يجمع الكثير من المراقبين والمتتبعين لتاريخ الإنقلابات في موريتانيا أن انقلاب الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز على أول رئيس مدني منتخب بشكل ديمقراطي في بلاده.. وانقلابه بعد ذلك على نفسه عبر الإنتخابات لن يكون الإنقلاب الأخير في البلاد نتيجة لعدة
عوامل لعل من أهمها سيطرة الجيش على السلطة في البلد، والغياب التام للديمقرطية المتمثل في عدم احترام الدستور الموريتاني وآليات المشاركة الديمقراطية المحددة في القوانين الموريتانية والخروج عليها بشكل فج من قبل قادة انقلاب 2008.08.06 بعد اتخاذ الرئيس المنتخب سيد محمد ولد الشيخ عبد الله قرارا بإقالتهم بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويمثل خروج قادة الجيش على القائد الأعلى أكبر دليل على ضعف الإنضباط داخل المؤسسة العسكرية في موريتانيا وهو ما يترك الباب مفتوحا أمام كل الإحتمالات خاصة في ظل استمرار نفس المشاكل الإجتماعية والإقتصادية والسياسية... وفي تاريخ موريتانيا الحديث ما يعزز ذلك الطرح.
في بحثه المعنون بــ: ذاكرة الإنقلابات العسكرية في موريتانيا: الصراع على السلطة، مجلة العربية للعلوم السياسية ، بيروت ، العدد 31 صيف 2011 يرسم أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد لبروفيسورمحمود صالح الكروي، لوحة لخمسة عشر انقلابا ومحاولة وافق الحظ بعضها بينما فشل بعضها الآخر.
وانطلق أستاذ العلوم السياسية في بحثه عبر الحديث عن جذور الإنقلابات موضحا أنها لم تقتصر في النصف الثاني من القرن العشرين على القارة الإفريقية وإنما طالت أغلب النظم السياسية في الجنوب مرجعا أسبابها إلى عوامل ثلاث هي:
العامل العسكري الداخلي المميز لطبيعة المؤسسات العسكرية..
العامل الإجتماعي المتمثل في مشكلات التخلف العام التي تسكن عالم الجنوب وهي الموضوع الأكثر التصاقا بالإنقلابات
العامل الخارجي ويعتبر من العوامل الأساسية التي تعجل في حدوث الإنقلابات بما تقدمه من دعم...
ويخلص لبروفيسورمحمود صالح الكروي إلى العنوان الرئيسي في بحثه مؤرخا ومعددا 15 انقلابا ومحاولة..، شهدتها الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وانفردت بها عن سائر النظم العربية والإسلامية.
وقبل أن أدخل في المنهجية التي رسمتها لهذا المقال الذي يمثل قراءة للبحث. سأبدي ملاحظة هامة بالنسبة لي تتمثل في عزوف الباحثين الموريتانيين عن تسليط الضوء على الظاهرة الأكثر شيوعا في موريتانيا فالقارئ لبحث البروفيسورالعراقي يجد كما هائلا من المعلومات عن تاريخ الإنقلابات في موريتانيا، لكنه يتفاجأ من مراجعه فقد اعتمد الباحث على مقالات كتبها أجانب بالدرجة الأولى.. وإن اعتمد كتاب الدكتور محمدالأمين ولد سيد باب (مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا) كمرجع ضمن المراجع التي اعتمد وهو ما يطرح اشكالا رئيسيا حول سبب هذا العزوف..
أولا: الفترة الذهبية لصراع قادة العسكر في موريتانيا على السلطة
في صبيحة 10 من يوليو 1978 بدأت موريتانيا رحلتها الشاقة مع الإنقلابات حيث سيطر قادة الجيش على مقاليد الحكم بقيادة العقيد محمد المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله، وانتهت بذلك فترة الحكم المدني وسيادة الحزب الواحد التي دامت 18 سنة تحت قيادة أول رئيس لموريتانيا المختار ولد داداه رحمه الله.
ويعتمد الباحث في حديثه عن أسباب الإنقلاب على النظام المدني، ذات الأسباب التي أعلنها قادة الإنقلاب والمتمثلة في تفاقم الأوضاع الإقتصادية والسياسية والتذمر داخل الأوساط الشعبية والعسكرية إضافة إلى دخول البلاد في حرب الصحراء الغربية....
لكن قائد الإنقلاب لم يستقر طويلا في الحكم فبعد أقل من عام: قاد ضباط اليمين الشيوعي انقلابا في 6 نيسان ابريل 1979 تم تنفيذه من داخل اللجنة العسكرية بوساطة بعض أعضائها، مثل العقيد أحمد سالم ولد سيد والعقيد محمد محمود ولد أحمد لولي والعقيد الشيخ ولد بيده، وبرئاسة المقدم أحمد ولد بوسيف.
وذلك في ردة فعل على استبعادهم من مراكزهم وشكل قادة الإنقلاب لجنة عسكرية للإنقاذ الوطني لقيادة شؤون البلاد ضمت شخصيات من أهمها المقدم اباه ولد عبد القادر المعروف بـ(كادير)..
وتولى المقدم ولد بوسيف رئاسة الوزراء وشكل حكومته لكن حكمه لم يعمر طويلا إذ تعرضت طائرته للسقوط في المحيط الأطلسي قبالة العاصمة السنغالة داكار في ظروف غامضة يوم 27.05.1979.
بعد مقتل ولد بوسيف تشكلت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني وانتدب المقدم محمد خونه ولد هيداله وزير الدفاع لرئاستها إلى حين انتخاب رئيس في مدة أقصاها شهران، لكن الأخير قاد انقلابا داخليا، وأصدر قرارا بإقالة أنصار ولد بوسيف واسطاع ثلاثة منهم اللجوء إلى المغرب، وعين العقيد محمد محمود ولد لولي رئيسا للدولة يوم 1979.6.3 ، وفي يوم 1980.1.4 قاد المقدم محمد خونه ولد هيداله وزير الدفاع انقلابه الثاني وعين نفسه رئيسا للجنة العسكرية للخلاص الوطني ورئيسا للدولة وترأس الحكومة فضلا عن قيادته لوزارة الدفاع ليعرف انقلابه بانقلاب الإنقلابات.
لكن حكم الرجل القوي في البلاد آن ذاك تعرض لهزات لعل من أبرزها المحاولة الإنقلابية التي قادها الضباط اباه ولد عبد القادر (كادير)، وأحمد سالم ولد سيدي، وانبييغ صبيحة 1981.03.16 إثر قدومهم في كوماندوز قادم من المغرب مقر المعارضة الموريتانية آن ذاك، وقد تمكن النظام من اعتقالهم بعد فشل المحاولة وتم إعدامهم بعد ذلك بأيام قليلة.
وينتمي الضباط الثلاثة إلى (التحالف من أجل موريتانيا الديمقراطية) الذي أسسته مجموعة معارضة لحكم المقدم محمد خونه ولد هيداله في باريس سنة 1980 ويعد من أبرز قادته المدنيين محمد عبد الرحمن ولد امين، والمصطفى ولد اعبيد الرحمن.. وقد انحل هذا التحالف غداة انقلاب ولد الطايع.
بعد فشل المحاولة تخلى ولد هيداله عن مشروع الديمقراطية الذي وعد به العسكر غداة انقلابهم الأول وأعلن نمطا جديدا من المشارك السياسية وأنشأ ما عرف بـ(هياكل تهذيب الجماهير) كأداة للتهذيب السياسي والإقتصادي والإجتماعي... وعين للإشراف عليها النقيب ابريكه ولد ابارك.
ثم قام بتصفية الحركات السياسية السرية ذات الإرتباط بالخارج خاصة حزب البعث المرتبط بالعراق وحركة الناصريين..، وضمن هذا السياق أعلنت الأجهزة الأمنية عبر وسائل الإعلام عن إحباط محاولة لقلب نظام الحكم في أواخر مارس 1983، إلا أن النظام لم يعلن أسماء المتهمين للرأي العام..
ومن أبرز من اتهم في تلك المحاولة النقيب البحري دحان ولد أحمد محمود، ورئيس الحكومة سيد أحمد ولد ابنيجارة، والرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك.... واتهمت الخارجية الموريتانية العراق بالوقوف وراء المحاولة.
ثانيا: انقلاب معاوية وفترة حكمه
يشير لبرفيسور الكروي إلى الدور الكبير الذي لعبته فرنسا والمغرب في إسقاط حكم ولد هيداله، حيث تولى الرئيس الفرنسي ميتران إقناع ولد هيداله بالسفر إلى القمة الإفريقة المنعقدة في بوجنبورا.
ويصف خبراء السياسة انقلاب ولد الطابع بأنه كان جزءا من صفقة سرية بين فرنسا والمغرب تعهدت بموجبها الممكلة المغربية بوساطة لدى الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في حل المشكلة اتشادية الليبية التي كانت فرنسا طرفا فيها.
إضافة إلى ذلك لعبت المشاكل الداخلية دورا كبيرا في تأييد الموريتانيين للإنقلاب وفي صبيحة 1984.12.12 سيطر قائد أركان الجيش معاوية ولد سيد أحمد للطايع على الحكم في البلاد ليتربع على كرسي الحكم قرابة 21 سنة وهي الفترة الأطول من نوعها لرئيس موريتاني، ويرجع المراقبون ذلك إلى إقصاء ولد الطايع للقادة الذين شاركوه تنفيذ الإنقلاب على ولد هيداله..، إضافة إلى اتخاذه بعض الإصلاحات السياسية لعل من أهمها وضع دستور جديد للبلاد، _التي ظلت منذ الإنقلاب الأول تدار بميثاق دستوري قام بوضعه قادة الإنقلاب بعد قرارهم القاضي بوقف العمل بدستور 1961_، كما قرر الإنتقال إلى حكم مدني يتخذ من الديمقارطية والتعددية الحزبية منهجا له، لكن فترة ولد الطايع عرفت هي الأخرى 7 محاولات انقلابية لعل من أبرزها المحاولة التي قادها ضباط زنوج والتي عرفت حينها بالسعي إلى تأسيس دولة الـــ(والو_والو) لكن النظام اكتشفها قبل التنفيذ بثمان وأربعين ساعة يوم 1987.10.2 ، وبعد فشل المحاولة تم وللمرة الثانية في موريتانيا إعدام ثلاثة ضباط من قادة المحاولة، فيما سجن مئات الضباط والجنود من الزنوج مددا تتراوح بين خمس سنوات، والمؤبد.
ومن المفاجئات التي حصلت حسب لبروفيسور محمود صالح الكروي: أن الإنقلاب تم الكشف عنه من قبل ضابط فرنسي بعد أن اطلع على تفاصيله في مقرالإستخبارت الفرنسية التي لم تشأ التدخل في الموضوع، فاتصل بموريتانيا كاشفا الإنقلاب قائلا: (إن ضميره لا يمكنه أن يتحمل المذابح الجماعية ضد ذلك الشعب العربي الطيب الذي زاره ذات يوم).
إضافة إلى المحاولته الأولى سعى الجناح العسكري في حركة افلام الزنجية أيضا إلى انقلاب آخر تم الكشف عنه سنة 1990.
بعد تلك المحاولة شهدت موريتانيا استقرارا بعد إقرار دستور 1991، وتنظيم الإنتخابات الرئاسية التي أفرزت عودة ولد الطايع إلى الحكم..
وفي سنة 2000 أعلن في موريتانيا عن محاولة اتهم فيها الرائد صالح ولد حننه الذي قاد فيما بعد رفقة زملائه في فرسان التغيير الرائد محمد ولد شيخنا، والنقيب عبد الرحمن ولد ميني، والنقيب محمد ولد السالك رحمه الله، ... محاولة هي الأخطر من نوعها ضد نظام حكم معاويه في 8 يونيو 2003 تمكنوا خلالها من السيطرة على العاصمة نواكشوط وجل المرافق العسكرية داخلها لمدة قاربت 48 ساعة، لكنهم فشلوا في إعلان بيانهم الأول وهو ربما ما أدى إلى فشل الإنقلاب إضافة إلى تدخل جهات خارجية لصالح نظام ولد الطايع عبر الدعم التقني للموالين له..، وتسريب بعض المعلومات عن المحاولة للنظام من قبل أحد قادة المحاولة الذي تقاعس في الأخير ليسرع ذلك من تنقيذ العملية الفاشلة.
بعد فشل المحاولة استطاع قادة فرسان التغيير اللجوء إلى الخارج وقادوا محاولات عده ضد نظام معاويه وهو ماسرع بإسقاط حكمه من قبل رجاله المقربين بقيادة رفيق دربه ومدير أمنه لـ20 سنة حكم فيها موريتانيا العقيد اعل ولد محمد فال وعضوية كل من اللواء محمد ولد عبد العزيز الرئيس الحالي لموريتانيا والفريق أول محمد ولد الغزواني القائد العام لقيادة أركان الجيوش الموريتانية حاليا...، حيث أعلن قادة ما عرف في تلك الفترة بالمجلس العسكري للعدالة والديمقراطية عن سيطرتهم على مقاليد الحكم في البلاد صبيحة 2005.08.03 ، وذلك في غياب ولد الطايع الذي كان متواجدا في المملكة العربية السعودية للتعزية في رحيل الملك فهد بن عبد العزيز، ذهب الرجل ليودع ملكا راحلا فودع منصبه...
لم يدم العقيد اعل ولد محمد فال في الحكم أكثر من 19 شهرا حيث سلم الحكم للرئيس المنتخب سيد محمد ولد الشيخ عبد الله مساء 2007.04.19، ويرجع بعض المراقبين تسليم ولد محمد فال للسلطة إلى عدم قبول رفائه في المؤسسة العسكرية بقاءه في السلطة أكثر مما تم الإتفاق عليه، حيث خطط للبقاء فيها عبر ماعرف بالبطاقة البيضاء.
ليبدأ حينها ما عرف بالنوذج الموريتاني...
لكن موريتانيا كان لها موعد آخرمع الإنقلابات في يوم آخر من أيام الشهر الثامن ففي صبيحة 2008.08.06 أعلن الرئيس المنتخب عزل قادة الأجهزة الأمنية بعد ما اعتبره تدخلا منهم في الشأن السياسي..، وهو ما رد عليه القادة بالبيان رقم واحد الذي وقع باسم رئيس المجلس الأعلى للدولة الجنرال محمد ولد عبد العزيز، ألقى البيان قرارات رئيس موريتانيا المنتخب وحل محلها قرار المجلس الأعلى للدولة القاضي بحكم موريتانيا من قبل المجلس..، أخذ الرئيس إلى الإقامة الجبرية في قصر المؤتمرات في نواكشوط وكذا رئيس وزرائه، وأبقى الإنقلابيون على الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والعمل بالدستور الموريتاني المعطل بحكم غياب الرئيس الشرعي وإعطاء صلاحياته للمجلس الأعلى للدولة، في تناقض واضح، وإن كان مسموحا به على الطريقة الموريتانية...
ورغم المعارضة الكبيرة للإنقلاب من قبل قوى المعارضة في البلد خاصة ما عرف في تلك الفترة بالجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي يعد من أبرز قادتها رئيس الجمعية الوطنية رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير ورئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية محمد جميل ولد منصور ورئيس حزب اتحاد قوى التقدم محمد ولد مولود إضافة إلى رئيس الوزراء المطاح به رئيس حزب عادل محمد ولد الوقف...
والتحق بهم فيما بعد حزب تكتل القوى الديمقراطية بزعامة أحمد ولد داداه الأخ الشقيق لأول رئيس لموريتانيا.
رغم كل هذا نظم محمد ولد عبد العزيز انتخابات رئاسية شارك فيها قادة المعارضة واستطاع الفوز في الشوط الأول من الإنتخابات المنظم 2009.07.19 ليعود إلى القصر كما فعل سلفه معاوية في زي مدني بعد فترة حكم بالزي العسكري.
كل هذه المعطيات تدل على أن التجربة الديمقاطية في موريتانيا في أزمة سياسية مستديمة ويقترح أستاذ العوم السياسية بجامعة بغداد البرفيسور محمود صالح الكروي: وضع ميثاق وطني توافقي بين مختلف الفاعلين السياسيين، موالاة ومعارضة يحدد ثوابت توافق وطنية، يمنع بموجبه تكرار الإنقلابات يتم التثقيف عليه، بحيث يصبح من الثوابت الوطنية التي لا يمكن الخروج عليها.
هنا أضيف أنه تم في التعديلات الأخيرة على الدستور كنتائج للحوار الوطني بين الأغلبية الرئاسية المدعمة وبعد أحزاب المعارضة تضمين الدستور تجريم الإنقلابات في موريتانيا، لكن هل يمثل هذا ضمانا حقيقيا لعدم تكرار الإنقلابات من جديد؟ أم أن الإنقلاب متى مانجح يعلن قادته أبطالا وباستطاعتهم نسف الدستور من أساسه..؟
ثم ماهو الفرق بين ما نصحنا به الدكتور الكروي وهو ميثاق يتم التثقيف عليه، وما ضمناه في الدستور..؟
ويلاحظ المتتبع للإنقلابات الناجحة في موريتانيا أنها وإن اختلفت في زمانها تتشابه في أسبابها والظروف المحيطة بتنفيذها، وحتى في مراكز منفذيه فهم في الغالب من المقربين من الرئيس المنقلب عليه..
وقد كرست دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية...، وذلك عائد ربما إلى فشل النخب السياسية في خلق البديل المتمثل في رؤية واضحة بشأن الممارسة الديمقراطية..، وهو ما جعل الديمقراطية في بلادي ديمقراطية العسكر فهو من أتى بها وهي تحت ناظريه متى ما أراد ممارسة هوايته المفضلة انقض عليها وذلك وفق رغبة قادة قواتنا المسلحة وقوات أمننا...
فإلى أين تسير بنا الديمقراطية العسكرية؟ وأين هي النخب القادرة على تقديم البديل والعمل من أجل إيجاد نظام ديمقراطي، يمكن قواتنا المسلحة من لعب دورها النبيل المتمثل في الدفاع عن حوزتنا الترابية..؟.