الكتاب الذي بين أيدينا يطلعنا على النظرة الغربية إلى الإسلام والمسلمين، ويحدثنا عن التلفيق الذي يتعرض له ديننا العظيم منذ ظهوره، بدء بكفار قريش، وقولهم على النبي صلى الله عليه وسلم شاعر، ساحر، ومجنون، وهو كقول النصارى عليه صلى الله عليه وسلم – كما سيتبين لك.
والغالب أن يرافق التلفيق أسلوب الإستهزاء الذي هو سمة من سمات أهل البدع المفتقرين إلى البراهين، فمثلا يلصق أهل البدع بالمتبعين للسلف، المتمسكين بالسنة، وصف التشدد، والإرهاب أحيانا! فإذا حذر أحد المصلحين من البدع التي لم يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام، قالوا: متشدد، جاهل، غير فاهم، غير عارف! إلى غير ذلك من الأوصاف السخيفة التي لا يدعمها عقل ولا دليل..
والأسوأ من ذلك جهل الفصيلة العلمانية بالدين، وتمسكها المريب به، واختيارها لما يوافق هواها منه، أما ما يحرمها من المتع الشيطانية التي تفرضها الأنفس الأمارة بالسوء، فتحاربه متعللة بسداد الفهم، والتحضر، والوسطية المائعة، معتمدة في ذلك على نتائج الصراع الذي هُزم فيه الدين المحرف في أوربا القرن الأخير، والذي كان من نتائجه إخراجه قسرا من الحياة السياسية للدول، والشخصية للأفراد..
ملاحظة: توجد نسخة مصورة من هذا الكتاب على الإنترنت، وقد طبعت المقتطفات التي اعتمدتها يدويا لتعذر النسخ واللصق..
كتب الفيلسوف والكاتب الروسي "تولستوي" في يومياته ربيع عام 1901:
"إن الأوقات السعيدة في حياتي هي تلك الأوقات التي منحتها كاملة لخدمة الناس". كان الكاتب نموذجا للمثقف الذي توحد عنده الفكر والممارسة، والتنظير وتغيير الواقع، ومحاولة تحسين واقع الناس. يقول: "إن الهدف الرئيسي للفن هو أن يظهر الحقيقة عن روح الإنسان، وأن يكتشف الأسرار التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات يسيرة، إن الفن ميكروسكوب يسلطه الفنان على روحه ويعرض تلك الأسرار المشتركة مع الناس". وقد أوضح الكاتب في كتابه "ما الفن؟" أن الفن ينبغي أن يوجه الناس للأخلاق الفاضلة وأن يعمل على تحسين أوضاعهم، ولابد أن يكون الفن بسيطا يخاطب عامة الناس"، وعليه لا يجب أن يتعارض الفن مع الدين.
[التعليق: لاحظ الفن الفاجر عندنا ممثلا في بعض الأفلام والروايات الوقحة، هل مثل هذا الفن يوجه الناس إلى الأخلاق الفاضلة، ويحترم تعاليم الدين؟ والأخطر من ذلك أن كل من أراد أن تكون له مكانة فنية سامية عند الغرب، يعمد إلى حشمة مجتمعه فيعريها في أعماله الإبداعية! ساعيا إلى الحصول على جوائز الغرب المشبوهة التي يريد أصحابها بها الإفساد في أرض المسلمين.. والعجيب أن يوصف مثل أولئك الفسقة الناقصين بنخبة، اللهم إلا إذا كانوا نخبة من الشياطين، فهم في الغالب جهلة بالدين، وساخطين على مجتمعاتهم، ومقلدين لغيرهم من فجار الغرب الذين لا يعرفون وقارا ولا دين]..
وحينما يسأل "تولستوي" عن الإيمان يقول بأن الإيمان هو الذي يحيا به الإنسان، وأنه رصيد الحياة. ومع ذلك قاوم رجال الكنيسة الآرثودوكسية في روسيا، ودعا للسلام وعدم الإستغلال، وعارض العنف، وكان من الشجاعة بحيث قال: "لقد استولى حب السلطة على قلوب رجال الكنيسة كما هو مستول على نفوس رجال الحكومات، وصار رجال الدين يسعون لتوطيد سلطة الكنائس من جهة، ويساعدون الحكومات على توطيد سلطتها من جهة أخرى". وكفرته الكنيسة بسبب آرائه، ونتيجة لهذا الصراع أوصى بأن يدفن بعد موته بدون طقوس ولا صلاة ولا صليب على قبره. وقد كتب الناقد الروسي الكبير سوفورين في يومياته بتاريخ 29-05-1901: "لدينا في روسيا قيصران: نيكولاي الثاني، وليف تولستوي، من منهما الأقوى؟ لا يستطيع نيكولاي أن يفعل شيئا مع تولستوي، لا يستطيع هز عرشه، في حين أن تولستوي وبلا شك يهز عرش نيكولاي وعائلته". فلا شك أن قوة تولستوي تكمن في كونه عبر عن مصالح ملايين من الفلاحين.
وهناك دلائل ترجح أن تولستوي دخل في الإسلام في آخر حياته مثل قوله: "سوف تسود شريعة القرآن العالم لتوافقها مع العقل، وانسجامها والحكمة، لقد فهمت وأدركت أن ما تحتاجه البشرية هو شريعة سماوية تحق الحق وتزهق الباطل، ستعم الشريعة الإسلامية كل البسيطة لإئتلافها مع العقل، وامتزاجها بالحكمة والعدل، ويكفي محمدا فخرا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد، لتكون آخر الرسالات على يديه وليكون هو أيضا آخر الأنبياء". وتوجد نسخة مترجمة من القرآن باللغة الفرنسية في مكتبة تولستوي الخاصة في بيته بقريته "باسنابا بوليانا"، والذي تحول إلى متحف. كذلك كتب روايته "الحاج مراد" بين عامي 1896-1905، التي تحس فيها بتعاطفه مع الحاج مراد، وتفهمه لشخصيته. ومن الثابت أن تولستوي كتب في بعض آخر رسائله إلى الإمام محمد عبده: "بقيت لي ثلاثة أسئلة إن أجبتَ عليها إجابة مرضية اتخذت الإسلام دينا".
وهناك احتمال أن تكون زوجته قد تسترت على إسلامه بعد موته كما قال الدكتور محمود علي التائب، كما أن ابنه الأصغر ميخائيل عاش سنوات عمره الأخيرة في المغرب، وهناك من يقطع بإسلامه أيضا كما قال الدكتور.
لقد ترجم عبد الله السهرودي الهندي المسلم بعض الأحاديث النبوية إلى اللغة الإنجليزية، وصدرت في الهند عام 1908م، واطلع عليها تولستوي فترجمها إلى اللغة الروسية، وقدم لها بمقدمة ظهر فيها إعجابه الكامل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما في تعاليمه من قيم سامية وفكر راق. ولما رأى تحامل الملحدين والمنصرين على الدين الإسلامي ورسوله صلى الله عليه وسلم، هزته الغيرة على الحق الذي يعرفه فلم يسكت عن بيان الحق، وتلك سمة من سمات الكاتب الحر، والفكر الأصيل. فألف رسالة عن نبي الإسلام ضمنها تلك الأحاديث (قبل عام من وفاته)، كان هدفه من كتابه هذا الدفاع عن الإسلام ونبيه الكريم.
[إن الحق يستحق أن نغار عليه، وواجبنا أن نصدح بما نعتقد، تعليما وتعلما. لكن للأسف يوجد من علمائنا اليوم من يعلم بإفلاس جيران له من أهل البدع، ورغم ذلك يسكت عنهم، ويجاملهم حرصا على السلامة والراحة، ولو كان ذلك هدفا لأستراح الأنبياء، ودين الله عز وجل أولى بالتضحية من المنافع الدنيوية الزائلة.. والأهم من ذلك أن نعرف جميعا أن الحوار ضروري فلا نسمح للعداوات الشخصية التي يبثها الشيطان بيننا من أجل عدم التطرق للباطل، أن تحول بيننا وبين الحق، فالصراع سيظل موجودا، وهو بين أفكارنا وتوجهاتنا لا بين أشخاصنا. وعلى كل واحد منا سواء كان على حق أو على باطل أن يعلم أن المشكل موجود بين فكره وفكر أخيه، فيتفادى بذلك التعصب المقيت الذي يحول دون ظهور الحق، فعندما تشتعل نيران العداوة السخيفة بيننا نسمح للأفكار الباطلة بأن تسخر من غبائنا، ونحميها من الإنكشاف، وبالتالي نخسر الحق، وربما أنفسنا]..
كتب "ايلمر مود"، أحد كبار مترجمي تولستوي إلى اللغة الإنجليزية في كتابه "تولستوي ومشكلاته" أن تولستوي ولد في عائلة من النبلاء (ربما من الطبقة التي تلي العائلة المالكة) كانت لهم أراض شاسعة، وكان أبوه يحمل لقب كونت، وأمه من طبقة الأمراء، ماتت وهو في الثانية من عمره، فكفلته عماته وخالاته، وقد أثر ذلك في أدبه لاحقا. ثم توفي أبوه وهو في التاسعة من عمره، وذلك بعد انتقال العائلة إلى موسكو قادمة من الريف، لكن لم تواجهه مشاكل مادية نتيجة لغنى العائلة. وفي عام 1844م التحق بالجامعة قسم الآداب العربية والتركية قبل أن يتحول إلى كلية الحقوق في العام التالي، ولكن ذلك لم يعجبه فهجر الدراسة وذهب إلى الريف للإهتمام بمزرعته الكبيرة الموجودة في منطقة ساحرة الجمال. ثم انخرط في الجيش وخاض الحروب، وفي نفس الوقت كان يعد نفسه للكتابة الأدبية، فكتب ثلاثيته التي تكلم فيها عن بدايات حياته.. وكان الأدب بالنسبة له عبارة عن أداة للتحليل النفسي للذات.. لمعرفة سبب الصراع الذي يشعر به بين مبادئه الأخلاقية العالية واستسلامه لعالم الشهوات المادية المضادة للمثل العليا..
[أعتقد أن معظم أصحاب النفوس السامية والحس المرهف يفضلون الريف على المدينة، خصوصا إذا كانت المدينة قذرة كنواكشوط، ففي الريف والبادية تصفو النفوس بملامسة الطبيعة، وترتاح الأعين والعقول من ضغط البشر، وتحلو مناجاة الخالق عز وجل، وعبادته]..
ثم استقال تولستوي من الجيش في عام 1856م لكي يتفرغ للأدب تماما، وعاد إلى روسيا بعد موت القيصر المستبد "نكولا الأول" وصعود قيصر إصلاحي هو "الكسندر الثاني"، وحرر عبيده الذين يشتغلون في أراضيه الشاسعة، وانشأ المدارس لتعليم أبناء الفلاحين الذين كانت الأمية منتشرة في صفوفهم بنسبة 90 في المائة على الأقل، وقد كتب مرة قائلا: "إن سعادتي لا تكتمل إلا بسعادة الآخرين، وما دام الشعب في أغلبيته الساحقة فقيرا معدما فإنني لن أكون سعيدا.. لقد صدم تولستوي النبلاء بتوجهاته الإنسانية هذه، ولم يفهموا سبب اهتمامه بالفلاحين الجهلة والأغبياء - وكانوا يعتقدون أن الله خلق العالم وقسمه إلى قسمين قسم النبلاء الأشراف المحظوظين، وقسم بقية الشعب كالفلاحين الذين عليهم خدمة النبلاء عن طريق العمل في الأرض، وأما النبلاء فلا يشتغلون ولا يتعبون لأنهم من جنس وبقية الناس من جنس آخر!، فكان تولستوي يحتقر هذه الرؤيا.
[هذه الفكرة ترتكز عليها معظم أنواع الظلم والإستبداد، فالظالم ينظر إلى المظلوم بعين الإنتقاص – تأمل نظرة الغني إلى الفقير، والمشغل إلى العامل، والمجتمع إلى الطبقات المهمشة-، وإحدى نقاط قوة ديننا الإسلامي العظيم هي أنه لا يفرق بين الناس إلا بالتقوى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، بعكس المسيحية المحرفة التي لولا اضطهادها للمستضعفين لما قضت عليها العلمانية الفاجرة في أوربا، كذلك اليهودية التي يعتبر أصحابها أنفسهم مميزين عن بقية الناس، فيظلمونهم ويضطهدونهم بتلك الحجة]..
ثم سافر تولستوي في عام 1857م إلى أوربا الغربية (ألمانيا، وفرنسا وسويسرا) وكانت أكثر تطور من روسيا، واطلع على المدارس الأدبية والفكرية، وعلى مناهج التربية والتعليم السائدة، وفي عام 1869 أنهى روايته الكبيرة الأولى "الحرب والسلام"، وقد استغرقت كتابتها خمس سنوات، وفي عام 1877م أنهى روايته الكبيرة الثانية "آنا كارنينا"، وكان يشعر بالإحباط والخواء وعبثية الحياة إذ لا معنى لوجوده على الرغم من الغنى والموهبة، وفكر جديا في الإنتحار لكنه تراجع في آخر لحظة، وبدا يحسد الفلاحين على بساطتهم، ويفكر في الموت والعدم، ولهذا السبب عاد إلى الكنيسة على مدى عامين 1877-1878م لكي يحمي نفسه من إغراء الإنتحار. واكتشف بعد ذلك أن الكثير من الشوائب قد علق بالدين لذا تخلى عن القشور السطحية واكتفى بالجوهر، فلا داعي عنده للطقوس! فراح يختزل الدين في الأخلاق فقط، على الإنسان أن يفعل الخير بقدر المستطاع ويتحاشى الشر ما أمكن. ولما عاد إلى موسكو في عام 1881م بعد طول غياب لاحظ انتشار الفقر والبؤس وبخاصة في الأحياء الشعبية والضواحي، وهاله الأمر، وراح ينقم على النظام السياسي والإجتماعي السائد، وراح ينادي بنفس المبادئ التي نادى بها "جان جاك روسو" من قبله. وقال بأن الملكية هي سبب استغلال الإنسان للإنسان، وانتشار الظلم. وان طبقة الإقطاعيين تمتلك كل أراضي روسيا في حين أن معظم الشعب لا يملك أي شيء تقريبا، فأين العدل؟..
ورغم عدانته للنظام السائد (تحالف الملكية والكنيسة والإقطاعيين على الشعب) إلا أنه لم يقبل الأعمال الثورية العنيفة التي بدأ البعض يقوم بها كالإغتيالات التي شهدتها روسيا في منتصف القرن التاسع عشر، والتي طالت حتى أحد القياصرة. فرفض تبرير تلك الأعمال بحجة خدمة الشعب المضطهد، ومعلوم انه أسس لفكرة اللاعنف قبل غاندي، ولعل الأخير أخذها منه.. ونلاحظ أن مشكلات تولستوي على المستوى الشخصي تركزت في معنى الوجود، ومسألة الحياة والموت، وكان مثل أستاذه "جان جاك روسو" مهووسا بمسألة الأصالة والصدق مع الذات، والإقتراب من الطبيعة، والبعد عن الإصطناع الذي تتميز به حياة المدن.. لقد قال تولستوي يوما: "سوف أسخر كل ثروتي وطاقاتي من أجل تثقيف الشعب وتعليمه، وحتى لو عارضتني السلطة كلها فسوف أسير في مشروعي حتى النهاية".
[إن الحياة بدون تفكير في الآخرة، مجرد عبث، ومغامرة غير محددة المعالم، لكن الذين يفكرون في الآخرة قلة من العقلاء، أما اللاهون الذين يعيشون كالبهائم على الأكل والنكاح وأسبابهما، لا يفكرون في غير الشهوات المنقضية، وهم للأسف أكثرية (من كل 1000 إنسان 999 إلى النار).. وعقلاء الغرب محتارون أمام لغز الحياة بسبب بعدهم عن الدين الصحيح الذي يحله، فما بالك بعوامهم المساكين؟ أما عندنا فيوفر الدين الأجوبة على جميع الأسئلة الصعبة، ويوفر الإيمان بالغيب – وهي نعمة نحسد عليها – الراحة من عذاب النفس والشك في معنى الحياة، والإقدام بعد ذلك على الإنتحار الغبي، وينير لنا الطريق نحو الهدف الأسمى، وهو العودة إلى الدار الأصلية، الجنة التي أخرجنا منها، تلك الدار التي لا يكتئب من دخلها، ولا يعترض على شيء. لكن الدنيا دار ابتلاء، لابد من الشقاء فيها، ومن عاش فيها بعيدا عن الله عز وجل تورط في مغامرة غير مضمونة العواقب، وهو حال معظم الغربيين].
كان تولستوي ينشد الكمال والإكتمال في كل شيء، في علومه وفي المعرفة العامة وفي صحته، ولياقته البدنية، وينشد الكمال الأخلاقي، فماذا وجد؟ يقول في كتابه "اعتراف" عن مرحلة شبابه: "كلما حاولت أن أعبر عن رغبتي العميقة وطموحاتي الأخلاقية كنت أقابل ممن حولي بالإزدراء والإحتقار، وحينما اسلم نفسي للرغبات الوضيعة أقابل بالمدح والتشجيع".
[تأمل في سخرية الناس من الصالحين والمصلحين، وازدرائهم لهم، وتأمل نجاح الكفار والأدنياء في الحصول على شهوات الدنيا، أما أهل الصلاح فمبتلون بغيرهم، يريدون الخير للناس، ويريد المنحرفون لهم الشر للأسف، وتلك سنة من سنن الحياة.. فإذا أغضبك شخص فأعرض عنه، وأشفق عليه، لأن نفسه الأمارة بالسوء تسيطر عليه، ويعينه على ذلك قرينه الساكن لصدره، وشياطين الإنس والجن المحيطين به يؤثرون عليه، فهو باختصار: مسكين، غير حر في تصرفاته.. وبالمناسبة لا تثق في أحد مشبوه حتى إن كان في مرتبة الأخ، فالشبهة التي تخيم عليه تفرض عليه في الغالب أن يكون شريرا بلا قلب ولا ضمير، فمثلا عندي صديق من تلك النوعية، وقد دفعت ثمن الثقة فيه من جيبي، حتى أنني قلت لأخ لي: من العجيب أن الوضوح والأمانة والثقة في الناس، أصبحت في هذا الزمن نقاط ضعف يستغل أصحابها أسوا استغلال، ويستهزأ بهم بعد ذلك للأسف].
يقول تولستوي عن مجتمعه: "إنه مجتمع يعتبر أن الطموح وشهوة القوة والمصلحة الذاتية، والإنغماس في الشهوات والتكبر، والغضب، والإنتقام" هي الصفات التي يجب أن تحترم، فصار طموحه الأساسي أن يكون أكثر شهرة، وأهمية، وثراء من أي إنسان آخر، حتى لو كان ذلك من خلال ارتكاب خطأ ما!
[للأسف يعيش أكثر الناس بهذه الصفات البغيضة التي لا طائل منها، تغرهم الحياة الدنيا بزيفها، ويحسبون السراب ماء، فلا تكاد تجد أحدهم إلا مسحوبا بتيار الحياة كالميت، قليل من يقاومه، ولا مقاومة له بدون معرفة الله عز وجل، لكن تلك المعرفة تتطلب صدقا مع النفس، وأخذا للدين بقوة من تعلم للعلوم الشرعية التي لم يعد يهتم بها إلا القليل في ظل علوم الدنيا التي لم تفلح عندنا إلا في زيادة عدد العاطلين عن العمل يوما بعد يوم]..
ويبدأ تولستوي في سن 26 بمخالطة طبقة الكتاب والشعراء والمثقفين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم رواد التعليم في ذلك الوقت - النصف الثاني من القرن التاسع عشر -، حيث أصبح التطور أو التقدم هو الدين الجديد. ويقول تولستوي عن هذه الفترة: "كنا نتحدث جميعا في وقت واحد، ولا يستمع أحد منا للآخر.. وأحيانا يمتدح أحدنا صاحبه انتظارا لأن يمدحه في المقابل، وأحيانا تتعالى صرخات الإعتراض فيما بيننا، كما لو كنا في مستشفى للأمراض العقلية".
[ما أسعد الشيخ بطلبته الخاضعين له، المنصتين لكلامه بلا اعتراض. إن من أصعب الأمور أن تبتلى بجاهل لا يدع لك مجالا للكلام، ولا يقبل منك قولا. عندما يعتقد كل واحد من المجتمعين في مكان أنه في مرتبة الآخر أو أعلى منه شأنا، تنعدم الفائدة، ولا يبقى إلا التشدق والهذيان]..
ويموت أخوه الأكبر بسبب المرض، فيقول والألم يعتصره: "مات دون أن يفهم لماذا كان يعيش؟ أو لماذا مات؟".. [هذا هو حال من عاش في هذه الدنيا معتمدا على العقل وحده بعيدا عن الدين الصحيح، الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد الحقيقي، ومعالي الأخلاق، ويساوى بين جميع الناس، لا تفاضل فيه إلا بالتقوى، والتقوى هي أهم ما يخلصنا من سحر الحياة الصارف عن الصالحات.. وبالمناسبة اعتقد أن الروح لا تكبر ولا تهرم مثل الجسد – وهذا مجرد افتراض سمعته من أحد الدكاترة-، فهي موجودة أبدا، قبل دخول الجسد، وبعد الخروج منه بالموت، لذا فإن روح الشيخ كروح الصبي، تظل فتية أبدا، والفرق يحدثه الجسد الذي تتالى درجات استيعابه لفتوتها كلما تقدم به السن نحو العجز والإندثار. وحيوية الروح وجدتها قد تكون السبب في غفلة الإنسان عن الموت، فروحه الخالدة بطبعها لا تفكر في الموت، فهي بعده ستواصل رحلتها في الجنة أو في النار، والعياذ بالله من النار، وكل منهما عالم متكامل في مجاله، ففي الجنة كمال النعيم، الإنسان سالم من جميع المنقصات، ومظاهر الضعف كالعجز والهم والمرض. وهي عالم ليس كالدنيا، سقفها عرش الرحمان، وسكانها أفاضل الإنس والجن، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، ويوجد فيها ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهي دار تستحق العمل ومحاربة الشياطين من أجلها، وما الحياة الدنيا بشهواتها الناقصة إلا متاع مقارنة بها.
أما النار –والعياذ بالله- فهي عالم آخر، يوجد فيه أخبث وأقذر المخلوقات، وتتجلى فيه العذابات الكبرى، طعام أهله وشرابهم ليس كالطعام والشراب، فهي أدهى وأمر سجن.. ونحن في الحقيقة نحيا بهذه الأرواح التي أشهدها الله تعالى عليه في عالم الذر –عالم ما قبل الولادة-، فنحن نعرفه بفطرنا السليمة، وأحاسيسنا الصادقة تدل عليه، كما يدل عليه هذا النظام المكتمل الذي وفر لنا لكي نحيا فيه، والذي لابد له قطعا من صانع، وإلا فكيف تعلق كرة –كوكبنا- في فضاء بلا قرار دون سقوط، ويمدها كوكب –الشمس- بالدفء والنور من البعيد، وتدور حولها الكواكب دون ارتطام يسحقها! فيها وحدها الهواء الصالح للتنفس، ويخرج منها وحدها ما يساعد على الحياة بانتظام، الفواكه لها فصول، كالمطر وغيره! لكن حتمية الإختبار في هذه الدنيا، وطبيعة أجسادنا الطالبة للمتع والنزوات الشيطانية، تفرض علينا التأثر إما سلبا أو إيجابا بهذه الدنيا].
ويلح عليه سؤال في بداية عقده الخامس رغم موفور الصحة والغنى، وهو "ماذا بعد؟" ما هو معنى الحياة؟. ويبحث في الكتب على مدى ثلاث سنوات كصريع في صحراء يبحث عن قطرة ماء، ثم يبحث في الناس من حوله، فيجدهم ينقسمون في الجواب على هذا السؤال إلى أربعة أقسام: قسم يهرب من الجواب من خلال الإكتفاء بالجهل، ولا يحاول المعرفة، وقسم يهرب من خلال منهج في الحياة يجعل الهدف منها هو اللذة، كذلك يتسم بالقوة والشجاعة – حسب قوله - لأنه يعرف أن الحياة كلها شر، ولا طائل من ورائها، فيرفضها، ويقدم على التخلص منها. وقسم رابع ضعيف لأنه يعرف أن الحياة كلها عبث وعدم، ورغم ذلك يفتقد الشجاعة للتخلص منها. وقد صنف نفسه في هذا الصنف لأنه يتعذب ولا يجد معنى للحياة كما لا ينتحر. ورأى أن العامة يعيشون معنى الحياة حتى وهم غير قادرين على التعبير عن هذا المعنى، ويكفى أنهم سعداء راضون بالحياة على الرغم من انه ينقصهم الكثير من رفاهية الماديات التي تتمتع بها طبقة المثقفين والأثرياء، وهم لا يرفضون الحياة، ولا يرونها عبئا مثل تلك الطبقات.
[ما أقبح الإنتحار، فهو عندنا نحن المسلمون بابا يقود إلى جهنم مباشرة، وكيف يقتل العاقل نفسه، والحياة كلها مشاكل وابتلاءات، لا تخلوا لحظاتها من أفراح وأتراح، فعلينا أن نغتنم فرصها دون كثرة حساب، فكثرة الحساب تفسد بساطة الحياة وعفويتها، لكن المهم ألا نفعل إلا الصواب.. أما تقسيم الكاتب للناس إلى هذه الأقسام الأربعة فرغم انطباقها على المجتمع الغربي لبعده عن الدين الصحيح، فلا أوافقه في انطباقها علينا إلا في القسمين الأول والثاني، لأن مسالة عبثية الحياة غير مطروحة عندنا – والحمد لله، فنحن نعلم أين كنا وإلى أين نحن ذاهبون، ولماذا خلقنا، ولما امتحنا بالدنيا.. أما الجهل الذي لا يحاول أصحابه التعلم فكثير عندنا، تجد الواحد منا مطالب بمعرفة طريقة صلاته، فتراه يصلى كيفما وافق، لا يهتم ولا يسال! وهو مطالب بمعرفة كتاب ربه الذي هو خير مناج له، فترى مصحفه يعلوه الغبار – إن كان عنده مصحفا أصلا. أو معرفة رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل محبته التي هي من شروط الإيمان، والإقتداء به، فتراه لا يعرف حتى ما اشتهر من سيرته العطرة!]..
ثم أدرك تولستوي أن هناك نوعا من المعرفة تختلف عن المعرفة العقلية أو الذهنية، لأن هذه تتعامل مع كل ما هو مؤقت ولا يمكنها أن تكون مصدرا للمعرفة حول ما هو خالد لا ينتهي بالموت، فذلك النوع مرتكز في العقيدة، فبحث في المعرفة الدينية المسيحية فلم يجد شيئا عند رجالها، كما رآهم لا يعيشون ما يقولونه تطبيقا، بل قد يكونون أحرص على الثراء والشهوات ممن لا عقيدة له. ولما لم يجد إجابة دعا ربه. يقول: "أدعو من ابحث عنه لعله يساعدني، وكلما دعوته بدا لي أنه لا يسمعني، ولا يوجد من ألجا إليه أبدا"، "وبقلب مليء بالحزن توجهت من جديد أصرخ: يا إلهي رحمتك! أنقذني! أرني الطريق". واعتقدَ أن الله هو الحياة لأنه لم يلق إجابة، ثم قال: "وبأقوى من أي لحظة أخرى في حياتي أشرق كل شيء داخلي ومن حولي بالنور، ولم يفارقني هذا النور أبدا". فكانت لحظة ميلاد بعد الكثير من الآلام، وكعادته يقتحم دائرة المعرفة بحب وإخلاص، فيذهب ليصلي يحب ورغبة في الكنيسة لكنه يجد أشياء كثيرة في الطقوس لا يعرف لها معنى، فيحاول أن يضفي عليها معنى ومفهوما من داخله. ويمضي به الوقت وهو يزداد إحساسا بأن هذه التعاليم يختلط فيها الحق بالزيف، فكيف يجد الخط الفاصل بينهما؟ وحين يسأل يُجاب بأن الطاعة واجبة سواء أفهم أو لم يفهم؟ إجابة لم يسترح لها، وشعر بأنه يكذب على نفسه إن استمر في فعل ما لا يجد له معنى، فيقرأ الإنجيل، ويحاول أن يفهمه بنفسه، وكلما قراه يكتشف طبقات وطبقات من الدين الخاطئ الذي يروج له رجال الدين.
[لكن عندنا نحن المسلمين أمور غيبية لابد من الإيمان بها، لا مجال للعقل فيها لأنه لا يستطيع إدراكها، فهي تتجاوزه، وعلى الذين يسعون إلى فهم كل شيء أن يفهموا أنفسهم أولا ثم يبدؤون بعد ذلك في التوسع، فنحن في هذه الحياة مغلفين بالضعف ومحدودية الإدراك، لا نستريح، ونعيش بطريقة سوية إلا إذا عرفنا خالقنا، وآمنا بالغيب الذي أخبرنا به دون تذاك غبي.. ولاحظ انه أدرك وجود نوع من المعرفة يتجاوز ما أدركه البشر، وقال أنها متعلقة بالخالق سبحانه وتعالى، فهذا واحد من أعلام الغرب أدرك منذ أكثر من مائة سنة أن الأهم هو العلم بالله عز وجل، وأنه هو العلم الحقيقي، في حين نرى علمانيي هذا الزمن يعتقدون أن ذلك النوع من العلم يعتبر تخلفا ورجعية، لأنه بالنسبة لهم لا أدلة تجريبية تثبته – كما يزعمون–، كأن الأدلة التجريبية التي وقف عليها الإنسان الضعيف القاصر هي كل شيء! فعبدوا العلم من دون الله عز وجل، وليت شيطان العلم يوافقهم فيما ذهبوا إليه من نبذ للدين وتشكيك حتى في وجود الخالق –والعياذ بالله، بل العلم يؤكد وجود الخالق، وضرورة التدين، ولا يمكنه التناقض مع الدين لأن الذي أوجد الدين هو الذي أوجد العلم، لذا تجد أكثر العلماء والمكتشفين الغربيين مقرين بوجود الخالق، لا يختلفون إلا في التمسك بالدين الصحيح].
ومن أهم ما يقدمه اعتراف تولستوي أن الحياة الروحية تعاش ولا تلقن، وأن كسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم، وأن فهم الكتاب المقدس يكون بحرية العقل ونقاء القلب لا بالترديد الأعمى.
[والأمور في الإسلام واضحة، لا يحتاج المسلم إلى تلقين بها دون فهم منه، بل هي جلية، ومقبولة، ترتاح لها الفطر السليمة، أما الغيبيات من أمور الموت والآخرة فهي مرحلة تالية للحياة أخبرنا الله تعالى بما يساعدنا على فهمها، وولوجها بطريقة سليمة، وهي اختبار لإيماننا ككل ما في هذه الحياة الدنيا.. ولاحظ أن مسألة ما بعد الموت لا دخل للعقل والبرهان بها لأنها تتجاوزه، وهذا شأن كل الغيبيات، فإذا أثبتت العقيدة الحياة بعد الموت، وجاء العقل لينفي ذلك، فالنفي يحتاج لإثبات، ولا إثبات للعقل في هذه المسألة التي هي مثل الروح لا شأن له مطلقا بها، لذا لا تلقين في الإسلام متعلق بما يفهمه العقل، أما ما لا يفهمه العقل فلا دخل له فيه، ونحن المسلمون نسلم بالغيب ونؤمن به، وذلك من أركان الإيمان الستة التي لا يكتمل الإيمان إلا بها]..
من هو محمد؟
قال تولستوي: "إن محمدا هو مؤسس الإسلامية ورسولها، تلك الديانة التي يدين بها في جميع جهات الكرة الأرضية مائتا مليون نفس"..
[ثم ذكر دعوة الإسلام إلى التوحيد ونبذ الأرباب، وإلى محاسن الأخلاق والزهد في الدنيا، والعمل بجد، وكان تعريفه لذلك كتعريف أي علماني اليوم للدين حتى عندنا، تعريف ناقص يغلب عليه الجهل بحقيقة الحياة والدين - رغم احتمال حسن النية-، فمثلا قال إن محمد صلى الله عليه وسلم دعا الناس بناء على اعتقاد قام في نفسه ثم انطلاقا من الوحي، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر إقرار الإسلام للديانات الأخرى بإطلاق، ثم ذكر بعض الأحاديث التي اقتبسها من كتاب الهندي عبد الله السهرودي، سماها "حِكم النبي"، بعضها ثابت، وبعضها لا يثبت، ويدور مضمونها حول الأخلاق والأدعية.. وفهم تولستوي للإسلام ناقص، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس فيلسوفا يعلم الناس من منطلق فكره، بل هو رسول أمي من أبسط الناس وأسلمهم سجية، أوحى رب العالمين إليه ليخرج الناس من الظلمات على النور. كما أن الإسلام لا يقر الديانات الأخرى الموجودة في زمنه، فكلها منسوخة به، وباطلة اليوم. واكتمال الإيمان لا يتم إلا بإتباع تعاليم النبي كلها، فلا يمكن للإنسان أن يكون مؤمنا وهو لا يصلي، كما لا يمكنه ذلك وهو لا يحترم شريعة ربه أو يرى في غيرها أنه أفضل منها كما هو حال بعض المسلمين اليوم –حتى من حكامهم- للأسف، كما لا يمكنه ذلك وهو يعبد ربه بالبدع التي لم يأمره ربه بعبادته بها، فما لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بان نعبد ربنا به فهو باطل، أو على الأقل غيره مما ثبت خير منه، وأولى بالتمسك منه، فمثلا يأتيك البعض بصلاة مبتدعة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث، ويقولون لك: هذه الصلاة لقنها النبي صلى الله عليه وسلم لشيخنا منذ 300 سنة! كيف؟ وإذا سلمنا بصحة ذلك الزعم، أليس الإكتفاء بالصلاة الإبراهيمية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأدلة المدونة والمعقولة، خير وأولى بالأخذ من تلك الشبهة، على قاعدة "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"؟].
رأي تولستوي في الطلاق والحجاب:
يقول تولستوي: "إن السبب في مسألة الطلاق التي تشغل الرأي العام في أوربة هو التمدن الذي لم يقتبس الإنسان منه سوى الحمق والخلاعة.. فلا يمضي على زواج امرأة برجل ردح من الزمن حتى تقول له: حاذر أن أتركك وأمضي إلى حال سبيلي". فالمرأة خلعت ثياب الحشمة واحترام الزوج، وخرجت من دائرة الخضوع له، تلك الواجبات التي ينبغي أن تبقى عليها حتى انقضاء الآجل. فعلى الرجل أن يكد ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى لأنها إناء لطيف سريع الإنكسار". وعلى الرجل أن يراقب سلوك امرأته، ولا يطلق لها العنان بل يحجبها في البيت، والبيت دائرة حرية واسعة للمرأة".
[تأمل في كلام هذا الغربي العائد إلى ما يزيد على مائة عام، ألا يتطابق مع رأي الإسلام ويتناقض مع رأي الغرب وعبيده العلمانيين؟ فماذا جنت المرأة من الخروج إلى الحياة والكد والشقاء؟ ألا تحمد ربها على نعمة الجلوس في بيتها، مرتاحة، آمنة، مصلحة له ولأبنائها. ألا يكفيها أن زوجها حمل سيف الكد وخرج على معمعة الحياة وذئابها بدلا منها، لماذا تصر على صعود حلبة الصراع الدامية؟ وتلقي اللكمات القاضية التي تشوه جمالها وراحتها؟ وتعلمها الحدة والخشونة، وتحولها إلى رجل آخر أضعف في مواجهة وحوش الحياة المتربصة به]..
وقال عن الحب والزواج:
إن دوام الحب بعد الزواج من رابع المستحيلات.. وكل رجل إذا اجتازت به غادة فاتنة، فأكثر ما يكون أن يوجه إليها التفاتة، وقد يبذل بعضهم كل مرتخص وغال بعد ذلك في سبيل الوصول إليها. والمرأة من هذا القبيل كالرجل، فإنها تجتهد للإتصال بأكثر من واحد دائما، وما دام يمكنها الإتصال فهي نائلة أربها لا محالة. إن الزواج أصبح في عصرنا – منذ قرن من الزمان، فكيف به الآن؟- محض خداع، ولكنه لا يزال يوجد عند أولئك الذين يرون فيه سرا من أسرار الدين كالمسلمين، والصينيين، والهنود، أما نحن فلا نرى فيه غير تلك المقارنة الحيوانية.
[لاحظ اعترافه بسلامة منهجنا في الزواج –وهذا تفوق لنا عليهم في هذا المجال المهم من مجالات الحياة - ، أما الهنود والصينيون فلا ننسى أن الإسلام سكن تلك البقاع في العصور السابقة، وأن مظاهره قطعا انتشرت فيها، بل اعتقد أن تقديس الهنود للزواج والأم أتى من الإسلام، وعندما تنظر إلى لغة كوريا الجنوبية تجدهم يقولون "أمي" و"أبي" كنطق اللغة العربية تقريبا!. أما بالنسبة للزواج، فعندنا نحن قول يقول بأن الحب يأتي بعده، فما دامت التربة نقية، والأجواء صافية، والدين محترم، فلا مشاكل، والحمد لله الذي هدى، ولعل الكاتب تعرض لتجربة قاسية في حياته كما ذكر الكاتب الأمريكي "دال كارنيجي" في كتابه الماتع الرائع "دع القلق وابدأ الحياة" – أنصحك بقراءته، وقد لخصته تلخيصا لطيف، لكنه ضاع مني للأسف. فد استغل كارنيجي فشل حياة تولتستوي العائلية – كما قال- في دعم بعض أفكاره الحياتية المفيدة، الأمر الذي يجعلني اعتقد أن هؤلاء المنظرين للحياة – دعاة التنمية البشرية- مجرد أفواه كبيرة تستغل قصص الناس –وخصوصا المشاهير- في دعم أفكارها وتوجهاتها، فقد يظهر لك الواحد منهم أن شخصا ما شيطانا ماردا لمجرد أن فيه سلبية واحدة تدعم ما ذهب إليه. لذا لا انصح بأخذ السيرة النبوية من أفواه القصاصين الجدد – دعاة التنمية البشرية، أو الدعاة الجدد كما يسمونهم-، وما أكثرهم اليوم]..
وقال عن الفساد:
وتفسد أخلاق الشاب في المدرسة لأن جميع رفاقه فسدة الأخلاق، يصطحبونه معهم إلى أندية الرجس، فيفقد طهارته وعفته من حيث لا يدري أن في فعله ما يخالف الآداب والفضيلة. تفسد أخلاق الشاب من أول نشأته لأنه لا يسمع من مرشديه أن الفسوق محرم. بل بالعكس يسمع أن صحة الجسم تستلزم الجماع ولو مرة كل شهر، وأنه فاكهة الشباب الحلوة فلا يدرك الشاب أنه سائر في طريق الضلال، فيبدأ بالفحشاء وشرب السكر والتدخين، ولا يخشى من ارتكاب الموبقات غير المرض المشهور. غير أن الحكومة التي تعتني بصحة شعبها، تعتني بالمواخر، والأطباء - كهنة أصنام العلم - يراقبون المومسات لقاء أجور يتقاضونها، ويفتون للشباب بضرورة الإجتماع ولو مرة في الشهر حرصا على الصحة.فهم بذلك يرتبون سير الفاحشة، وليت الحكومة التي تهتم بإزالة الزهري معالجة، تهتم بإزالة المومسات فيصبح الزهري غذ ذاك في خبر كان.
[طلبت مني إحدى قريباتي، وهي في الثالثة عشرة من عمرها تقريبا، أن أعطيها كود الواي فاي للوح الكتروني عندها، من أجل ولوج عالم الإنترنت، فلم أجد بدا من إعطائه لها، مما يعني أنها دخلت عالم الإنترنت الواسع بلا رقيب، ورأيتها ليلا منزوية في ركن من الصالون تعبث بالعالم المتكدس أمامها، فأدركت أنني أخطأت مثل الذي أعطاها ذلك اللوح، ففي مثل هذه الأمور لا يجب القول بأن للإنترت وجهان إيجابي وسلبي، لأن سلبياتها ستغلب قطعا على إيجابيتها في مثل هذه الحالة، والأفضل هو وضع حاسوب منزلي في ردهة المنزل في مواجهة الجميع، وتنصيب البرامج المانعة لمواقع الخلاعة من الظهور عليه، ومنها برنامج antiporn الذي يمكن تسجيل كلمة مرور له فلا يقدر احد غيرك على مسحه من الكمبيوتر، كما يمكنه تسجيل ما يدور على سطح المكتب وبذلك تعرف ما يقوم به الأطفال والمراهقين، وبهذه الوسيلة تحارب الخلاعة الخطيرة على الأطفال والمراهقين وحتى الشيوخ، أما أن تشتري لطفل أو مراهق هاتفا ذكيا أو لوحا غبيا، وتترك له الحرية في ولوج عالم الإنترنت بأريحية – لا مشقة فيها كتجشم عناء الذهاب إلى مقاهي الإنترنت ودفع المال من الجيب في المقابل-، ثم تتوقع بعد ذلك أن يتجنب السوء، فأنت واهم، لأن المواقع الخليعة تفرض نفسها أحيانا بسبب الإعلانات المتقافزة الكثيرة، كما أن أصدقاء السوء يعرفونها، ويدلونه عليها].
وقال عن حفلات الرقص الساهرة:
يجري بيننا وتحت نظرنا من الأمور السافلة ما لا طاقة لذي ناموس وشرف على احتماله.. وإذا اجتمعت مع هذا الرجل - الفاسد خلقا - في ليلة راقصة، كان له أن يرقص مع أختي أو ابنتي، ويعانقها ويخاصرها.
[هذا هو الإختلاط الذي يريده العلمانيون، وهو سبب أساسي من أسباب الفساد في المجتمعات الغربية، والبيوت لمقلدة لها]..
وقال عن حالة الأزياء:
إننا لو أمعنا النظر في معيشة نساء الطبقات العلية كما هي من قلة الحياء، والخلاعة، لا نجد فرقا بين البيت الذي يضمهن ونادي مومسات مختلط... قابلوا بين المومسات وبين نساء الطبقة العلية تجدوهن متفقات في الهيئات والأزياء، والروائح العطرية، وتعرية السواعد والمناكب والصدور، ورفع الوسادة خلف الظهر أينما جلسن، وأينما ركبن..
[هذا هو ما يسميه المتطورون الأغبياء عندنا بالموضة، ويزعمون وجود علاقة بينه وبين الرقي!، فانظر كيف انتقده هذا لفيلسوف الغربي العاقل، وقرنه بالعهر، وهو صادق فيما ذهب إليه]..
أقوال بعض الكتاب الروس في الإسلام والمسلمين:
قال أحد الكتاب: "توجد في روسيا عدة جمعيات لتبشير الأمم الإسلامية بالدين المسيحي، وقد مرت على المسلمين أزمان عانوا فيها من الإضطهاد الدينين وأرغموا مرارا على ترك دينهم وتبديل أسمائهم، ولم يكونوا يستطيعون حتى الرد فكريا على المبشرين الذين يصدرون في كل عام مئات الكتب الطاعنة في الإسلام، حتى اصدر لهم القيصر نكولا الثاني قرارا يتضمن حقهم في الدفاع عن دينهم، ومنهجهم، والحق في إصدار الجرائد باللغة العربية، وإنشاء المدارس والكتاتيب بجوار المساجد تعلم العلوم باللغتين التركية والعربية. ومنع المسلمين من التجارة في المشروبات الروحية، ومنع المسلمات من إنشاء مواخير للفساد وإدارتها. وبعد هذا القرار تنفس المسلمون الصعداء، وانشئوا الجرائد بلغتهم العربية، وأصبح عندهم نحو 200 جريدة ومجلة في شتى المجالات".
[إن حقد المسيحية المنحرفة على الإسلام عظيم، وذلك أمر طبيعي، فمن سنة الحياة أن يعادي الباطل الحق بكل قوته، وإذا تأملت في أحوال العالم، وجدت أمريكا على كبرها تهتم حتى ببلد صغير وضعيف كبلدنا، لأنه مسلم فقط –أي لأن الحق معه-، والمسلمون هم محور العالم، وشرقهم الأوسط هو مركز العالم الذي انطلقت منه الديانات السماوية وستدور فيه الملاحم النهائية، فالإسلام هو ممثل الحق في هذه الدنيا، شاء من شاء وأبى من أبى.. وتأمل في وقوف الحكومة الروسية - بعد إضطهادها للمسلمين طبعا-، إلى جانب المسلمين ومساعدتهم في إصلاح دينهم بإغلاق المواخر مثلا، في حين أن حكامنا يساعدون الشياطين في إفساد ديننا بتسهيل فتحها لهم، وبالإبتعاد عن الشريعة السمحة المصلحة لأحوالنا، بحجة أنها قاصرة لا ترحم، والعياذ بالله، وقل لي بالله عليك هل يستحق كلب مسعور أو أسد مفترس يجول بين الناس أن نرحمه او نشفق عليه؟ كذلك لا يستحق قاتل النفس، ولا المغتصب، ولا المتعدي على أموال الغير بيده وهو يعلم أن جزائها القطع، ورحمة أولئك الوحوش تعتبر قسوة على المجتمع الذي يؤويهم]..
وقال هذا الكاتب: "ولا أدري لماذا تفضل حكومتنا المسلمين على اليهود من رعاياها - المحاكم الروسية تحكم مثلا في قضايا الإرث بين المسلمين بالشريعة الإسلامية-، مع أن تلمودهم يتضمن شرائع مختلفة، ونواميس متعددة لجميع ظروفهم وأحوالهم المدنية والدينية. وإذا فرضنا أن ذلك التفضيل ناجم عن حصول المسلمين عندنا على حقوق وامتيازات أكثر من اليهود، وأن شرائع التلمود غير واقعية أو تامة كالشريعة المحمدية، فإنه يمكننا الوقوف عند هذا الحد في الكلام... ومن جهة أخرى فإنه لا توجد في بنود نظمنا صراحة أحكام ترشد القضاة إلى طريقة معلومة ليسيروا بموجبها، وتلك النظم الإسلامية المعروفة بالشريعة تؤلف مجموعة أجوبة مختلفة لأسئلة متعددة بخصوص الحقوق والأحكام، قد وضعها ألوف من المشرعين المسلمين، وكلهم من رجال الدين الذين وضعوها باللغة العربية طبقا لأحكام القرآن ونصوصه، وقد اجتمع من هذه القواعد والأجوبة منذ ظهور الإسلام حتى يومنا هذا عدد لا يحصيه حاسب. وقد اجتهد علماء العرب في جمع شتات قواعد تلك الشرائع في مجموعات خاصة بقصد نشرها، وتسهيل وجودها، والرجوع إليها عند مسيس الحاجة. وترجم أكثر هذه الكتب إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
[إن ديننا يقيم شؤوننا من ولادتنا حتى موتنا، وكل جانب من جوانب الحياة له تشريعاته المعروفة (أخلاق، نكاح، بيع... إلخ)، لا يمكن للفرد المسلم أن يستقل عنها ما دام فاهما لدينه، ولسنا كأوربا التي ثارت على الدين الظالم لها، قادرين على فصل الدين عن حياتنا – كما يريد العلمانيون الجهلة-، لأن ديننا يمثل بالنسبة لنا كل حياتنا. وعندما فصلناه عن السياسة والتشريع بسبب تأثير المستعمر الغربي علينا في القرن الأخير، كانت النتيجة وبالا علينا كما هو ظاهر]..
وممن دافع عن الإسلام، الكاتب أحمد بك أجايف، كتب: "إن سواد الأوربيين الأعظم يسلم بداهة بالأمور دون بحث لأسبابها ونتائجها، وذلك بالنظر لإستيلاء العقائد الفاسدة على عقولهم.. فيعتقدون اعتقادا متينا بان الدين الإسلامي سبب في جميع ما يجري في البلاد الإسلامية من تأخرن ويزعمون أن الشر كله متمثل في الإسلام. وهذه الأفكار رسخت في العقول منذ أجيال عديدة سالفة من جراء الخصام والشقاق والنزاع العنيف بين الشرق والغرب بسبب اختلاف الإسلام والمسيحية، الأمر الذي يظهر معه للرجل الساذج أن هاتين الديانتين على طرفي نقيض في الجواهر والمعتقدات، ولا يمكن التوفيق بينهما.. والوقوف على مؤلفات ومخلفات العصور الوسطى، ولاسيما الفترة التي حدثت فيها الحروب الصليبية، يدلنا على قدم هذا الصراع، وقد تم تأليف ترهات وأغاني انشدها شعراء الرومان، ونادى بها رجال الدين، وصفوا فيها شخص سائق الجمال وتعليمه، وهو الذي أطلقوا عليه اسم "النبي العربي الكاذب". وكان الشعب يصدق بداهة كل افتراء على الإسلام وأتباعه، وقادهم الجهل إلى تصوير محمد بهيئة شيطان ذي قرنين، وأطلقوا عليه "ضد المسيح". والراجح في أذهان القوم انه يفسد الناس ويخرجهم من دينهم، ثم إن "تيورين" المفتري ألف رواية صور فيها محمدا بهيئة الصنم "ماهوم"، الذي كانوا يعبدونه في قادس ولم يجرؤ كارلوس العظيم على تحطيمه وتكسيره خوفا من الأبالسة المختفية في جوفه. ومما مر يتضح للقارئ أن العقول كانت منقمسة في مثل هذه الإعتقادات الفاسدة والإفتراءات.
وقد أجمع القوم على ذلك حتى لو أن الله بعث فيهم في ذلك الوقت من يكشف لهم الحقيقة لصبوا عليه صواعق سخطهم ونقمتهم، فقد كادوا يحرقون "دانتي" في النار لأنه عد محمدا في "روايته الإلهية" بين الرجال العقلاء المصلحين. فاضطر لكي ينجو من سخط الشعب الذي تهدده بالقتل، أن يضعه في عداد الأشرار الذين عاثوا في البلاد فسادا. ثم إن المصور الإيطالي الشهير "أركانيوس"، وضع عدة رسوم ساخرة صور فيها المستهزئين بالأديان وهم يقفون في جهنم بين اللهب، وفي مقدمتهم محمد و"أفيردونيس، والمسيح الدجال أو " ضد المسيح". وبوجه الإجمال فإن الأجيال الوسطى كما قال "أرنت رنان": قد اشتهر أهلها بالحدة، وعدم التروي.. فكان محمد عندهم خداعا ماكرا متخذا سرقة الجماال مهنة، وقالوا بأنه كاردينال سعى للحصول على وظيفة البابوية فلم يفز بها، فوضع ديانة جديدة لكي ينتقم من زملائه الكرادلة!". وتمر الأيام ولا زالت تلك السفاسف تؤثر في العقول النيرة كما كانت في العصور المظلمة، إن "بيلياندر"، و"هوتينجر"، و"ماراجي"، وغيرهم أخذوا يدرسون القرآن دراسة مدققة من أجل تقويض أركانه، وأما "لبنتس" و"شكسبير"، فإنهما تكلما كثيرا عن نبي المسلمين بقصد إضحاك الجمهور وتسليتهم، وأما "فولتير" فإنه التمس الغفران من البابا بواسطة تقديمه له رسالة الطعن الشهيرة التي عنوانها "محمد"، وقد نسب فيها إلى محمد أمورا منكرة لم تخطر بباله، ومنافية لروح تعاليمه. ثم إن الجيل التاسع عشر المسمى بحق جيل العلم والإنتقاد الصحيح، لم يخل من مثل هذه المختلقات والمفاسد التي جاهر بها بعض أصحاب العقول الممتازة، فقد وضع العالم الإنجليزي الشهير "كارلوس فورستير" عام 1829 مجلدين ضخمين استحسنهما رجال الدين لأنه حاول أن يبرهن فيهما بالأدلة الكثيرة على أن محمدا هو قرن الكبش الصغير الوارد ذكره في الإصحاح الثامن من نبوة دانيال، وان قرن الكبش الكبير هو البابا".
ولكن النصف الثاني من الجيل التاسع عشر أشرقت فيه أشعة العلم، وازداد الإتصال بين الشرق والغرب، وتمت دراسة الأديان بمصداقية بعيدا عن التعصب الذي طغى على العصور السابقة، أما في أيامنا الحاضرة فأصبحت الأديان مادة للمباحث العقلية فقط لأنها فقدت مادة التعلق بها، ولا يهتم الناس بها الآن إلا لأنها من مظاهر النفس الإنسانية، ولم يعد الناس يتحاورون بشأنها، ولا يوجه كل صاحب دين إلى الأديان الأخرى أنواع السباب والمطاعن والتهكم". فتم إنصاف محمد كنبي مصلح، بل إن المسلمين يعظمون مريم أكثر من بعض طوائف النصارى، فهي عند المسلمين عذراء. قال المستشرق "ماكس مولر": "سوف يعلم المسيحيون - بدهش عظيم- أن محمدا احد معضدي يسوع، وان الديانة المحمدية ما هي إلا شيعة من شيع الديانة النصرانية - هذا القول بعيد من الإنصاف، وهو كالقول بان الشمس تستمد نورها من ضوء القمر، فإن ثراء الإسلام لا مثيل له في الديانات، وقد ظل النصارى في الشرق يأخذون بأحكام الشريعة في كثير من شؤون حياتهم حتى وقت قريب، خصوصا في أحكام الوصية والميراث، ولا يزال لها تأثير حتى الآن على التقنينات التي وضعوها في الأحوال". وكل ديانة كما لا يخفى تكون في أول ظهورها محرك قوي يشعل روح الحركة في قلوب أتباعها، وذلك بقدر ما يكون لها من التأثير الروحي والمادي في نفوسهم، ولكنها تتقلب مع مرور الزمن في ادوار مختلفة بحسب حالة تابعيها من العلو والإنحطاط، فتعتز وتعلو بعلو شأنهم، وتنحط بانحطاطهم.
[هذا المقطع يدلنا على أن من أهم وسائل أهل الباطل –وقد ذكر القرآن ذلك-: التعالي، والإستهزاء. فترى أهل البدع اليوم يتعالون على أهل الحق مدعين أن لهم علم الباطن وللآخرين علم الظاهر!، وأنهم أهل الفهم والذوق، في حين أن الآخرين أهل الغباء والجفاف، في حين أن الحق واضح جلي لا دخل للذوق والجفاف فيه، ولا يمكن التوصل إليه بالسفسطات والمزاعم والإدعاءات بل بالأدلة الصريحة من القرآن والسنة، وأهل البدع هم أضعف الناس في مجال الأدلة كما هو معروف. كما أن من أهم الطرق لتنفير العوام من شيء، تلفيق الأوصاف الكاذبة له، فمثلا لفق الغربيون للرسول عليه الصلاة والسلام ما لفقوا من اجل صد الناس عن مجرد التفكير في الإطلاع على تعاليمه، وقد سبقهم كفار قريش إلى ذلك، وكذلك يزعم البعض أن الوهابية كذا، والسلفية كذا، بهدف صد المريدين عن مجرد التفكير في التأكد هل الطرف الآخر محق أو لا.. ولاحظ أيضا قوة تشريعات ديننا الإسلامي وكيف انتشرت حتى في النظم الغربية! في حين أن العلمانيين عندنا يتعلقون اليوم بالتشريعات الغربية الفاشلة تماما في حماية مجتمعاتنا من الفساد الخلقي، وحتى من الكفر، الوافد الجديد علينا، والعياذ بالله]..
مراسلات محمد عبده وتولستوي:
جرت هذه المراسلات بين عام 1849-1905م. فبعد أن حرمت الكنيسة تولستوي عام 1901م لنقده لها في كتاباته، وبخاصة روايته "البعث" التي صدرت 1899م، أرسل إليه الإمام محمد عبده رسالته الأولى بتاريخ 18 ابريل عام 1904م، جاء فيها: "أيها الحكيم الجليل مستر تولستوي، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم من التعارف مع روحك.. لقد هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التي فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها.. ونظرت نظرة في الدين مزقت حُجب التقاليد، ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه.. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي بها الضالون، كان مثالك في العمل إماما يقتدي به المسترشدون. وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء، كان مدادا من عنايته للضعفاء الفقراء. وإن أرفع مجد بلغته، وأكبر جزاء ته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سماه الغافلون بالحرمان والإبعاد، فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس: انك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك في أقوالهم، كما كنت في عقائدهم وأعمالهم. هذا وإن نفوسنا لمشتاقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك، وإنا نسأل الله أن يمد في حياتك، ويحفظ عليك قواك ويفتح أبواب القلوب لفهم قولك، ويسوق الناس إلى التأسي بك في عملك، والسلام". توقيع مفتي الديار المصرية محمد عبده.
ما إن استلم تولستوي رسالة الشيخ حتى كتب مباشرة رسالة إلى الناقد الإنجليزي "كوكريلو" بتاريخ مايو 1904م، ورد فيها: "الآن استلمت رسالة المفتي، واعترف لك بالجميل والإمتنان لأنك حملت لي هذه الرسالة، إن المفتي يمتدحني كثيرا في رسالته على الطريقة الشرقية، ولذلك فإنني أجد صعوبة في الإجابة على هذه الرسالة، وإنني مسرور جدا بمعرفتي بهذا الإنسان اللطيف". ثم جاء في جوابه على الرسالة: "أيها الصديق العزيز! تلقيت خطابك الكريم، المليء بالمديح.. آمل ألا أكون قد أخطأت إذا افترضت من واقع خطابك أن الدين الذي أؤمن به هو دينك الذي يرتكز على الإعتراف بالله وشريعته في حب الغير، وأن نتمنى لهذا الغير ما نتمناه لأنفسنا، واعتقد أن جميع المبادئ الدينية تندرج تحت هذا المبدأ". وواضح من هذه الرسالة أن تولستوي يرى أن هناك ديانات عديدة، لكن هناك عقيدة واحدة حقيقية، وهي تتلخص في الإيمان بالله الواحد، ومحبة الآخرين.
رسالة محمد عبده الثانية إليه، ورد فيها: "أيها الروح الذكية! صدرت من المقام العلي إلى العالم الأرضي وتجسدت فيما سموه بتولستوي.. وأدركت أن الإنسان خُلق ليتعلم، فيعمل، ولم يخلق ليجهل ويكسل ويهمل". ومما يؤسف له أن الشيخ توفي في يوليو عام 1905 م ولذلك انقطعت هذه المراسلات.
في رثاء تولستوي:
احتل تولستوي مكانة مرموقة في الأدب والفكر العربي، بالمقارنة مع غيره من الكتاب الأوروبيين، وترك أدبه وفكره بصمات واضحة عليهما وعلى الآداب العالمية عموما. وقد ترجم كثير من مؤلفاته إلى العربية بعد الحرب العالمية الثانية، وكتب الكثير حول أدبه في الوطن العربي. ولما توفي وقع نبأ وفاته وقعا مؤلما في الغرب والشرق، ورثاه الفلاسفة والشعراء، فرثاه احمد شوقي واصفا إياه بالحكمة والشجاعة، فعليه يحزن الفقراء والضعفاء، ويبكيه المؤمنون لأنه أخذ من الدين جوهره، فقال في قصيدة عنوانها "تولستوي": "تولستوي تجري آية العلم دمعها.. عليك ويبكي بائس وفقير.. وشعب ضعيف الركن زال نصيره.. وما كل يوم للضعيف نصير.. ويندب فلاحون أنت منارهم.. وأنت سراج غيبوه منير.. يعانون في الأكواخ ظلما وظلمة.. ولا يملكون البث وهو يسير.. تطوف كعيسى بالحنان والرضا.. عليهم وتغشى دورهم وتزور.. إلى أن قال: ثم انظر، وأنت المالئ الأرض حكمة.. أأجدى نظيم أم أفاد نثير.. أناس كما تدري، ودنيا بحالها.. ودهر رخي تارة وعسير.. وأحوال خلق غابر متجدد.. تشابه فيها أول وأخير.. تمر تباعا في الحياة كأنها.. ملاعب لا ترخى لهن ستور.. وحرص على الدنيا، وميل مع الهوى.. وغش، وإفك في الحياة وزور". وقد نقل هذه القصيدة إلى الروسية الشاعر جورافيلوف.
وكتب الشاعر حافظ ابراهيم يرثيه مباشرة بعد سماعه لخبر وفاته في الشهر ذاته (نوفمبر 1910م)، وبعد سماعه لرثاء أحمد شوقي له، فقال: "رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى.. لمدحك من كتاب مصر كبير.. ولست أبالي حين أرثيك بعده.. إذا قيل عني قد رثاه صغير.. فقد كنت عونا للضعيف وإنني.. ضعيف ومالي في الحياة نصير.. ولست أبالي حين أبكيك للورى.. حوتك جنان أو حواك سعير.. فإني أحب النابغين لعلمهم.. وأعشق روض الفكر وهو نضير.. إلى أن قال: وسموك فيهم فيلسوفا وأمسكوا.. وما أنت إلا زاهد صاح صيحة.. يرن صداها ساعة ويطير.. وقال: أبت سنة العمران إلا تناحرا.. وكدحا ولو أن البقاء يسير.. تحاول رفع الشر والشر واقع.. وتطلب محض الخير وهو عسير.. ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم.. دليل على أن الإله قدير.. ولم يبعث الله النبيين للهدى.. ولم يتطلع للسرير أمير.. إلى أن قال: إذا هدمت للظلم دور تشيدت.. له فوق أكتاف الكواكب دور.. أفاض كلاما في النصيحة جاهدا.. ومات كلانا والقلوب صخور.. فكم قيل عن كهف المساكين باطل.. وكم قيل عن شيخ المعرف زور.. وما صد عن فعل الأذى قول مرسل.. ولا راع مفتون الحياة نذير".
وكتب مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م، وهو ممن تلقوا علومهم في جامعة الأزهر، رسالة إلى تولستوي بعد أن عرف من وسائل الإعلام أن الأخير ترك منزله ليعتزل الناس، فابتدأ رسالته بقوله: "قف ساعة واحدة نودعك فيها قبل أن ترحل لطيتك (الطية هي النية والوجهة والقصد)، وتتخذ السبيل إلى عزلتك، فقد عشنا في كنفك على ما بيننا وبينك من بعد الدار، وشط المزار، عهدا طويلا كنا فيه أصدقائك وإن لم نرك، وأبنائك، وإن كان لنا آباء من دونك، وعزيز علينا أن تفارقنا قبل أن نقضي حق عشرتك بدمعة نذرفها بين يديك في موقف الوداع".. ويرى المنفلوطي في كتابته هذه، عظمة تولستوي في صراعه وحيدا ضد قوى الشر بكل أشكالها (القيصر، والكنيسة، والإقطاعيين)، فيقول: "قلت للقيصر: أيها الملك إنك صنيعة الشعب وأجيره، لا إلهه ومعبوده، وإنك في مقعدك فوق عرشك لا فرق بينك وبين ذلك الأكار (أي المزارع) في المزرعة، وذلك العامل في المصنع، كلاكما أجير على عمل يعمله، وكلاكما مأخوذ بإتقان ما يعمل، فكما أن صاحب المصنع يسأل العامل هل وفى عمله، ليوفي له أجره كذلك يسألك الشعب هل قمت بحماية القانون الذي وكل إليك حراسته". ثم قال المنفلوطي عن الإقطاعيين: "وقلت للغرندوق الروسي: ليس من العدل أن تمتلك وحدك وأنت نائم في سريرك بين روضك، ونسيمك وظلك ومائك، هذه الأرض التي تضم بين أقطارها مليون فدان، ولا يملك أحد من هؤلاء الملايين الذين يفلحونها ويحرثونها.. ويسوقون ماشيتها، ويتقلبون بين حرها وبردها، وأجيجها وثلجها، شبرا واحدا فيها. فاعرف لهم حقهم، وأحسن القسمة بينك وبينهم، وأشعر قلبك الخجل من منظر شقائهم في سبيل سعادتك، وموتهم في سبيل حياتك". ثم كتب المنفلوطي عن صراع تولستوي مع رجال الدين، وكيف أرسلوا إليه كتاب الحرمان من الكنيسة لأنه طالبهم بتأييد الشعب ضد الأغنياء، وضد الملوك، فالدين يقضي عليه بهذا وليس اللهث وراء زخرف الدنيا..
[وهذا الثناء من بعض أعلام الأدب العربي الحديث لا يجب أن يقودنا إلى المبالغة في الإعجاب بالرجل÷ فهو غير مسلم، ولا يجب أن يدفعنا الإعجاب به إلى اعتماد منهجه في الدين، كاعتقاده أنه يكفي لتمام الإيمان سلامة القصد ومعالي الأخلاق دون التزام بغير ذلك من العبادات الواجبة – التي لم يطلع عليها لجهله بالدين الصحيح -، فالدين متكامل، ولا يمكن أخذ بعضه دون بعض، فمثلا لا يكفي القول بأنه يكفي الإيمان بالله عز وجل وتصديق رسوله صلى الله علي وسلم، كما يعتقد بعض المتساهلين في الدين ممن يلعبون بمصائرهم، بل لا بد من أخذ الدين بقوة دون ترك أركانه أو بعضها. كما لا يجب الإغترار بالكفار مهما بلغوا فهم قطعا ليسوا بعدول، وأذكر صور تشيجيفارا المعلقة في أركان تلك الجامعة المغربية النائية التي درست فيها يوما، تلك الصور التي كانت من مظاهر إعجاب اليساريين به، وعلمهم به أكثر من علمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام! بل كانوا يستهزئون بالصحابة أحيانا!، مما جعلني أحس بكراهية للرجل، فيجب الحذر ممن لا يساوي شيئا عند رب العالمين، فالناس يتفاضلون في الحقيقة بالتقوى وحدها، وعلينا أن نعتز برجالنا أكثر من غيرهم، وألا نهمل معيار الدين لأن المسلم ليس كالكافر، الذي هو في الغالب فاجر، ويكفيه سوء جهله بربه، وعصيانه له، فالحذر الحذر من حب أولئك المفكرين والمناضلين الغير مسلمين، خصوصا إا كان سيلهي عن حب ومعرفة من ينفع حبه وتثمر معرفته من أعلام ديننا العظيم. وإذا قرأنا لأولئك الفلاسفة والثوار فيجب أن يكون هدفنا المرور على أفضل لمحات حياتهم، لا تقديسهم وتمجيدهم، واعتماد مناهجهم البعيدة من الدين، بل المناقضة له أحيانا]..