غياب الإحصائيات والدراسات والإستطلاعات الدقيقة قد تفقد التحليل الإستشرافي قيمته وأهميته بالإضافة إلي الطبيعة السوسيوثقافية لمجتمعنا وضعف الضوابط السياسية والأخلاقية كلها أمور قد تجعل مجرد التفكير في المستقبل نوع من الترف الفكري
أوالتلاعب اللفظي ومع ذلك فإننا سنعتمد علي معطيات كثيرة توافرت تدعونا للتطلع لمعرفة ما قد يحدث في المستقبل وقراءة السيناريوهات الممكنة انطلاقا من نتائج الحراك السياسي والإجتماعي خلال السنوات الأخيرة.فماهي أهم المعطيات المتوافرة ؟ وماذا يمكن أن نبني عليها من استنتاجات؟
أولا: المعطيات:
أجريت الإنتخابات البرلمانية والبلدية في ظروف غير طبيعية ووسط مقاطعة قوي سياسية هامة وانتقادات مستمرة للجنة المشرفة ولدور أجهزة الدولة المختلفة (الحكومة ، المجلس الدستوري ، المحكمة العليا) .
أعطت الإنتخابات للحزب الحاكم أغلبية مريحة تجعله قادرا لوحده علي تشكيل الحكومة وتنفيذ سياساته وبرامجه والتحكم في بقية الأطراف المشاركة معه وتحديد العلاقة معها والإستفادة الكبيرة من دعمها له.
إعادة ترتيب أوراق المعادلة السياسية في البلاد بحيث تمنح النتائج مواقع متقدمة لأطراف مشاركة علي حساب أخري قاطعة (زعامة المعارضة ، قيادة المجموعة الحضرية ، الكتل البرلمانية ).
الدفع بفاعلين سياسيين جدد وتمكينهم من الوسائل الكفيلة باعتلاء المنابر الإعلامية والسياسية من أجل التضييق علي الطرف المقاطع ( 25حزبا ممثلا في البرلمان). ترحيب دولي بالإنتخابات الموريتانية واعتراف محتشم بنتائجها .
تراجع دور ومكانة الزعامة التاريخية لفئة اجتماعية وازنة (لحراطين) وبروز زعامة جديدة أكثر راديكالية وتشددا مسلحة بدعم دولي وحقوقي وتشتيت الأصوات المتحدثة باسم لحراطين (مسعود ، بيجل ، ولد بربص، بيرام )
إسكات الأصوات الزنجية المعارضة وسيطرة الحزب الحاكم علي جميع أجنحتها عن طريق التوظيف في دوائر الدولة .
بقاء المنسقية متمسكة بأطرها وتنظيماتها وخط سيرها القديم مما أورثها وهنا وعجزا هيكليا وركودا وجمودا في أنشطتها .
التدافع القبلي والتنافس المناطقي وبروز عوامل الإستقطاب الحاد بين الفيئات الإجتماعية والقبلية مما يؤجج روح الصراعات المجتمعية والنفقية .
انتشار البطالة في صفوف الشباب وموجات الفصل التعسفي للعمال وتدني الأجور وتوسع دائرة الفقر والفساد المالي .
تداعيات حادثة الرصاص "الصديق" والمواقف الغامضة لولد بوعماتو وبعض خصوم النظام السريين (داخل العائلة ) وفضائح النظام واتهامات النائب الفرنسي (مامير)لرأس النظام بالإتجار في المخدرات.
ثانيا : تسلسل الأحداث:
تنصيب المجالس البلدية وخاصة المجموعة الحضرية ورآسة المجالس النيابية (البرلمان والشيوخ).
لا أتوقع أن تنسجم الحسابات الحالية ما سيحصل في النهاية ،تقول الحسابات إن المعارضة قادرة علي حسم مقعد رئيس المجموعة الحضرية بفارق صوت واحد أو صوتين لكن المعارضة لن تتمكن من العمل متحدة لعوامل يصنعها النظام ومن أهمها الوضعية النفسية الصعبة للزعيم مسعود بعد تراجع حزبه في الإنتخابات ونجاح النظام في تقليم أظافره وإجلاسه علي مقعد قسري خلف بيجل ومن تلك الأسباب علاقة بيجل بالنظام التي يبدو أنها منسقة مسبقا ....بالنسبة لرآسة البرلمان يبدو أن الإتفاق الذي جري في حوار النظام مع بعض المعارضة ينص علي أن يكون رئيس البرلمان من فريق الأغلبية مما يعني أن مسعود أمام خيارين أحلاهما مر: فإما أن ينضم للأغلبية ليصبح رئسا للبرلمان وإما أن يجلس في المقاعد الخلفية مع صار وزوجته وبقية الركب .... ولن يجد الحزب الحاكم صعوبة في إيصال قائد أركان الدرك المتقاعد انجاك جيك لرآسة مجلس الشيوخ.
انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشيوخ:
قد يكون فرصة لبعض قادة أحزاب المعارضة المشاركة الذين فاتتهم فرصة دخول قبة البرلمان لولجها من بوابة مجلس الشيوخ لأن ذلك سيوفر لمحمد جميل منصور أو السلك ولد سيد محمود ظروفا ملائمة (قانونيا) لرآسة مؤسسة المعارضة .
الحوار مع المعارضة وتهيئة الأجواء السياسية
قد لايكون هذا المطلب استحقاقا ضروريا لدي البعض خاصة بعد تصريحات بيجل بأنه لاحوار قبل الإنتخابات الرآسية (أو هو علي الأقل لايري ضرورة لذلك) لكن الرجل يؤدي أدورا إعلامية في إطار خطة مدروسة ، فلا يمكن لطرف مهما كان أن يكون ملكا أكثر من الملك نفسه . فقد أعلن الرئيس بعيد الإقتراع في الشوط الأول أن أبواب الحوار ستبقي مفتوحة كما دعي رئيس حزب تواصل الفائز بالمركز الثاني في الإنتخابات إلي حل الأزمة السياسية القائمة عبر حوار جديد ولا شك أن الزعيم مسعود لن يمانع هذه المرة في إجراء حوار معمق وجديد بل إنه قد يؤيد إلقاء النتائج وإجراء انتخابات جديد . هناك أيضا دعم دولي وإن كان باهتا لإجراء الحوار قبل الشروع في إجراءت الإنتخابات الرآسية القادمة .
أعتقد أن ماهو متاح للنظام في إطار حوار جديد مع المعارضة أبرز بكثير مما هو في مقدور المعارضة الحصول عليه، فأقصي ما يمكن أن يتنازل عنه النظام في أي حوار قادم هو التعهد بحل البرلمان والبلديات وإجراء انتخابات جديدة بعد فوزه في الرآسيات وهو أمر لايعوق مسيرة النظام نحو تحقيق جميع أهدافه ..لكن معارضة ضعيفة ومشتتة لاتملك سوي قبول ذلك في أفضل حالاتها ..أما السيناريو المفزع والرهيب والممكن جدا هو توافق الأطراف المشاركة (سرا أو علنا ) علي الإمتناع عن دخول أي حوار مع المقاطعين والتوجه مباشرة إلي انتخابات (هزلية )أخري تشرع للنظام فترة حكم جديدة وتضمن للمشاركين امتيازات حكومية ونفعية محدودة ..
أم المعارك أو الانتخابات الرآسية:
إذا استطاع النظام أن يجتاز المراحل السابقة بوتيرة عادية وتفاهمات داخلية قوية فإن السيناريو القادم للإنتخابات سيكون نسخة طبق الأصل من انتخابات 2013م وستكون النتائج (هي ، هي )لا شيء سيتغير عن الأوضاع الحالية - تأزم وامتعاض ورفض وشجب واستنكار وتهويل من طرف المعارضة المقاطعة.- وقبول واستسلام من طرف المعارضة المشاركة- وترحيب وتمجيد وافتخار من طرف أجهزة النظام وأحزابه .
أما إذا تأزمت الأوضاع خاصة بين الأطراف المشاركة (وهناك مؤشرات علي ذلك) فإن عوامل وحدة صف المعارضة ستتعزز وسوف تتكون جبهة واسعة ضد النظام قد يفرض ذلك عليه تنازلات أقوي من قبيل الموافقة علي خريطة طريق( دكار2) تتضمن حزمة متكاملة من الإصلاحات الدستورية والسياسية والإنتخابية وهو ما من شأنه أن يعيد البلاد إلي جادة الصواب ويمنحها انتعاشا جديدا للآمال ووتيرة نمو أسرع وتفاهمات أقوي يمكنها في المستقبل أن ترجح كفة الوعي الديمقراطي في البلاد وتخفف من قبضة الجيش علي السلطة واحتكاره لممارسة جميع الصلاحيات .
أما الطريق الثالث : فهو ما لا نرجوه ولكننا لانملك إلا أن نتوقع حدوثه في كل لحظة فلم يسبق لإنقلاب عسكري أن أعلن عن نفسه قبل حدوثه ولم يعجز إنقلابي عن تقديم مبرارت لن يجد السياسيون صعوبة في فهمها من الموالين قبل المعارضين ومع ذلك فإن عوامل النجاح عادة ما تكتب للإنقلاب الذي يخرج من رحم النظام نفسه وهو ما قد يحدث هذه المرة بإحدي طريقتين:( ليس من بينهما الإنقلاب العسكري المباشر)
الأولي: عندما تتكون جبهة قوية وراء مرشح للرآسيات قادم من أعماق الشعبية التي تستند إليها الأنظمة العسكرية في شرق البلاد أو وسطها (النعمة ،لعيون ، كيف) ويكون هذا المرشح قادرا بمؤهلات موضوعية علي إقناع الشعب عامة ومؤسسة الجيش خاصة بالوقوف علي الحياد ومنع انزلاق البلاد إلي الفوضي في حالة تعنت النظام وممارسة التزوير ، هذه الحالة تواجه معوقات كثيرة منها ماهو مرتبط بالمعارضين البارزين الحريصين علي ترشيح أنفسهم ومنها ماهو ناتج عن صعوبة قبول المرشح نفسه لدخول مواجهة مفتوحة مع نظام أدمنت شعبيته الإقبال عليه والتمسك بدعمه .
الثانية : وهي ما يمكن أن أستعير له إسم محاولة فاشلة سابقة وهو (اكراب 3) ويعني في تفاصيله اختيار مرشح للرآسة من ضباط الجيش السابقين والأقوياء والذين يمكنهم تحدي النظام ونيل ثقة العسكريين واحترامهم عندما تلتف حولهم قوي مدنية كبيرة وقوعد شعبية واسعة هؤلاء المخلصون من الجيش يمنكن أن يكون من بينهم (سيد محمد ولد بوبكر وأعلي ولد محمد فال وصالح ولد حننا وعبد الرحمن ولد مين أو أي ضابط آخر ربما لا أعرفه من المتقاعدين أو الخارجين من صفوف الجيش ) .هذا السيناريو سيكون شبيها للتناوب السلمي الذي حصل مرة في مالي ومرتين في السنغال: (مع فارق أن المرشح كان مدنيا) في الأولي عبدالله واد وفي الثانية الرئيس الحالي (ماكي صال) وفي كلتا الحالتين كانت البلاد تخرج من انتخابات محلية مطعون في صحة نتائجها ودون مشاركة الجميع فيها وينتهي الأمر بالرئيس إلي السقوط تحت ضغط الجماهير المستنفرة خلف مرشحها .(وهذا الإسنتفار هو ما أعنيه ب اكراب ) .
لن يكون ممكنا (في نظري) وفق المعطيات التي بنيت عليها هذا الإستشراف تغير هذا النظام إلا بإحدي الطرق السابقة وإن كنت أميل إلي الطريق المنبثق عن الحوار في ظل وحدة المعارضة وتنازل النظام خدمة للصالح العام .