
يحدث في بعض الأحيان أن افتتح دورة تدريبية بمعلومة شائعة ومتداولة بشكل واسع تقول إن الغزال أسرع من الأسد، ومع أن هذه المعلومة غير صحيحة إذا كانت المسافة قصيرة جدا، إلا أنها صحيحة إذا كانت المسافة طويلة.
فالغزال أسرع من الأسد عندما يطول السباق، وأكثر منه قدرة على المراوغة وتغيير الاتجاه بلياقة كبيرة، وكذلك على القفز برشاقة، وهو قادر على الجري في تضاريس مختلفة، ومع ذلك فإن الأسد يتمكن في كثير من المطاردات في المسافات الطويلة من اللحاق بالغزال وافتراسه، فكيف يحدث ذلك؟
يحدث ذلك بسبب أن الغزال بدلا من أن يركز على هدفه المتمثل في النجاة من افتراس الأسد، وذلك من خلال حسن استخدام نقاط قوته، المتمثلة في طول النفس، والقدرة على القفز برشاقة وتغيير الاتجاه بسرعة، فإنه بدلا من ذلك يُكثر من الالتفات إلى الوراء لمعرفة المسافة التي تفصله عن الأسد، فتتقلص المسافة بينهما بسبب كثرة الالتفات إلى الوراء، وتتحول الالتفاتة إلى الوراء إلى التفاتة قاتلة لأنها تتيح للأسد الذي يظل مركزا على هدفه، أي اصطياد الغزال، أن يقلص المسافة، وأن يلحق بالتالي بالغزال ويفترسه.
لو أن الغزال بعد أن اتخذ قراره بالهروب، وحدَّد هدفه المتمثل في النجاة من افتراس الأسد، لم يلتفت إلى الوراء لكسب المطاردة، ولنجا من الأسد، ولكن كثرة الالتفات إلى الوراء جعلته يخسر حياته، أي أغلى ما يملك.
هذه المقدمة مفيدة جدا للأفراد الذين يريدون أن يطوروا من ذواتهم ويحققوا أهدافهم، فهي تبين ـ وبشكل جلي ـ خطورة التردد على أي شخص رسم هدفا أو اتخذ قرارا بعد دراسته جيدا، وهي مفيدة أكثر للحكومات والدول، ذلك أن الالتفاتة إلى الوراء قد تكون قاتلة لكثير من القرارات المصيرية التي قد تتخذها الحكومات والدول. وحتى لا نذهب بعيدا فإننا نمتلك في بلادنا منجما لا ينضب من الأمثلة التي يمكن أن نقدمها لتأكيد خطورة الالتفات إلى الوراء بعد اتخاذ القرارات الاستراتيجية والمصيرية.
فكم من حكومة موريتانية اتخذت قرارا بمحاربة الفساد، فسجنت مفسدا أو مفسديْن اثنين، ثم التفت ـ لسبب أو لآخر ـ إلى الوراء، فعاد الفساد أقوى مما كان عليه من قبل الإعلان عن محاربته، والسبب في ذلك واضح وجلي، فتردد الحكومة وتراجعها والتفاتها إلى الوراء زاد المفسدين طمأنة، وأكد لهم ـ وبالدليل القاطع ـ بأن الحكومة غير جادة في محاربة الفساد. ما قلناه عن الفساد، يمكن أن نقوله عن القرارات المتكررة التي تم اتخاذها من طرف العديد من الحكومات المتعاقبة بتنظيف العاصمة نواكشوط، من خلال إطلاق حملات تنظيف موسمية، ويمكن أن نقوله كذلك عن القضاء على الأحياء العشوائية، وعن تقريب خدمات الإدارة من المواطن، وعن الحد من الجريمة، والحد من ارتفاع الأسعار، وعن إصلاح التعليم والصحة، واللائحة تطول وتطول.
كل الحكومات الموريتانية المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى اليوم، حاولت أن تعالج هذه الملفات الشائكة، واتخذت قرارات مصيرية بهذا الشأن، ولكنها كانت تلتفت دائما إلى الوراء، فازدادت تلك المشاكل استفحالا، وأصبحت أكثر تعقيدا مما كانت عليه من قبل اتخاذ القرارات بمعالجتها وحلها.
منذ أيام أو أسابيع بدأت الحكومة الحالية بإبعاد المهاجرين غير النظاميين، وترحيلهم إلى دولهم، ولا تخفى أهمية هذا القرار المصيري بالنسبة لبلادنا، وهو قرار مصيري تأخرت الحكومة كثيرا في اتخاذه، واليوم ـ وهذه لابد أن نقولها بأعلى صوت ـ لم يعد أمام الحكومة من خيار إلا الاستمرار في التنفيذ الصارم لهذا القرار المصيري، ومهما كانت الكلفة، إلى أن تعيد آخر مهاجر غير نظامي إلى المعبر الذي جاء منه.
وفي حالة التفت الحكومة إلى الوراء لأي سبب كان، فتوقفت في منتصف الطريق، فسيعني ذلك أن ملف الهجرة غير النظامية سيصبح أكثر تعقيدا مما كان عليه خلال الأيام الماضية، مع الاعتراف بأنه في الأيام الماضية قد وصل إلى الذروة من حيث التعقيد، ولدرجة ضُبِط فيها سائق سيارة إسعاف في مركز "بولنوار" الإداري يوم السبت الموافق 8 مارس 2025 ، وهو يحاول تهريب ثمانية مهاجرين غير نظاميين، وفي نفس اليوم أحرق مهاجرون آخرون نقطة تفتيش للشرطة قرب معبر "كوكي" احتجاجا على ترحيلهم.
إن أي التفاتة إلى الوراء بخصوص ملف الهجرة غير النظامية، في مثل هذا الوقت بالذات، ولأي سبب كان، ستكون بمثابة توجيه رسالة طمأنة غير مشفرة إلى 35 مليون شخص في دول الساحل يرغبون في الهجرة، و150 مليون شخص في منطقة غرب إفريقيا لهم نفس الرغبة، و17 مليون شخص في المنطقة ليست لديهم الرغبة فقط، بل إنهم يتأهبون بالفعل للهجرة، وأخطر ما في الأمر أن غالبية هذه الأعداد الكبيرة جعلت من موريتانيا قبلة لهجرتها المحتملة، وذلك باعتبارها هي الوجهة الأفضل لمن يفكر في العبور أو يفكر في الإقامة.
إن أي التفاتة إلى الوراء في هذا الملف، وفي مثل هذا الوقت الحساس، ستكون قاتلة، وقبل أن أنهي المقال لابد من التنبيه إلى أن أول من استشعر عمليا بخطورة الهجرة غير النظامية إلى بلادنا هم حمالة الميناء (الفئات الهشة)، والذين تظاهروا واحتجوا كثيرا خلال السنوات الماضية، وذلك بعد أن استولى المهاجرون النظاميون وغير النظاميين على مصادر أرزاقهم، فطالبوا بوقف تشغيل الأجانب، وفيهم من طالب بالحد من تدفق المهاجرين.
وبكلمة واحدة، فإن الكل في موريتانيا متضرر من الهجرة غير النظامية، ولكن تبقى الفئات الهشة هي الأكثر تضررا.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
[email protected]