موافقة ضمنية محتملة ما بين إسرائيل وبعض  القادة العرب: نحو نكبة ثانية / موسى حرمة الله

تثير حصيلة الحرب الإسرائيلية على غزة الذهول: فأكثر من 2% من السكان تمت إبادتهم، أغلبهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى مائة ألف جريح، وعشرة آلاف مطمورين تحت الركام، ومدن مهدّمة بنسبة 80%، وبنى تحتية محطّمة، ومجازر مروّعة في مشاهد فظيعة لا يستطيع المرء تحمل رؤيتها. إنها منطقة مدمّرة بالكامل. ويقدّر الخبراء الغربيون أن الإسرائيليين قد صبّوا على قطاع غزة الضئيل المساحة، وابلا من القنابل الأمريكية بالأساس، ما يعادل قنبلتيْن نوويتيْن.

وفي ختام هذه المجازر، يسعى ترامب، ونتانياهو، وزبانية الصهيونية العالمية، بموافقة أنظمة عربية، إلى إزالة الركام عن قطاع غزة وتطهيره من سكانه كما لو كانوا حُثالة من الغبار يجري مسحهم بالمكنسة.

وفي هذا السياق، يرى الرئيس الأمريكي أن مساحة إسرائيل ضيقة ويلزم أن تُضم الضفة الغربية إلى الدولة العبرية.

وتلك مسرحية هزلية قد تثير الضحك لولا ما تكتسيه من أبعاد خطيرة تتنافى تماما مع المبادئ الأساسية للقانون والأخلاق. ذلك أن الهدف المتوخي في التحليل النهائي من شرْذمة الفلسطينيين (على غرار الأكراد) هو تفريقهم بين عدة بلدان: مصر، الأردن، لبنان، سوريا ...

تحذير لترامب من قِبَل المدعي العام لدى محكمة العدل الدولية؟
يستدعى مشروع ترامب إطلاق تحذير يصدر عن المدعي العام لدى محكمة العدل الدولية. فالقانون الدولي العام صريح للغاية في هذه المسألة حيث ينص على أن تهجير السكان من موطنهم يعتبر جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. والأدهى من ذلك أن هذا التهجير إذا كان مندرجا في خطة ممنهجة ترمي إلى تدمير مجموعة أثنية أو عرقية أو وطنية، يمكن أن أن يشكل إبادة جماعية. وهذا ما ينطبق بالضبط على الحالة الفلسطينية إذا ما قُيّض لمسعى الرئيس الأمريكي أن يتجسّد عمليا.

ويحاول الأوربيون، مع بعض الاستثناءات، أن يتظاهروا بالنزاهة، مشيرين من حين لآخر إلى ضرورة إقامة دولتين (إسرائيلية وفلسطينية) كشرط لاستتْباب سلام دائم. غير أنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن الأمر لا يعدو أن يكون ضربا من الأوهام. ولا أدل على ذلك من أن أيا من بريطانيا التي تسبّبت في نكبة 1948 وفي كل مآسي الشعب الفلسطيني الماضية والحاضرة، ولا فرنسا التي أصبحت بعد أن أذاقت الشعوب ويلات الاستعمار معقلا حصينا للصهيونية وتساند الإبادة الجماعية في غزة، ولا ألمانيا التي شهدت فظائع الهولوكست (المحرقة)، ولا إيطاليا التي عرفت أهوال الفاشية، تريد الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

وفي الأمم المتحدة، وعلى الرغم من عديد القرارات الصادرة عن الجمعية العامة بأغلبية ساحقة، دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام حق النقض بمجلس الأمن في سبيل عرقلة هذا الاعتراف.

ويعلن قادة عرب، بدورهم، اعتراضهم بصورة خجولة على مشروع ترامب، لكن ما يخشونه، في الواقع، هو انتفاضة الشارع العربي التي يمكن أن تنتشر انتشار النار في الهشيم.

وعلى إثر هذا التشخيص للوضعية المقلقة، ما الذي يمكن عمله لإنقاذ فلسطين؟ في هذه المحنة الوجودية لا ملاذ للفلسطينيين سوى الاعتماد على أنفسهم، وعلى الشعوب العربية بشكل أقل. ولهذا الغرض، عليهم بادئ ذي بدء أن يرصّوا صفوفهم بوضع حد للتنافس العقيم على الزعامة وللخلافات بين فتح وحماس، تلك الخلافات التي لا يستفيد منها إلا أعداء القضية الوطنية.

إسرائيل لم تستطع القضاء على حماس 
لطالما أكدت إسرائيل أن حماس تم تدميرها ولم تعد تشكل تهديدا وجوديا للدولة العبرية، لكن الوقائع الميدانية تدْحض هذه المزاعم: فحرب نتانياهو لم تحقق أيا من أهدافها. وبالفعل، ما تزال حماس موجودة في غزة ومستمرة في إدارتها، والرهائن لم يتم تحريرهم بالقوة. وعلى صعيد آخر، وعلى الرغم من الخسائر، جرى اكتتاب أعداد من المقاتلين الجدد في حماس، ويعتبر الخبراء الغربيون أن أكثر من 60% من الأنفاق ما تزال قائمة. وقد تعرض الجيش الإسرائيلي لخسائر يومية كانت جسيمة في بعض الأحيان. وارتكب هذا الجيش أعمالا وحشية لم يسبق لها نظير في تاريخ الحروب.

إن تدمير غزة والتصفية الجسدية لزعماء حماس لا يفُتّان إطلاقا في عضد المقاومة الفلسطينية ولا في قدراتها.

فالأفكار لا يمكن قتلها والأيديولوجيات يستحيل استئصالها بالقوة. ومشعل النضال سيلقّفه جيل بعد جيل.

تشن إسرائيل على غزة حربا غير متكافئة، ما يعني أنها تستخدم وسائل غير متناسبة. فمن جهة: تستعمل إسرائيل طائرات أف 16، ومروحيات أباتشي، مزوّدة بالقنابل والصواريخ، والبارجات الحربية ذات القوة النارية الضخمة، والدبابات الهجومية، وراجمات القذائف المدمرة، ومن الجهة الأخرى: لا يتوفر مقاتلو حماس على المضادات الجوية، وليس لديهم سوى البنادق والعبوات الناسفة، لكن لديهم من العزيمة والشجاعة ما أدهش العالم.

على الرغم من التفاوت في ميزان القوى، لم تهزم دولة إسرائيل حركة حماس. وهذا ما أقر به العديد من الخبراء الغربيين. فعلى سبيل المثال: في مقابلة تلفزيونية أجراها داريس روشبين (Darius Rochebin) على قناة (LCI) بتاريخ 5 فبراير 2025، عن السؤال "هل مشروع ترامب قابل للتحقيق ميدانيا؟ أجاب العقيد (Michel Goya) الخبير العسكري للقناة والمستشار السابق لوزارة الدفاع الفرنسية: يجب أولا إلحاق الهزيمة بحماس، وهو ما لم تتمكن منه إسرائيل حتى الآن".

من الوهم إذن ادّعاء أن إسرائيل هزمت حماس. ومن المعهود أن يطلق المسؤولون الإسرائيليون هذه الادعاءات الوهمية. وينطبق الأمر نفسه على خزعبلات الحق اليهودي التاريخي في أرض فلسطين.

غزة أرض فلسطينية منذ آلاف السنين (1)
من المعلوم أن غزة لم تكن قط خالية من السكان أو منطقة بلا مالك. فقد ظلت على مرّ الحقب ملكا لشعب: هو الشعب الفلسطيني. وفي عام 1948، ألصقت بها زائدة دودية تسمى إسرائيل كورم سرطاني ما فتئ يتمدد. لقد صنع الغرب وطنا قوميا لليهود بشكل مفتعل تكفيرا عن الفظائع التي تعرضوا لها خلال الحرب العالمية الثانية.

وتحتل الدولة العبرية حاليا 78% من أرض فلسطين. وتحتوي هذه المساحة إسرائيل ذاتها والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ولم يبق للفلسطينيين سوى 22% من أرضهم. والأدهى والأشنع أن إسرائيل تسعى الآن، بدعم أمريكي، إلى ضمّ مجمل الأراضي الفلسطينية بالقوة.

الشارع العربي جزء من المعادلة
لا يبدو أن الرئيس الأمريكي يأخذ في الاعتبار التداعيات والتبعات المستقبلية لقراراته. ذلك أن النظر من زاوية مستقبلية يظهر أن مبادرة ترامب بشأن غزة إذا ما تجسّدت عمليا سيتضرر منها بلا ريب تأثيرُ الولايات المتحدة وستهدد وجود الكيان الصهيوني نفسه. كيف ذلك؟ إن تحرك الشارع العربي قد يزعزع الاستقرار الهش في شبه المنطقة. ويشكل انتعاش الشعور القومي تهديدا حقيقيا لبعض الأنظمة المحلية.

وتتأكد هذه الملاحظة خاصة على إثر المجازر الرهيبة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة ولم يحرّك أغلب الزعماء العرب إزاءها ساكنا خشية إثارة الغضب الغربي.

فكيف يمكن غسل عار الإحجام عن إغاثة مسلمين يُبادون بوحشية، بينما تتوفر الوسائل لإنقاذهم؟

حكام عرب أمام الله
كيف ننسى الخالق سبحانه، ونبيه، والموت، والحساب يوم القيامة؟

كيف يغيب عن بالنا أن القبر لا يوجد فيه حرس خاص، ولا بساط أحمر، ولا تشريفات؟ فباستثناء الأنبياء وثلة قليلة من الصالحين، تبقى "مراسم الاستقبال" متساوية للجميع. سواء بالنسبة لمن كانوا عظماء في هذا العالم أو بسطاء متواضعين: يبدأ الجسم في التحلل. وتبدأ الديدان وجْبتها، فتلتهم الأحشاء، وتثقب العضلات حول الحاجب والفكّين ثم تهاجم العينين واللسان ...

وبعد أيام لا يبقى سوى ركام من الفضلات النتنة والأوصال الممزّقة التي ستتناثر مع الزمن وقد تظهر على سطح الأرض. فما ذا سيبقى ممن كان يرى نفسه قطب رحى العالم؟ لا شيء.

لقد تلاشت الصحة، والأبّهة، والسلطة، والأموال، تبخّرت كسراب بقيعة. 
من الآن فصاعدا، سيُجزى كل بما عمل في الدنيا. أمام الجبار العدل علام الغيوب لا تخفى خافية، والحساب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. عندئذ سيصدر حكم لا مردّ له: إما إلى الجنة وإما إلى النار. خلود أبد الآبدين.

يجب ألا نغترّ. إذا كان الفلسطينيون بطبيعة الحال في صدارة الدفاع عن قضيتهم، فإن البلدان العربية، على العكس من ذلك، تلتزم الصمت المطبق. تخاذلا واستكانة للغرب.

إن مشكلة أغلب الحكام العرب تكْمن في قيمتهم الذاتية وعدم ثقتهم في مستقبل ومصير أمتهم.

فهم يكتفون بالتمتّع بريْع السلطة. ففي حين يتقلب بعض الحكام العرب في الملذات والتنعّم، ويجذبهم بريق المال والسلطة والجاه والأبّهة، يظل المسؤولون الإسرائيليون على أهبة الاستعداد للسهر على أمنهم ورفاهية شعبهم.

وقد أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفسيرا لهذه الظاهرة المتمثلة في استكانة وضعف العرب، سواء في مواجهة إسرائيل أو في التصدي للاعتداءات الغربية في العراق، وسوريا، وليبيا ...

فقد روى ثوبان أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت ».

كان العرب في الماضي مرهوبي الجانب لكنهم أصبحوا الآن كما وصفهم الحديث "غثاء كغثاء السيل" نتيجة "لحبهم للدنيا ولكراهيتهم للموت". 

موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط

المصادر الأكاديمية:
سكن الفلسطينيون منطقة فلسطين منذ آلاف السنين، وتعود جذورهم إلى العصور القديمة في حدود 3000 سنة قبل الميلاد.
(1)    التاريخ القديم:
●    حفريات أثرية (انظر: The Archaeology of Palestine (1949) par W.F.)
●    تاريخ الكنعانيين
(انظر Canaanites and Their Land. The tradition of the Canaanites (1991 par Niels Peter Lemche
(2)    العصور الإسلامية والفترة المعاصرة 
-    تاريخ فلسطين:
●    (انظر the Ottoman Conquest to the Founding
of the State of Israel (2008) par Gudrun Kramer
●    الفلسطينيون: 
The Making of a people (1994) par Baruch
Kimmerling et Joel S. Migdal
(3)    دراسات أثرية وأبحاث للجينات الوراثية
●    تظهر دراسات الجينات الوراثية مثل تلك المنشورة في ‘’Scientific
Reports’’ (2017) تواصلا جينيا بين السلالات القديمة في المنطقة وبين الفلسطينيين المعاصرين.

  

 

 

2. مارس 2025 - 13:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا