الآياتِ الرَّبّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الحِكَمِ الَّتِي لِأجْلِها مَنَحَ الله نَبِيَّهُ مِنحَةَ الإسْراءِ، فَإنَّ لِلْإسْراءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِن حَدِيثِ الإسْراءِ المَرْوِيِّ في الصَّحِيحِ، وأهَمُّها وأجْمَعُها إراءَتُهُ مِن آياتِ الله تَعالى، ودَلائِلِ قُدْرَتِهِ ورَحْمَتِهِ، أيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الآياتِ فَيُخْبِرُهم بِما سَألُوهُ عَنْ وصْفِ المَسْجِدِ الأقْصى".
وذكر صاحب الدر المنثور وقائع ما نقل من الأخبار المأثورة عن ليلة الإسراء والمعراج:
"وأخْرَجَ النَّسائِيُّ، وابْنُ مَرْدُويَهْ، مِن طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أبِي مالِكٍ، عَنْ أنَسٍ، أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: 《 أُتِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِدابَّةٍ فَوْقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ، خَطْوُها عِنْدَ مُنْتَهى طَرْفِها، كانَتْ تُسَخَّرُ لِلْأنْبِياءِ قَبْلِي، فَرَكِبْتُهُ ومَعِي جِبْرِيلُ فَسِرْتُ، فَقالَ: اِنْزِلْ فَصَلِّ. فَفَعَلْتُ، فَقالَ: أتَدْرِي أيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ وإلَيْها المُهاجَرُ إنْ شاءَ الله . ثُمَّ قالَ: اِنْزِلْ فَصَلِّ. فَفَعَلْتُ، فَقالَ: أتَدْرِي أيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْناءَ حَيْثُ كَلَّمَ الله مُوسى. ثُمَّ قالَ: اِنْزِلْ فَصَلِّ، فَصَلَّيْتُ، فَقالَ أتَدْرِي أيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسى. ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَجُمِعَ لِيَ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَإذا فِيها آدَمُ فَقالَ لِي: سَلِّمْ عَلَيْهِ. فَقالَ: مَرْحَبًا بِابْنِي والنَّبِيِّ الصّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الثّانِيَةِ، فَإذا فِيها اِبْنا الخالَةِ عِيسى ويَحْيى، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ، فَإذا فِيها يُوسُفُ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الرّابِعَةِ، فَإذا فِيها هارُونُ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الخامِسَةِ، فَإذا فِيها إدْرِيسُ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ السّادِسَةِ، فَإذا فِيها مُوسى ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ السّابِعَةِ، فَإذا فِيها إبْراهِيمُ، ثُمَّ صَعِدَ بِي فَوْقَ سَبْعِ سَماواتٍ، وأتَيْتُ سِدْرَةَ المُنْتَهى فَغَشِيَتْنِي ضَبابَةٌ فَخَرَرْتُ ساجِدًا، فَقِيلَ لِي: إنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّماواتِ والأرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وعَلى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقُمْ بِها أنْتَ وأُمَّتُكَ. فَمَرَرْتُ عَلى إبْراهِيمَ فَلَمْ يَسْألْنِي شَيْئًا، ثُمَّ مَرَرْتُ عَلى مُوسى فَقالَ لِي: كَمْ فَرَضَ عَلَيْكَ وعَلى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً. قالَ: إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أنْ تَقُومَ بِها أنْتَ ولا أُمَّتُكَ، فاسْألْ رَبَّكَ التَّخْفِيفَ. فَرَجَعْتُ فَأتَيْتُ سِدْرَةَ المُنْتَهى فَخَرَرْتُ ساجِدًا فَقُلْتُ: يا رَبِّ، فَرَضْتَ عَلَيَّ وعَلى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَلَنْ أسْتَطِيعَ أنْ أقُومَ بِها أنا ولا أُمَّتِي. فَخَفِّفْ عَنِّي عَشْرًا، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسى فَسَألَنِي فَقُلْتُ: خَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا، قالَ: اِرْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْألْهُ التَّخْفِيفَ. فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا ثُمَّ عَشْرًا، حَتّى قالَ: هُنَّ خَمْسٌ بِخَمْسِينَ، فَقُمْ بِها أنْتَ وأُمَّتُكَ. فَعَلِمْتُ أنَّها مِنَ الله صِرّى، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسى فَقالَ لِي: كَمْ فَرَضَ عَلَيْكَ؟ فَقُلْتُ: خَمْسَ صَلَواتٍ. فَقالَ: فُرِضَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ صَلاتانِ فَما قامُوا بِهِما، فَقُلْتُ: إنَّها مِنَ الله . فَلَمْ أرْجِعْ》 .
معجزة الإسراء والمعراج كانت من المنح الربانية لبيان منزلة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وتثببت قلبه على الحق، والتنبيه على العناية بعبادة الصلاة، إذ هي الصلة بين العبد الفقير والرب القدير،
وفيها من عجائب الألطاف الربانية التي تحفز القلب على التشوف إلى عطاء الرب تبارك وتعالى، واستجلاب مرضاته بمداومة قرع أبواب الإلحاح، عسى الله أن يأتي بالفتح .

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

27. يناير 2025 - 10:06

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا