يمكنك في الغربة أن تطلب الوطنية كيفما تريد , أن تطلب اللجوء الروحاني لوطنك , تبحث عن معالم علمك من أمام واجهات المحلات التجارية الكبرى , عن ملامح وجوده من خلال احتفالات المعارض والمتاحف , ولن تجد سوا السراب ..
أنا متحفظة سياسياً, أكثر من المعتاد , لا رغبة لي في خوض نقاشات "سياسية" تؤدي دائماً لمعارك وهمية كالتي كان يخوضها بطل رواية "دون كيشوت" ضد طواحين الهواء معتقداً بأنها مخلوقات شريرة يجب تخليص العالم منها!
ولكنني مدركة بأن مجمل البنية السياسية لوطني تقوم على حقائق واهيه , فمنذ استقلال "موريتانيا" وهي تخوض معركة الذات من أجل الإنتقال من المشروع إلى الدولة بمفهومها العميق , تحقق الكثير من ذلك , فأركان الدولة ليست معدومة في حالتنا , فالشعب قائم وكذلك الإقليم إلا أن الركن الثالث لم يتحول بعد إلى قيمة "الركن" ألا وهو "السلطة السياسية", بل لربما مزال يحمل قيمة "المشروع" دون التطبيق , .. لطالما جادلت نفسي في هذه الحقيقه "فالسلطة" ليست من تقوض مفهوم "الدولة" , وإلا كيف تكون عشرات الدول قائمة وهي تملك "أنظمة حكم" تشبه "السلطة" – بمفهومها العتيد – كما يشبه القرد الإنسان , ديكتاتورية شمولية أو إقصائية مغلقة!, إلا أنها تدير دولاً قائمة توفر وبقوة الأساسيات التي من أجلها أنتج مفهوم الدولة كعقد اجتماعي!,ربما وقتها أغفلت حقيقة أن بنية "السلطة السياسية" هي نسيج من خيوط "الأديولوجيا" المختلفة , قد يخاط بحرير من الديموقراطية أو خيوط رثه من أنظمة الحكم الأخرى المتعارف عليها , إلا أن الجميع سوف يسوق "الديموقراطية" كممارسة -وربما ليس كنظام- على أنها معيار وتوجه سلطته القائمه , إذاً "فالسلطة" هي اتفاق وترجيح لإحدى نظريات الحكم المتعارف عليها سواء كانت "جمهورية" أو "ملكية" , والبنية الأصغر هي "الأديولوجيا" وهي مكمن الصواب ومكمن الخلل , فمثلا هل تؤثر "اديولوجيا اليمين" "واديولوجيا اليسار" بكل ما تحتملانه من نظريات اجتماعية واقتصادية في الفوارق بين "الجمهوريات"؟,هل يؤثر هذا التنافس بين نظريات "الليبرالية الجديدة" و "الليبرالية الكلاسيكية" وبين الاقتصاد "الاشتراكي" و"الرأس مالي" و"اقتصاد السوق الإجتماعي" على شكل أنظمة السلطة القائمة و توجهاتها وقدرتها على خدمة العقد الاجتماعي لمفهوم الدولة!؟, ومن يمثل هذه الاختلافات في المفهوم العقلاني لنواة السلطة, أي الديموقراطية!,أليست الأحزاب التي تمثل "اديولوجيا" مختلفة و متباينة و التي تسعى للوصول عن طريق "الشعب" الركن الأول في مفهوم الدولة من أجل إدارة السلطة وإبراز نجاعة ماتبنته من نظريات على صعيد تعزيز مفهوم الدولة ممارسة ونتيجه!.
كل هذا كان يقودني الى "موريتانيا" , فمن تكون "السلطة الحاكمة" هناك كهويه؟, حزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" الذي تنبثق عنه غالبية "السلطة التشريعية" إلى أي التيارات ينتمي؟ ومن تكون أحزاب المعارضة!. هل يمثل "اتحاد قوى التقدم" مثلاً أحزاب اليسار أو حتى يسار الوسط في موريتانيا!,كيف وبرنامجه الانتخابي – قبل مقاطعة المعارضة – لا يمت لليسار بصلة! , ماذا عن حزب تواصل ذو الطابع الإخواني , هل هناك ما يشير إلا أنه يتبنى مثلاً نظريات في "الاقتصاد الإسلامي" بديلاً عن السياسة الاقتصادية القائمة ويعقد في سبيل ذلك المؤتمرات والندوات في سبيل اقناع الناخب الموريتاني!, لا أعتقد فالممارسة الإنتخابية للحزب لا تدل على ذلك حتى من خلال إختياره لمرشحيه هو بعيد كل البعد عن ذلك!
أنا إذاً متعاطفة مع الإحراج الذي يشعر به المواطن الموريتاني أمام "صندوق الإقتراع" وكيف له أن يحدد هويته السياسية , فحجم "خيمة المرشح" فلان من الحزب الفلاني ليس خياراً , ومقدرة الحزب الفلاني على انتاج أجمل أغنية "لمرشحه" من قبيل "والنصر آتي" لا يدل على اديولوجيا تغيير أو برنامج انتخابي واضح المعالم!, .. كيف إذاً للناخب الموريتاني أن يجيب على ورقتهم , لا أعلم!
على العموم .. اتمنى أن يتفوق "شعبي" على مفهوم القبيله لأنه مناقض تماماً لمفهوم الدولة , وبذلك يقضي تماماً على هذه الأحزاب الطفيلية التي تقتات من ضياعه , وتخدعه بأسماء مستعاره حتى وصل عددها إلى أرقام خيالية مستفيدة من غياب مسائلة المثقف و مؤسسات المجتمع المدني واحراجها أمام الطبقة السياسية السليمة.
فلم يكن توصيف أركان الدولة عبثياً حتى في عملية ترقيم الأركان , فالشعب جاء قبل السلطة , لأن السلطة تنبثق من الشعب , لذلك ليس غريبا أن يسقط "تواصل" – على سبيل المثال – في "توجونين" لأنه لم يزرع هناك من خدمة المواطن ما يستحق أن يحصده!, وليس من الغريب أن يسقط "الحزب الحاكم" في "كرو" لأن الناخب هناك لم ينسى أن ممثليه لم يقدموا له في الموسم السابق ما يستحق تجديد الثقه , الغريـــب هو أن يسقط "القاسم" في "نواذيبو" !!.. "سخرية لم أستطع كبح جماحها,فاعذروني!" ..
أما أنا فمدركة بأنني لا أستحق متعة النظر بعد إلى "علمي" يرفرف بين أعلام دول ضحت في سبيل أن تستقيم أركان الدولة فيها , فلا "سارية" قادرة على حمل وطن لم يستطع ابنائه بعد حمله في قلوبهم كما يجب.