صادق مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير على مشروع للعناية بالنخيل ودمجه في دورة الاقتصاد، وقد تابعت تعليقا لوزير الشؤون الاقتصادية عقب هذا الاجتماع، تحدث فيه عن تفاصيل ذلك المشروع، مبديا أسفه على الإهمال الذي يعاني منه قطاع التمور، ولجوئنا لاستيراد هذه المادة في الوقت الذي نحن قادرون على الاكتفاء بانتاجنا منها.
أعرف أن النية والإرادة صادقتان في هذه التوجيهات بالعناية بالنخيل، وعيا بأن التنمية لا بد أن تكون متوازنة، رغم تشعب وضغط الأولويات، التي لا تترك الخيار في التفكير في غيرها أحيانا.. لكن ما أخشاه هو أن يلتقط القيمون على هذا القطاع تلك التوجيهات وينفذونها على طريقتهم، كأن تنطلق غدا بعثات باتجاه مناطق الواحات، من أجل إجراء مسح أو إحصاء عاشر لأعداد النخيل وأنواعه والمعوقات التي يعاني منها، وعقد اجتماعات مع رابطات الواحات وتزويدهم ببعض مبيدات الآفات، لتعود هذه البعثات وتقول هكذا نكون قد نفذنا تعليمات رئيس الجمهورية للعناية بالنخيل..!
لا، ليس هذا هو المطلوب، وليس هو ما سيرفع من انتاجية وجودة التمور، أو يخفض من تكاليف إنتاجها، ولا أعتقد أيضا أن تلك هي توجيهات رئيس الجمهورية.. ولكي ننطلق انطلاقة سليمة في سبيل تحقيق هذه الأهداف، علينا أولا أن ننطلق من بعض الحقائق في هذا المجال، فمن لا ينطلق من حقائقة أبدا لن يصل إلى أهدافه.
أولا : أن نعرف أن أغلبية الأنواع الموجودة عندنا من التمور والبالغة مئات الأصناف، غير مصنفة علميا ولا معروفة الخصائص وراثيا، كما أنها متروكة لعمليات التلقيح الخلطي والانتخاب الطبيعي، تماما كما تتلاقح الحشائش والنباتات البرية، بل وكما يتلاقح الجيد مع الرديء من ثروتنا الحيوانانية دون تحكم في الأنواع والسلالات.
ثانيا : أن نعترف أن الأصناف المتداولة عندنا من التمور، ليست من الأصناف الجيدة عالميا، خاصة عندما نتحدث عن التعليب والتسويق في ظل منافسة قوية وسوق مفتوح، بدون أن يعتبر ذلك تبخيسا لهذه الأصناف التي لها مكانة خاصة في تاريخ وثقافة أصحاب الواحات، ودون أن نتنكر أيضا لقيمتها الكبيرة التي مكنت سكان مناطق مهمة من البلاد، ذات طبيعة قاسية من اجتياز مراحل صعبة من نقص الغذاء بفضل هذه التمور، بالضبط كما ندين للجمل بالخدمات الجليلة التي قدمها لنا، من خلال حملنا وحمل اثقالنا وتجارتنا عبر الصحاري، وسقينا من مسافة ليالي وأيام.. لكن الحاجة للجمل كوسيلة نقل قد انتفت اليوم عندما حلت محله وسائل نقل أخرى أكثر سرعة وسعة ومتعة وتحملا، ومع ذلك سيظل الجمل في ذاكرتنا معترفين له بالجميل.. ونفس الشيئ بالنسبة لأصناف التمور المحلية، فقد اجتازت بنا مراحل مهمة من تاريخنا عندما كانت الندرة هي طابع الحياة، أما اليوم فقد ظهرت أصناف غيرها أعلى جودة وأوفر انتاجا وأصلح للتعليب.
ثالثا : أن نعرف أن كافة واحاتنا بدون استثناء موبوءة بالآفات والأمراض، والآفات والأمراض صفة مرافقة لأي زراعة، لكن لها وسائل وقاية ومكافحة لا تزال غائبة في هذه الواحات حتى الآن، فقلما تجد نخلة إلا وهي مصابة بواحد أو اثنان من الأمراض والآفات الشائعة، أو مصابة بها كلها، إضافة إلى أن المعروف محليا من الأمراض والآفات قليل جدا، فما هو معروف منها لا يتعدى العشرة، كسوس النخيل مثلا والبيوض والعناكب المعروفة ب " تاكه " وغيرها، بينما يموت ويتدنى إنتاج الكثير من النخيل بسبب الإصابة بأمراض وآفات مجهولة، رغم أن هناك شبه مخبر وحيد مهجور ويفتقر للوسائل والخبرات، وهذه الأمراض والآفات علاوة على كونها تمثل عائقا للإنتاج، فإنها أيضا تمثل عائقا أمام عملية التعليب التي نتحدث عنها اليوم، فالنخلة المصابة بالآفات والأمراض من فيروسات وحشرات وغيرها، حتما سيكون انتجاها مصابا هو الآخر بدرجة لا تنفع معها عمليات المعالجة والتنظيف التي تسبق التعليب، ليتم الإغلاق على هذه الآفات في العلبة مع التمور، وما هي إلا أسابيع حتى تتلف وتكون الخسارة! ولذلك نجد أن تمورنا المحلية تبقى صالحة لفترة أطول في حالة عرضها دون تعليب، وإذا كان معروفا وثابتا لدينا أن العقل السليم في الجسم السليم بالنسبة للإنسان، فإن نفس الحقيقة تنطبق أيضا على التمور أو أي محصول زراعي آخر، فالإنتاج السليم هو فقط من النخلة أو النبتة السليمة..
رابعا : أن ندرك - ونحن نتحدث عن التعليب والتسويق- أن الذي يجعل المستهلكين والتجار يقبلون على التمور المعلبة المستوردة، ليس كله تعلق بكل ما هو مستورد، وإنما هو راجع في الأساس، لما تتمتع به تلك التمور من مميزات متمثلة في الطراوة وجودة المذاق والشكل واللون الجذاب بالنسبة للمستهلك من جهة، وكثرة الطلب عليها وقدراتها التخزينية الأكبر بالنسبة للتاجر والمسوق من جهة أخرى، وهي صفات لا تتوفر في تمورنا إلا بنسب متدنية، حيث تنكمش وتجف بسرعة بعد تحولها من طور الرطب إلى طور التمور، كما أنها أيضا صفات وراثية تستمدها التمور من صنفها الأم، ولا يمكن تحسينها عن طريق التعليب، تماما مثل الصفات الوراثية التي يستمدها أي منا من أبويه، ولا تغير منها عمليات التجميل التي نجريها، ولا الأزياء التي نرتديها..
فعملية التعليب إذن ليست سوى حلقة أخيرة من سلسلة مترابطة، تبدأ باختيار الأصناف الصالحة للتعليب أولا، ومن ثم زراعة هذه الاصناف في تربة مناسبة، والعناية الدقيقة بكل عملياتها الزراعية من ري وتسميد إذا اقتضت الحاجة، ومتابعة للأمراض والآفات ومعالجتها ومنع انتشارها، ثم التلقيح بالطرق العصرية، ثم الحصاد في الوقت المناسب، ثم فرز التمور واستبعاد الرديء منها، ثم التجفيف والمعالجة، ثم التعليب. وهذه المراحل والمعلومات الأساسية أنا متأكد من أنها غائبة عن منتجي التمور، وأشك في أن القائمين على شؤون الواحات على اطلاع بها أو يولونها أي اهتمام، فمنذ عقدين وهناك مشروعات لتنمية الواحات تنتهي آجالها فيتم تجديدها، لكنها لم تحقق شيئا يذكر في هذا المجال، ماعدا تشكيل روابط وتشاركيات وتمويلات هزيلة وسياسات بلا آفاق، والنتيجة هي أن انتاج التمور في بلادنا كان بدائيا ولا يزال، وهجرة منتجيه في ازدياد!
ومن هنا علينا أن لا نتحدث عن التعليب ونكرر نفس الأخطاء، إذ سبق وأن تمت محاولة تعليب التمور المحلية محاكاة للتمور التونسية والجزائرية، لكن الطبيعة والمعايير العلمية تدخلا لضرب هذا المشروع وتفليس أصحابه، إذ لا يصح إلا الصحيح..!
سادتي، لقد وجهت لكم التعليمات بالعناية بالنخيل والرفع من انتاجيته وتطويره، ولكل من هذه الأهداف متطلباته، وأنا على يقين من أن أذون البعثات المتجهة لمناطق الواحات جاهزة الآن للتوقيع إن لم تكن قد وقعت.. وأن السيارات والوقود وتعويضات الفنيين جاهزة هي الأخرى للإنطلاق إلى هناك، والمكوث أياما مع واحاتيين كانوا معهم بالأمس وقبل الأمس وقبل أشهر..
فعلى رسلكم، خذوا وقتكم هذه المرة وانظروا بعيدا عن ما بين أرجلكم، لا داعي للتعجل، فتطوير النخيل وحمايته والرفع من انتاجتيه، يتطلب أكثر مما يدور في اذهانكم هذه اللحظات، ألم يسبق وأن اكتشفتم مثلا بأن قطاعات الزراعة المروية والتقليدية وقطاع المراعي والانتاج الحيواني، لا يمكن أن تكون منتجة ومستدامة بالطرق والسياسات التي كانت متبعة فيها، مما جعلكم تجلسون سنتين لإعداد استراتيجية مرحلية تكون انطلاقة جديدة لهذه القطاعات على أسس سليمة؟ ثم ألم تستجلبوا خبراء مصريين للإشراف على إدخال زراعة القمح، وذلك لندرة أو غياب الخبرات الوطنية في هذا المجال؟ لا يشكل قطاع الواحات استثناء من تلك القطاعات هو أيضا، ولا يمكن تطويره هو الآخر بالأساليب البدائية التي لا زالت متبعة في ممارسته، فلا له بد من استدعاء خبراء من البلدان ذات الخبرة والباع الطويل في زراعة ورعاية النخيل بطرق عصرية أولا، وإنتاج ومعالجة وتعليب التمور ثانيا، وليس أولئك الخبراء الذين يمكثون أسبوعا للإشراف على ورشة هنا أو دورة تكوينية هناك، بل خبراء قاطنين تتوفر لهم كل الوسائل الضرورية والوقت الكافي لزيارة ومعاينة كل الواحات على التراب الوطني، وإعداد دراسة وافية وشاملة عن كل ما يتعلق بالنخيل في بلادنا، أعداده الحقيقية، مشاكله، أصنافه، مدى ملاءمة طرق زراعته، أمراضه وطرق معالجتها والوقاية منها، إلى غير ذلك مما هو مجهول لدينا ولا نتوفر إطلاقا على خبرات وطنية كافيه في مجاله.
أما فيما يتعلق بالتعليب، فلا بد أيضا من إدخال أصناف بجودة عالية كالتي تجد إقبالا من قبل المستهلكين، إذ لا أعتقد أن تعليب التمور المحلية سيضيف لها قيمة لدى المستهلك، ويجعله يقبل عليها في وجود منتوج ذي جودة أعلى. ولا يعني ذلك طبعا أن نجتث كل النخيل الموجود في واحاتنا، فبإمكاننا ترك تلك الواحات على حالها مع تحسين إنتاجيتها عن طريق حمايتها من الأمراض والآفات، وإدخال طرق ري حديثة تحد من تكاليف زراعتها وإنتاجها، كتعميم الري بالمضخات العاملة بالطاقة الشمسية بدل البنزين، لتبقى هذه الواحات ملبية لأذواق من يفضلون تمورها، ومن يرتبطون بها ثقافيا في مواسم ( الكيطنة )* وفي نفس الوقت نعمل على استغلال مئات الأودية و" البطاح " الموجودة في المناطق الملائمة لزراعة النخيل، من حيث درجات الحرارة المرتفعة ونسبة الرطوبة المنخفضة، وأين ما توفرت المياه في المناطق الشمالية وتكانت أساسا، والتي يعجز الواحاتيون عن زراعتها بالنخيل لقلة الوسائل وارتفاع التكاليف، نستغلها في زراعة أصناف جديدة من النخيل وعلى نطاق واسع قادر على تغذية مصانع للإستهلاك المحلي بل وللتصدير، فمقدراتنا في زراعة النخيل وإنتاج التمور كبيرة ولا تتوفر لبلدان أخرى بسبب مناخاتها الإستوائية الرطبة، مما يجعلها تصلح لنا كأسواق.. لكن بشرط إقلاعنا عن الزراعة البدائية للنخيل، واستفادتنا مما توفره تقنيات الانتاج الحديثة من سيطرة على الآفات والأمراض، وطرق للري بالتنقيط، واختبار وإدخال أصناف جديدة ذات جودة عالية.
وقد أصبحت تقنية إكثار النخيل عن طريق زراعة الأنسجة ( Tissue culture ) تقنية شائعة ومتاحة للتغلب على الكثير من معوقات الإنتاج خاصة في دولة الإمارات العربية والسعودية ومصر محققة مزايا عديدة مثل:
1- إنتاج أعداد كبيرة من الفسائل ( تنقل ) في مساحة محدودة ، ومن ثم زراعتها في مساحات كبيرة وفي وقت واحد.
2- إنتاج فسائل حاملة لنفس خصائص الصنف الأم، وخالية من مسببات الأمراض كالفيروسات المنتشرة في النخيل، والتي تنتشر وتتكاثر بطرق الإكثار التقليدية الشائعة عندنا بواسطة الفسائل.
3- تخفيض تكاليف استيراد الفسائل، لأن ما سيتم استيراده هو مجرد انسجة خفيفة عكس استيراتد الفسائل الكبيرة، حتى أنه يمكن استيراد فسائل جاهزة للزراعة إذا كنا لا نريد تحمل تكاليف المختبرات والفنيين لإنتاجها محليا، لكن بشرط أن نتأكد أولا من أن هذه الأصناف ملائمة لبئتنا وتعطي نفس الانتاج الذي تعطيه كما ونوعا في بيئاتها الأصلية، وذلك باختبارها أولا على نطاق ضيق كما يجرى مع أي مقاربة حديدة.
( الكيطنة )* : ما قد يكون معروفا لدى البعض وغائبا عن البعض الآخر، أن كلمة الكيطنة كلمة عربية فصيحة وتعني البستان.