عرفت قضية " مظلمة لمعلمين " هذه الأيام حركة فكرية تكاد تكون منقطعة النظير فكم هائل من كتابات وتدوينات وحتي تحليلات ذوي الأقلام السيالة والثقافة الواسعة ... أمطر المواقع الإعلامية وصفحات التواصل الإجتماعية سواء من كتاب ومثقفي الشريحة
أو حتي من مثقفي البلد بصفة عامة وخاصة ممن يرون أنهم يفكرون وينظرون للكتابة في القضية (مظلمة لمعلمين )من زاوية الحرص على تماسك الجسم الوطني ... كل تلك الكتابات والمساهمات يتضح من خلال طرح أصحابها الحرص على تقديم تحليل وتشخيص لقضية لاتزال تعيش نوعا من التنكر لوجودها أصلا رغم مرور مآت السنين على تجذرها بل وإستشراء كافة تجلياتها لتشمل أكثر من صعيد وتتجلي في الواقع المعاش (لضحاياها )على مستويات عدة لتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل وإن دعت بقية عدل وإنصاف مدفوع بالحرج لإعتراف البعض بوجودها فلامناص من العمل على تفريغها من محتواها الكامل وإقتصاروجودها على مجال دون مجال وتصنيف تجليها في صعيد دون أصعدة كثيرة أخري غير أن تلك الجهود التي بذلت ـ على أهميتها ـ ظلت تقف دون الحد الذي يتطلب منها حجم القضية وعمقها أن تصل إليه فهناك من أراد أو كما تملي قراءته للقضية أن يجعل منها قضية بسيطة وأعني بالبسيطة هنا أنها قضية تعود في وجودها الى سبب أو سببين لا أكثر وغالبا ما يتناول هذا السبب أو السببين بالأحري بمستوي عالي من السطحية هذ إذا لم يجانب في تناولهما الحقيقة والحقيقة أن قضية مظلمة لمعلمين هي قضية مركبة إشترك في تغذيتها أكثر من جذر وساهم في إيجادها أكثر من سبب .
وموهم هو من يري في مظلمة لمعلمين قضية بسيطة ويرجعها لعامل واحد سواء كان هذ العامل ثقافيا كالدين أو إجرائيا كتقسيم العمل أو بسيكولوجيا كالعقد أو سياسيا كالفشل في تحقيق دولة الحقوق والعدالة الإجتماعية أو حتي عوامل أخري قد لايتسع المقام لذكرها .... فلووقفنا قليلا مع كل هذه العوامل لعرفنا أنه ليس لأي منها القدرة على إنتاج ظاهرة إجتماعية بحجم وعمق ظاهرة تهميش مكون بأكمله كما هو الحال مع امعلمين موريتانيا على إختلاف جهاتها وتباين نمطها في الحياة وتعدد قبائلها ... بيد أن هذا الإختلاف والتباين الحاصل للمجتمع الموريتاني في مجالي الجهوية والقبلية قابله إجماع منعقد ـ من نفس الجهات المختلفة في كل الحيثيات المذكورة آنفا ـ علي تهميش وإحتقار لمعلمين .مما يدل على أن القضية ليست بسيطة وإنما عمقها وقدرتها الخارقة على تجاوز الأجيال يعكس وجود إرادة ما خلفها سنبدي رأينا فيها لاحقا
أما في ما يخص نظرة من أسميهم بأحاديي العوامل إزاء قضية لمعلمين فلو رجعنا للعوامل الأكثر إتهاما وإدانة فسنجد أن الدين مثلا وأود هنا أن أنبه الى مسألة في غاية الأهمية والخطورة في نفس الوقت وهي ضرورة أن ندرك الفرق بين الدين كمصدر لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه والتدين كتمثل تحكمه قاعدة كل إبن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون إذ ليس من المعقول أن نعتقد كمسلمين ندين بدين الإسلام الحنيف أن دينا أو شرعا إختاره بارئ النفوس وخالقها الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير أن يحتمل أكثر من وجه أو يكيل بمكيالين أو يعجز عن إعطاء الحقيقة مطلقة , كلا فلا الممارسات النبوية المعصومة والتي تمتلك وحدها أحقية تمثيل "الدين " تفيد ذلك ولانصوص الوحي (القرآن والسنة الصحيحة ) تؤسس لذلك وإنما المشكل يكمن في محاولة تمثل هذا الدين الراقي الذي جاء ليخرج البشرية من ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة ومن عبادة العباد الى عبادة رب العباد , فكيف لدين يبشر بمثل هذه المعاني الكبري والتي تتربع على سقف مطالب الإنسانية ـ في مجال الحرية ـ أن يقر بشكل أو بآخر ممارسة ملحقات الإستعباد ( التهميش والإحتقار...) أعتقد أنه لاالمنطق يدعونا لتفهم مثل هذه الدعاوي ولا الحقيقة تدعمه أيضا. وإنما أري أن المشكل كما قلت يكمن في التدين فممارسات بعض المتدينين التقليديين من مجتمعنا لمثل هذه السلوكيات الخاطئة في حق الدين والإنسانية على حد سواء هي التي ألبست تلك المظالم لبوس الدين وهو منها براء وجعلت البعض يخلط بين مفوهمي "الدين " و " التدين " وهم بذلك يرتكبون ذنبا مضاعفا فعلاوة على ذنب تهميش وإحتقار الإخوة في الدين والوطن والذي هو محرم بنص القرآن (ياأيها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ...) وصحيح السنة (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولايخذله ولايكذبه ولايحقر...رواه مسلم ) فقد إرتكبوا ذنب تشويه الدين الذي طال ما حملوا مشعله وحسبوا أنفسهم حراسه في , حين أن من يحرس الدين هو كل مسلم يتمثل من أوامره ما استطاع ويحرص على تجنب نواهيه ولايشترط فيه أن ينحدر من فصيل أو مكون بعينه (كلكم على ثغرة من ثغور الإسلام فليحذر فلايؤتين الإسلام من قبله) , ورغم أن تقسيم العمل كأسلوب إجرائي عاشت هذه البلاد على ثقافته ردحا من الزمن يدعونا لتحميل مكون بعينه (الزوايا) مسؤلية الإساءة الرمزية وإنتهاك كرامة مكون أساسي من مكونات هذ المجتمع (لمعلمين) ورغم وضوح الأسباب التي جعلت أي متأمل لواقع المجتمع الموريتاني أومتتبعا لتاريخه لايجد بدا من تحميل أصحاب السلطة الرمزية (الزوايا) مسؤولية إشاعة ثقافة إحتقار وتهميش شريحة لمعلمين دون وجود أدني مستوي من الحرج في إستغلال الدين لذلك ـ للاسف ـ بوصفه أسرع وأكثر الوسائل قدرة على إختراق قناعة الإنسان العادي ورغم أن الغالبية الأعم من أبناء هذ المكون (الزوايا) هي التي عملت على تدمير نفسية الإنسان لمعلم الذي أحست منه قدرة حقيقة على المنافسة في دائرة السلطة الرمزية ـ الميزة الوحيدة التي كانت تميز الإنسان الزاوي بل وأكثر من ذلك تمثل أهم مصادر رزقه ـ بعد أن أثبت الأول قدرته على تأمين مصدر رزقه خارج التكسب بالمتنافس عليه " السلطة الرمزية" ليكون بذلك منافسا حقيقيا غير مرحب به لامناص من كبحه وقتل روح التطلع وعلو الهمة فيه فكان الحل الأمثل والأقدر على تحقيق الهدف هو العمل على تدميره نفسيا وطمس ألقه ولو تطلب الأمر أن تنسج مقولات من الخيال يستلف لها من إسم الدين وهيبة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين ماتتطلبه لإضفاء الشرعية عليها فلا مانع . ومما يزيد الأمر سوء أن " لعياط الين يجي من الكدية لهروب اعلين " كمايقول المثل البظاني بمعني أنه إذا كانت السلطة الرمزية أي الجهة المسؤولة عن حماية العلم والمعرفة تسمح بنسج وإنتحال وإفتراء أحاديث على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تتعارض في الظاهر والباطن مع صحيح السنة وتسكت عليها وهي تتداول في الأوساط الإجتماعية ويحفظها العاميون وأنصاف المتعلمين ويؤمن بها المتدينين الشعبين وتعشش في ذهن الناشئة وضعفاء العقول ... فتزيد في شروط العدالة والإمامة شرطا ذي طابع سلالي !!! كحديث "لا خير في الحداد ولو كان عالما " وإصدار فتوي تحريم إمامة لمعلم والزواج منه وغيرها ... دون أن يسجل التاريخ للجهة المسؤولة ـ وفق منهج تقسيم العمل ـ مواقف بطولية رافضة تقف في وجه ظلم المسلم وإحتقاره ودون ظلم الدين وتشويهه وإلصاق الخرافات الزائفة به ـ فينكر المنكر وتذهب تلك الحقبة بحلوها ومرها وتبقي السيادة للتسامح والتآخي وتتلاشي التراتبية الوهمية , مما يوحي بأن عقدة الغالبية الساحقة من الزوايا مع لمعلمين تكمن في النبوغ في العلم والقدرة على المنافسة فيه , أما في مايخص الرأي القائل بأن النظام الطبقي كنظام إجتماعي عادي يقوم على فلسفة تقسيم العمل هو الذي أنتج هذ التباين أو التراتبية في الهرم الإجتماعي وأنه لاعلاقة البتة له بنيات مبيتة للنيل من مكانة أي كان ... ولأصحاب هذ الرأي نقول أنه لاطبيعة تعاطي المجتمع الموريتاني مع الطبقية كنظام إجتماعي عادي مع أنه نظام ممقوت في الفكر الإجتماعي ويكفي ماذكر عنه المفكر الإجتماعي كارل ماركس من أنه نظام يهدد وحدة وإستقرار المجتمعات لما يضمنه من حتمية مايسميه ماركس " الصراع الطبقي " تشجع على هذا الإدعاء فلو كان السبب في وجود مثل هذه الطبقية هو فقط عامل وظيفي كما يدعي البعض لكان قد حصل أحد الأمرين التاليين : أولهما تلاشي هذ النظام الوظيفي البحت ( تقسيم العمل ) بإنتفاء اللأسباب التي كانت تحتم وجوده فلما وجدت الدولة الحديثة ـ أو هكذا يفترض أن تكون ـ وإنتقل العمل من الدوائر الإجتماعية التقليدية الموروثة ( تخصص الشرائح) الي دوائر المؤسسات والتخصص العلمي المكتسب , مما يساعد على فهم وجود عوامل أخري ربما ليست بالبريئة تسببت في وجود شرائحية جذرية في المجتمع وليس بالضرورة وجود نظام إجتماعي ناتج عن التفاعل الحر للمجتمع أما الأمر الثاني فأعتقد أنه لو كان عامل تقسيم العمل الصرف هو السبب الوحيد وراء وجود مظلمة لمعلمين ولحراطين وغيرهم من الطبقات المظلومة لما كان لها أن تكون بهذا العمق وأن تتجاوز ميدان العمل الوظيفي بإتجاه المكانة في البنية الإجتماعية بل الى ماهو أعمق من ذلك كرامة الفرد وجيناته كلا ولكن المشكل يكمن في طريقة تعاطي المجتمع مع نظام وظيفي عادي تعاطيا حوله الي مجرد ممارسات أنتجت عقيدة طبقية تتجاوز الحدود الوظيفية الطبيعية لتقسيم العمل وتؤ سس لشرائحية في بنية هرمية الشكل مقيتة تخلق للفرد مكانة حتمية وتحفظها له وتحظر علية تجاوزها فتحول بذلك نظام تقسيم العمل في مجتمعنا من مجرد نظام وظيفي ـ مرت به جل المجتمعات البشرية في فترات معينة من عمرها وكان بمثابة الجسر الذي أو صلها الي بر الحضارة والرقي ـ من نظام وظيفي فني الى كلمة حق أريد بها باطل وبمعني آخر تحول من نظام وظيفي متعارف عليه الي قالب جاهز يستغل لخدمة أجندة مجموعات بعينها على حساب مجموعات أخري وبذلك يكون إستدعاؤه كعامل طبيعي وراء وجود هكذا ظاهرة من غير المنصف بل لاعلاقة له بالعدل في التعاطي مع القضية , وهو أمر يجرنا للحديث عن عامل آخر طال ماتغني به بعض المموهين من مثقفينا وهو عامل الفشل في تحقيق دولة المؤسسات فلطالما كلمني بعضهم وإدعي أن إستشراء الفساد الإداري والمؤسسي في الدولة هو ماجعل مجموعات ضعيفة تعيش نوعا من الحرمان وأن الأمر لاعلاقة له البتة بنظرة ومكانة فئة بعينها في محاولة مكشوفة للمساواة بين الضحية والجلاد , لكن الذي لم يتذكره هؤلاء وهم يستخفون العقول بالترويج لإدعائهم هذا أن الذي تسبب في الفشل في تحقيق الدولة الحديثة هو تنفذ وإستصحاب توجه المجتمع التقليدي في مجال التراتبية الإجتماعية والمكانة الحتمية الموروثة والتي إنعكست بشكل أكثر من سافر في مؤسسات الدولة إذ لايصدق من يري عشرات البنايات التي تحمل أسماء وشعارات مؤسسات الدولة تتناثر يمينا وشمالا في "عاصمة البرك " لايصدق كيف أن لشيخ من شيوخ العمائم يسكن في إحدي الولايات الداخلية للبلد , القدرة التامة على إتخاذ قرار سياسي ـ ربما كان أكثر إلماما بتدريس متون الفقه وتحفيظها منه بحيثيات إتخاذ القرار السياسي ـ أو تغيير مساره أو الضغط من أجل ذلك على الأقل ليتفاجئ بأننا لانزال ندار ـ في كبريات شؤوننا وقرارات المصيرية ـ من داخل الصالونات الفاخرة حيث تجتمع رجالات القبائل والتجمعات التقليدية للمجتمع ليعلب القرارالسياسي أو على الأقل تحضر مسودته قبل أن تحين مرحلة الصياغة اللغوية وفق قوالب سياسية في بنايات تحمل أسماء الوزارات أحيانا والأحزاب أحيانا أخري وليست أسماء مباني الحكومة من ذلك ببعيد وطبعا لن ننتظر من قرار قبلي جهوي قادم ممن يوجد من بينهم مؤسسي الشرائحية والطبقية القاتلة للشعوب قرارات ولاحتي نيات تهدف لإنصاف ضحايا إنتاجهم , فكل إناء بالذي فيه يرشح ومن المعلوم أن الدولة الموريتانيا لو إنتهجت منهج دولة الحقوق والعدالة الإجتماعية التي تعطي الأولوية لقيم الإخلاص لودحة الوطن والإنتاج والتضحية في سبيله لرأينا عقارب ساعة المكانة الإجتماعية في بلدنا تعود أدراجها لتقف عند منعطفات ومعطيات قد لاترضي الكثير بل وتثير غيظه إذ ستسلط الضوء لاشك على من غلب المصلحة الفردية أو الجماعية على مصلحة وحدة الوطن وستكشف الستار عن إستغلال مقيت لجهود وعرق المخلصين المضحين من أبناء هذ الوطن إبان حقب الإستغلال السوداء تلك والتي لاتزال تلاحق و تلقي بظلالها على واقع ضحاياها حتي الآن . فلا داعي يا نخبنا للتحايل على الحقائق والإلتفاف عليها وترك مسألةعلاج الأمراض الإجتماعية للزمن بدافع الحرج والخوف مما يسميه البعض نبش الحقائق , فلعلاج الجروح الغائرة وشفائها ثمن ملامستها ونكايتها وأني لمن لم يتحمل ملامسة موضع الوجع أن ينعم براحة الشفاء ؟! ومرحلة التشخيص والإعتراف بوجود المرض سابقة على العلاج بل هي محدد أساسي في إتخاذ العلاج المناسب بالمقادير الكافية