في هذا المقال سأعلق على رأين بالغي الخطورة من حيث المضمون و الزمان، و يتعلق الأمر بإمكانية انسحاب أحد النواب من الحزب الذي ترشح باسمه دون أن يفقد مقعده، و يتعلق الثاني بعدم إمكانية انعقاد الدورة الاستحقاقية للبرلمان حتى يتم تجديد ثلث مجلس الشيوخ.
لكن قبل ذلك اسمحوا لي بالتذكير ببعض الأمور، فمن حين لآخر يتحفنا أحد القانونيين (محامون، أساتذة، باحثون) أو أحد القضاة (عدليون، إداريون، دستوريون) بآخر ما توصلت له قريحته من أفكار و آراء يعتقد أنها لا تقبل النقض و لا الشك. و يتلقفها غير المتخصصين و يوردونها كأنها اكتشاف في هندسة علم الجنات الوراثي لم يتوصل إليه إلا عباقرتنا بحكم مخابرهم المتطورة ذات الكفاءة و التقنية العالية. الواقع أكثر مرارة من ما يتصوره البعض. صحيح أن جميع العلوم اليوم (الصحيحة و الاجتماعية و القانونية) تعتمد على البحث داخل الوحدات و المخابر إلا أنه حسب علمي، و أتمنى أن أكون مخطئا، لا يوجد لدينا مختبر واحد للقانون في جامعة نواكشوط ولا في غيرها. بل إن الغالبية العظمى من أساتذتنا و باحثينا يشتغلون بقوانين الآخرين و الإشكاليات المطروحة لهم بحجة عدم توافر المراجع بالنسبة للقانون الموريتاني.
فلا زلت أتذكر بمرارة و أسى إبان إعدادي لأطروحة الدكتوراه في تسعينيات القرن الماضي مشورة جيلنا الأول من القانونيين و الباحثين حين اتصلت بهم واحدا تلو الآخر. و أخصّ بالذكر محمد محمود ولد محمد صالح، احمد سالم ولد ببوط، محمد لمين ولد داهي، محمد ولد خباز، و من المفارقات أن لا أحد من هؤلاء درّسني، إلا أن مكانتهم العلمية أملت علي الاتصال بهم كباحث متحمس لموضوع "السلطة التنظيمية في موريتانيا". كنت أسأل عن المعلومات و التوجيه فكانت صدمتي كبيرة عندما تواتر رأيهم على أمر واحد "بدّل الموضوع لا توجد له مراجع ستتعب و تتعذب و قد لا تصل إلى نتيجة" ! كان جوابي لكل واحد منهم "أستاذي الفاضل أشكر لك نصحك لكن إذا لم يضحّ الباحث الموريتاني بجهده و وقته فكيف ستكون لنا مراجع فقهية في القانون ؟"
قبلت التحدي وعانيت كثيرا قبل أن أكمل أطروحتي في ثماني سنوات رغم تفرغي لها كليا في الغربة، حتى صار أقاربي يتندرون علي قائلين "لو أعطيت كل هذه المدة تحفر من تونس إلى نواكشوط لكنت وصلت إلى بانجول جنوب السنغال". لقد علمتني سنوات البحث تلك من أمور القانون الموريتاني ما لم أكن لأتعلمه لو أمضيت عشرات السنين في أي وظيفة ولو كانت الإدارة العامة للتشريع. لقد درست و حللت و ناقشت جميع مواد الدستور الموريتاني و كيف أسست آلياته للدولة و أثرت على توازن المؤسسات الدستورية و السلطات العمومية، ولقد تعرضت لجميع القوانين النظامية و العادية باعتبارها الدعائم الأساسية للتنظيم حتى تلك المتعلقة بالتسيير المشترك للواحات أو بالصيد البري ....و بالطبع تناولت كل المراسيم و المقررات بل و حتى رسائل إدارية من والي إلى حاكم بدتلي رغم شكلها الداخلي قرارات إدارية تتضمن تنظيمات واجبة التطبيق...ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان للقرارات القضائية للمحكمة العليا دور كبير في تدعيم أو نفي مختلف الفرضيات التي أثارتها الأطروحة....
قد يتساءل البعض كيف أثرت هذه الأطروحة على الإصلاحات التي تمت؟ و أين هي ؟ و ماذا أضافت لمجال البحث في موريتانيا؟
شاءت الأقدار أن يتم إيداع الأطروحة يوم الثاني و العشرين من يوليو 2005 أي أقل من أسبوعين قبل الإطاحة بولد الطايع، و لم تناقش إلا في 14 يناير 2006. لم تكن التقارير الرسمية للأيام التشاورية بين هذين الموعدين إلا مجرد ملخصات لفصول الأطروحة و من يراجع تلك التقارير يتفاجأ كيف للجان أن تلاحظ هفوات قانونية ولا يتم معالجتها ضمن الورشات القانونية التي فتحتها السلطات الانتقالية سنة 2006. فقط على سبيل المثال لا الحصر نذكر ما يتعلق بالإدارة الإقليمية التي ينظمها الأمر القانوني 90ـ002 الذي لا يتضمن المراكز الإدارية رغم مواصلة الحكومة العمل بها و انشاء المزيد منها. ببساطة لم تكن التقارير إلا اقتباس مفضوح من أطروحتنا حتى تجاوز تلك المرحلة و يهتم بما يشغل الناس و السياسين لا بما يجيب على تساؤلات الباحثين و هواجس المختصين.
منذ الشهر الأول لمجيئي اعتنت دار لارماتن للنشر و التوزيع بنشر الأطروحة، و قرّرت نشرها بعدما عرضتها على المجلس العلمي الذي وافق بسرعة على النشر غير أن العقد الذي بعثوا لي به لم أكن لأوافق عليه إذ يعطيهم حق احتكار الحقوق لعشر سنوات. و ليست الاستفادة المادية و المعنوية هدف لدي فتريثت في قبول العرض. و لأنها باللغة الفرنسية و لمّا كان أغلب الدارسين في مجال القانون ناطقين بالعربية لم تلق الرواج الذي تستحقه بين عامة الباحثين الموريتانيين و أنا أعكف الآن على ترجمتها و تحديثها و قد استغل بعض الزملاء بموافقتي مقاطع منها لتبيان موقف الفقه القانوني من بعض الممارسات في اختصاص الوزراء.
هذا الإيضاح فقط للتذكير بأن البحث لا ينطلق من فراغ ولا يبنى على الخواطر و إنما هو علم يقوم على أصول ثابتة و تراكم المعلومات و التقنيات.
أما ما يتعلق بإمكانية أن ينسحب النائب من الحزب الذي ترشح باسمه دون أن يفقد مقعده فهذا أمر يدعو للسخرية، ذلك لأنه و إن لم ينص صراحة القانون النظامي 2012ـ29 على فقدان النائب لمقعده عند انسحابه من الحزب المرشح له فإن الأمر واضح من روح القانون و الأعمال التحضيرية للنقاش البرلماني. و من المسلم به على الأقل في القانون العام أنه إذا حدّد المشرع طريقة اختصاص أو تعيين و سكت عن طريقة إنهائهما فإنه وفقا لقاعدة توازي الإجراءات "le parallélisme des formes " فإن نفس الإجراء يطبق لتحديد المختص أو لتحديد الاجراء المتبع. و هذا يعني أن المشرع اشترط في الولوج إلى المنصب الانتساب إلى حزب سياسي معترف به مما يعني أن فقدان الانتساب للحزب يضيع مفتاح الولوج إلى البرلمان.
و الاستدلال بأن التشريعات المتعلقة بمجلس الشيوخ و المجالس البلدية نصت صراحة على فقدان المنصب بمجرد الانسحاب من الحزب فهو ليس دقيقا، إذ يتعلق الأمر ب"الفقدان التلقائي" الذي لا يحتاج إلى أي إجراء، بينما يحتاج النائب المنسحب فقط لإجراء من المجلس الدستوري يؤكد فيه و ضعية الانسحاب. و الأمر ضمانة لعدم مصادرة أصوات الناخبين من الطرفين: الحزب الذي دفع بناخبيه و الشخص الذي تحصل على ثقة الناخبين. فقد يحاول الحزب استبعاد شخص المنتخب لفائدة شخص آخر لدفع النائب للانسحاب حتى يأخذ مكانه، فالأمر معقد جدا و يحتاج إلى فيصل مستنير لا يمكن للتلقائية أن تجد لها مكان فيه.
أما بالنسبة للرأي الذي وصل الحكومة بعدم إمكانية انعقاد البرلمان الجديد إلا بعد تجديد ثلث الشيوخ فهو رأي غريب و لا يستند إلى أساس قانوني صلب. صحيح أنه في الظروف العادية تنتهي مأمورية أعضاء مجلس الشيوخ المستبدلين في ابريل من السنة السادسة لانتخابهم إلا أن الأمور شابكها و عقدها على غير المختصين الباحثين الإصلاح الدستوري الأخير حينما نصت المادة 15 من القانون الدستوري رقم 2012ـ15 "تمدد سلطات غرفتي البرلمان الحالي حتى الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية القادمة".
و بدون الدخول في سرد حيثيات الموضوع تفصيلا أقول إن المشرع الدستوري الموريتاني يفرق بشكل واضح بين الجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ، إذ يمكن أن تحلّ الأولى ولا يمكن حلّ الأخير و تجدد الجمعية الوطنية دفعة واحدة و يجدد مجلس الشيوخ على دفعات ثلاث ... بناء عليه بمجرد انتخاب نواب جدد انتهت صلاحيات الجمعية الوطنية السابقة و يظلّ التمديد ساريا لصلاحيات مجلس الشيوخ، لذلك يجب أن يعقد البرلمان المجدد دورة استحقاقية خلال أربعة عشر يوما فور الإعلان عن النتائج النهائية للانتخاب إذا لم يكن في دورة عادية فما بالكم أن الدورة العادية الأولى التي ينص عليها الدستور قد بدأت بالفعل. وهنا لا بدّ من توضيح أمرين:
ـ الأمر الأول يتعلق بمفهوم "الإعلان عن النتائج النهائية" و المقصود به انتهاء البت في الطعون من طرف المجلس الدستوري، و هذا يعني أن جميع النتائج الرسمية التي أعلنتها اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات والتي لم يطعن فيها خلال الثمانية أيام الموالية للإعلان هي "نتائج نهائية" و أن التي طعن فيها تصبح في عهدة المجلس للبت فيها في أجل لا يتجاوز 30 يوما بدأا من آخر طعن قدم إليه.
ـ الأمر الثاني يتعلق بتجديد أعضاء مجلس الشيوخ، و هو ربما ما قد يلتبس على بعضنا. الأصل في التجديد أن يكون جزئيا كل سنتين حسب الفئات المحددة بالقانون و الأصل أيضا أن لا تتجاوز مأمورية الشيخ ستة سنوات، إلا أنه بسبب الظروف و الإصلاحات التي أشرنا إليها سابقا تداخلت النصوص و حورت بقوة الدستور المعطيات القانونية في الظروف العادية. كان من المفروض إصدار قانون نظامي يحدد طرق و آجال العودة إلى الأحكام العادية و هو ما لم يتم حتى الآن.
و هنا أقترح أن تتم دعوة البرلمان في الدورة العادية المستمرة بتشكيلة الجمعية الوطنية الجديدة و بالتشكيلة الحالية لمجلس الشيوخ الممدد له دستوريا حتى تجديده، و أن يتضمن جدول الأعمال بالخصوص النقاط التالية:
ـ انتخاب هيئات الجمعية الوطنية،
ـ التصويت على الميزانية،
ـ المصادقة على القانون النظامي المتعلق بتجديد فئات مجلس الشيوخ الثلاث دفعة واحدة خلال شهر فبراير، على أن يصحح هذا القانون عدد الشيوخ في القانون النظامي 2012ـ30 الذي يجب أن يكون 58 شيخا بإضافة شيخ "مقاطعة الشامي" المقاطعة 55، مما يمكن من العودة سريعا و بشكل نهائي للسير الطبيعي و المعتاد للمؤسسات الدستورية.
أ.د حاتم محمد المامي
أستاذ القانون العام
رئيس المنشأة الموريتانية لدولة القانون