أي إنسان كان ؟! وأي عظيم هو ؟! تعجز الحروف، وتضيق المعاني على المرء، فلا جد ما يعبر به عن حقيقة عظمته سوى أن يتلو قول الحق سبحانه : "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ". نعم .. خلق عظيم .. عبر عنه أنس بن مالك في حقيقته العامة، وهو الذي عايش رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين عديدة، فقال – فيما رواه البخاري ومسلم – : لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فو الله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء فعلته : لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلت كذا.
وعبر عنه في إحدى حالاته الجزئية، فقال - فيما رواه البخاري ومسلم أيضا – : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتقه قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته. ثم قال له : مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه وهو يضحك ثم أمر له بعطاء.
الصادق الأمين :
وكيف لا يكون كذلك؟
وهو خاتم الأنبياء الذي رفع الله له ذكره في والأولين والآخرين : "ورفعنا لك ذكرك"، وبرأه من النواقص والعيوب : "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى".
وتصديقا بهذه الحقيقة، وانطلاقا من هذا المعنى، كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يكتب كل كلمة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فنهته قريش، وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال "اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" (رواه أبو داود/3161).
وقالت عنه خديجة وهي العارف بمدخله ومخرجه – حين جاءها يرجف فؤاده من شدة ما راعه الملك – "كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق "(رواه البخاري).
وكانت قريش – وهي عدوه اللدود – تلقبه من دون الناس بالصادق الأمين .. ولا تزال كتب السير تحتفظ لنا بتلك الحادثة التي وقعت بين بطون قريش حينما اختلفوا حول وضع الحجر الأسود في مكانه، ثم اتفقوا أن يكون أول طائف بالبيت حكما بينهم، وما أن رأوا رسول صلى الله عليه وسلم - ووقتها لم ينزل عليه الوحي بعد - حتى قالوا بلسان واحد : هذا الأمين، رضينا بحكم الأمين!!
ومن العجائب التي دونتها كتب التاريخ الموثوقة، أن قريشا رغم عنادها الشديد للحق، وتكذيبها للرسالة لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير من النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ الأمانة، فكانوا لا يودعون أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده ! وقد خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة عليا بن أبي طالب رضي الله عنه ليرد إلى الناس ودائعهم. (كما رواه ابن هشام في السيرة، ج1 ص492).
الرحمة المهداة :
ولقد عبرت الآيات القرآنية عن أهداف الرسالة المحمدية وعن حقيقتها فحصرتها في الرحمة : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".
ومن تجليات تلك الرحمة، حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس، والأخذ بحجزهم عن النار، ولذلك رد على من قال له : إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها، بأن قال : "اللهم اهد دوسا وائت بهم"(رواه البخاري/2720)، وعند ما دخل على قريش فاتحا، وهم اللذين ناصبوه العداء وآذوه كثيرا قال لهم : "اذهَبُوا فَأنْتُمُ الطُّلَقَاء".
وقد يتوهم جاهل مغرور أن هذا التصرف النبوي الحكيم متناقض مع معاملته صلى الله عليه وسلم ليهود بني قريظة الذين حكم عليهم بـ"قتل الرجال وسبي الذرية".
وليس الأمر كذلك، فإن بني قريظة كانوا قد ارتكبوا خيانة عظمى، وذلك حين نقضوا العهد الذي أبرموه مع رسول لله صلى الله عليه وسلم، عند ما لاحت لهم فرصة يوم الخندق، حسبوها هي القاضية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك كان لا بد من موقف حازم تجاه هذه الخيانة الكبرى، حتى لا يذهب يهود يتبجحون بأنهم خدعوا رسول لله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك هو الشأن مع أكابر العتاة ومجرمي الحرب، فقد قتل صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث(السنن الكبرى للبيهقي/17803)، كما أنه أصدر أوامره يوم الفتح – رغم العفو العام – بقتل عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح "ولو تعلقوا بأستار الكعبة"(السنن الصغرى للبيهقي/2923).
ومن تجليات رحمته صلى الله عليه وسلم، استقباله للتائبين، ونسيانه لماضيهم - رغم ما في بعضه من قسوة وظلم شديد للمسلمين - ، فهذا عمرو بن العاص وهو الذي آذى المسلمين كثيرا، وخرج في مطاردتهم وهم فارون بدينهم نحو الحبشة، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له : لا أبايعك يا رسول الله حتى تغفر لي ما تقدم من ذنبي. قال له : "أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب"(رواه الإمام أحمد/17159).
أما ما يثيره بعض المستشرقين حول إسلام وحشي، فإنه حديث مبتور من سياقه، ولا يخفى ما وراءه من نوايا خبيثة، والقصة كما ذكرها السهيلي في (الروض الأنيف، ج3 ص253) تقول إن وحشي لما قدم المدينة، قال : الناس يا رسول الله هذا وحشي، فقال : "دعوه فلإسلام رجل واحد أحب إلي من قتل ألف رجل كافر"، وأنه قال له : اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة، فحدثه، فلما فرغ من حديثه قال : "ويحك غيب عني وجهك، فلا أرينك". وذكر برهان الدين الحلبي في سيرته (2/509) عن وحشي رضي الله تعالى عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله".
هذه هي قصة وحشي كما نقلها أصحاب السير لا كما يصورها المستشرقون، مع أن لأسانيد التي نقلت بها القصة بمختلف جوانبها لا ترقى إلى المستوى العلمي الذي تثبت به حقيقة دينية أو رواية تاريخية.
عظمة النبوة :
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا فريدا للقيادة الحكيمة والشخصية الفذة المستكملة لكل صفات الزعامة، ولقد نقل من آمن به "نقلة بعيدة"(حسب تعبير سيد قطب)، وحولهم من أناس فارغين "يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة، ويأتيون الفواحش، ويقطعون الأرحام"(كما عبر جعفر بن أبي طالب) إلى عجائب فريدة حرفت مسار التاريخ، وغيرت وجهة الحياة، وأخرجت البشرية "من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"(كما عبر ربي بن عامر).
ونسفت قيم المجتمع الجاهلي، وعاداته الجائرة التي قسمت الناس إلى طبقات متفاضلة على أساس العرق واللون .. فساوت بين الجميع، ورفعت مكان صهيب الرومي من صعلوك رومي إلى مقام (ربح البيع أبا يحي)، وسلمان الفارسي من متشرد فارسي إلى مقام (سلمان منا آل البيت – لقد أشبع سلمان علما)، وبلال الحبشي من حبشي منبوذ إلى مقام (مؤذن رسول لله – سمعتُ الليلة خَشْفَ نعليك بين يديَّ في الجنة) .. وأتاحت لزيد بن حارثة الكلبي (وهو أحد الموالي) الزواج من زينب بنت جحش الأسدية ابنت عمة رسول لله صلى الله عليه وسلم، وتذكر الروايات التاريخية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زينب على ذلك الزواج، وكانت له كارهة ليبطل بذلك عادات قريش في التفاخر بالأنساب. (انظر على سبيل المثال السيرة الحلبية، ج2 ص484).
وجعلت أسامة بن زيد الكلبي (مولى رسول لله صلى الله عليه وسلم) يقود جيشا فيه شيوخ قريش وأكابر الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي دون أن يكون في ذلك غضاضة.
بل إن تربية رسول لله صلى الله عليه وسلم قد بلغت من تهذيبها للنفوس، وتنقيتها من الولاء لما سوى العقيدة والمبدأ أن دفعت أبا عبيدة بن الجراح إلى قتل والده يوم بدر لما أصر على قتال المسلمين(السنن الكبرى للبيهقي/18291)، ودفعت مصعب بن عمر إلى القول للأنصاري الذي أسر أخاه يوم بدر : "شد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك "(تاريخ الطبري، ج2 ص39)، وجعلت عبد الله بن عبد الله بن أبي (رأس النفاق) يرد على أبيه لما قال في غزوة بني المصطلق : "أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل" بأن يقول : "هو والله الذليل وأنت العزيز يا رسول الله، إن أذنت لي في قتله قتلته"، ثم وقف له عند مضيق المدينة فقال: قف فو الله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك، فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة"(البداية والنهاية، ج4 ص181).