
لم تتعود دول الإقليم العربي والإفريقي ولا الشعب الموريتاني هدوء في علاقاتها الدبلوماسية ولا توازنا في العلاقات مع مختلف الأقطاب الإقليمية والدولية مثل ما عرفته خلال السنوات الست من حكم غزواني.
يأتي هذا في وقت يشهد فيه العالم مستوى غير مسبوق في حدة الصراع، إقليميا ودوليا؛ إقليميا، وصلت هذه الحدة لقطع العلاقات بين الجارتين الشماليتين المغرب والجزائر وإعلان البوليساريو العودة للسلاح، كما تنامى الصراع المسلح بين الحكومة والحركات المسلحة في الجارة مالي؛ ودوليا، اتسمت الأوضاع بتفاقم الصراع الغربي الروسي لحد الاقتراب من حالة الحرب المفتوحة.
هذا الهدوء غير المسبوق في دبلوماسية موريتانيا، رغم الصراعات الضاغطة، غير معهود أيضا في سلوك أنظمتها المتعاقبة منذ نشأتها، فقد دخل المختار ولد داداه رحمه الله أزمة مع الجزائر بسبب حرب الصحراء التي كانت السبب الرئيس لإسقاط حكمه، وقطع نظام ولد هيداله العلاقات مع المملكة المغربية، واشتدت أزمات نظام ولد الطايع جنوبا وشمالا، حيث وصلت العلاقات مع السنغال إلى حافة الحرب وغادر السلطة والعلاقات مقطوعة مع بوركينافاسو وليبيا، وتميزت فترة ولد عبد العزيز بأزمات دبلوماسية حادة مع المغرب والجزائر وبعض الدول الإفريقية وغادر السلطة وعلاقات البلاد مقطوعة مع قطر و متوترة مع المغرب والسنغال وغير جيدة مع غالبية البلدان الإفريقية.
أما غزواني فيشكل استثناء بين كل الرؤساء الذين سبقوه فلم يسجل خلال فترة حكمه أي توتر في العلاقات، بل أعاد ما كان مقطوعا مع قطر وطور بشكل إيجابي ماكان متوترا، وأوصل بعض العلاقات لمستويات غير مسبوقة مثل مستوى علاقات موريتانيا الممتازة حاليا مع قادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (توصف علاقة البلاد بهذين البلدين الشقيقين في عهده بأنها أحسن فترة مرت عليها منذ عهد المختار ولد داداه والملك فيصل والشيخ زايد رحمهم الله).
يقول العارفون بغزواني إنه يشرح هذه الرؤية الدبلوماسية بوضوح لكل من يلتقيه ويعبر عنها بكلمة يرددها (أريد أن يكون بلدي بدون عداوات)، مؤكدا أن هذه السياسة تقوم على مرتكزات ثلاثة:
أولها التوازن في العلاقات بين الأقطاب، وتجنب الاصطفاف في صراعات الأشقاء والأصدقاء.
مثلا، كما كان غزواني أول رئيس لموريتانيا يستقبله قادة حلف الناتو في مقرهم بابروكسل مطلع سنة2021، كان أيضا أول رئيس موريتاني يستقبل في نواكشوط وزير خارجية روسيا ومهندس دبلوماسيتها خلال العقدين الأخيرين سيرغي لافروف حيث التقاه مطلع العام 2023، وخلال العامين الذين فصلا بين هذين اللقاءين؛ وفي خضم صراع غربي روسي بالوكالة على حدود البلاد الشرقية راح ضحيته موريتانيون في داخل الأراضي المالية التي تنشط فيها قوات تابعة لمجموعة فاغنر الروسية، تحنب غزواني بحكمة مواقفه وحنكة قراراته؛ انجرار البلاد إلى الانخراط في أزمات الجوار؛ وصراعات القوى العظمى، فكان يقول للناتو: أنتم حليف استراتيجي لأمن البلاد؛ لكن لا يمكن أن تحددوا لي طبيعة علاقاتي مع روسيا التي هي حليف لنا أيضا. ويقول للروس: موريتانيا ليست طرفا ولا هي معنية بالصراع الدائر بينكم وبين أوكرانيا وحلفائها الغربيين.
الركيزة الثانية: كانت دبلوماسية التنمية، وبعبارة أخرى مصالح البلد مقدمة على التموقع في صراعات لسنا طرفا أصيلا فيها ولا يلزمنا أن ننخرط فيها. في عهده تطورت المشاريع التنموية المشتركة التي كانت متعطلة، فانطلقت أشغال طريق تيندوف - شوم، ووقعت اتفاقيات استيراتيجية مع الشقيقة المغرب، وتكثفت الزيارات والمبادلات مع الجزائر التي زار رئيسها نواكشوط في أول زيارة من نوعها منذ ربع قرن، وكان أول رئيس موريتاني يزور الرباط منذ عهد ولد الطايع، وثالث رئيس عربي يلتقيه ملك المغرب منذ ست سنوات، وجرت الزيارة في جو حميمي ينم عن مدى الود وعمق العلاقات بقدر ما يناسب الظروف الصحية التي يمر بها الملك.
وعلى الطرف الآخر من الحدود، تعامل غزواني بكياسة وبصيرة مع التطورات الدراماتيكية التي عرفتها معظم دول الساحل، وحين فرضت دول الإكواس حصارا على مالي رفض الانخراط في سياسة العزل تلك وكانت موريتانيا المتنفس الوحيد للجارة التي تعاني من صعوبات متعددة، رغم قوة الضغوط العالمية والإفريقية، ورغم رعونة مواقف القادة الجدد في مالي وتصرفاتهم المستفزة.
وعلى المستوى العربي الأقل قربا، من الناحية الجغرافية، أعاد العلاقات مع قطر دون أن تتأثر علاقاته الممتازة بالإمارات.
الركيزة الثالثة، استقلالية الموقف الموريتاني، فموريتانيا في رؤية غزواني لا تقايض علاقاتها ولا تجامل الأشقاء والحلفاء على حساب مصالحها.
هذه السياسية الهادئة التي أثمرت ألقا دبلوماسيا غير مسبوق؛ أوصل الرئيس غزواني إلى قيادة الاتحاد الإفريقي دون حملة دبلوماسية استثنائية أو مبالغة في التعبير عن الرغبة في المنصب، ليكون بذلك أول رئيس موريتاني ينتخبه الأفارقة بالإجماع لرئاستهم بعد أقل من عشر سنوات على تولي البلاد الرئاسة الدورية للاتحاد، فقد كانت رئاستها للاتحاد سنة 2013 تلقائية ولو انتظرت دورها لاحتاجت 55 سنة حتى تعود إليها القيادة من جديد. لكن دبلوماسية موريتانيا بأسلوب اللا عداوة حملت شركاءها في منطقة شمال إفريقيا على اقتراحها لرئاسة الاتحاد، وكان هذا الاقتراح محل ترحيب بالإجماع على مستوى القارة.
رغم ضغط الوقت وتزامن الانتداب مع استحقاقات سياسية داخلية وصراعات محتدمة على مستوى القارة، حققت هذه القيادة مكاسب تنموية غير مسبوقة للقارة، بفضل استراتيجية تصفير المشاكل وتوسيع التحالفات والشراكات التي ينتهجها الرئيس غزواني، الذي فهم من أول يوم أن الاهتمام بحل الإشكالات التنموية للقارة لا يمكن أن يختلف عليه اثنان من قادتها، وبالتالي فهو أولى من الانشغال بالخلافات السياسية التي تضر ولا تنفع.
هكذا استطاع أن يعبئ موارد بلغت 100 مليار دولار من أجل مواجهة مشاكل الطاقة في القارة، كما نظم أكثر من قمة تخصصية لمعالجة مشاكل الصحة والتعليم. ومن استمع لشهادات الطواقم المتخصصة للاتحاد الإفريقي بعد مغادرته قيادة الاتحاد يدرك بجلاء دهاء رؤيته؛ واتزان مواقفه ونجاعة مبادراته.
عبد الله سيداتي