موريتانيا: النمو المتسارع أم الانتحار المتسارع..! / يحيى بن بيبه

تصاعد نزيف واردات موريتانيا من المواد الغذائية حتى تجاوز بكثير مداخيل الخزينة العامة من جميع ثروات البلاد بمختلف أنواعها...!
فما الذي أوصل قطاعنا الزراعي إلى هذا المستوى الكارثي من الفشل في تلبية احتياجاتنا الغذائية حتى إنه لا يلبي منها إلا نحو 30% حسب ما ورد في تقرير لصندوق الأمم المتحدة للتنمية الزراعية صدر سنة 2021؟ ولماذا تحولت موريتانيا من أول دولة عرفت الزراعة في إفريقيا، أو على الأقل في غرب إفريقيا، قبل نحو 5000 سنة، كما يقول علماء الحفريات، من خلال منطقة تيشيت، إلى تذيل دول غرب إفريقيا في هذا المجال؟ وهل إلى حل من سبيل؟ 
تقول الأرقام الرسمية لمكتب الإحصاء الحكومي إن مداخيل الخزينة العامة لسنة 2023، من جميع ثروات البلاد، من سمك وذهب وحديد ونحاس ونفط، ومن أصول الدولة كالبنك المركزي ومطاري انواكشوط وانواذيبوا، بلغت 292,23 مليار أوقية قديمة مثلت نحو 34% من المداخيل العامة، بينما مثلت العائدات من الضرائب 60,4% والباقي هبات.
هذا في حين بلغت فاتورة الواردات الغذائية في السنة ذاتها 379 مليار أوقية قديمة حسب أرقام المكتب الحكومي نفسه.
وهذا ما يعني أن مداخيل البلاد من جميع ثرواتها وأصولها لا تغطي إلا نحو 77% من فاتورة وارداتها الغذائية السنوية، وأن علينا استكمال نحو ربع الفاتورة بالقروض الخارجية...!
فهل هذا وضع رشيد لدولة فقيرة تزداد معاناتها من عبء مديونيتها المتصاعدة وتعاني من حين لآخر من أزمة في تأمين العملة الصعبة لوارداتها الخارجية؟
إن تحليل أرقام الميزانية الوطنية يشي بغياب الإدارة السياسية الجادة لوضع حد لهذا الخلل التنموي الخطير، برغم الأحاديث الرسمية عن أولوية قطاع الزراعة والحرص على تأمين السيادة الغذائية.
فالزراعة ظلت دائما القطاع الفقير الذي لا يصرف له إلا زكاة الميزانية كما هو الحال في الميزانية الماضية المعدلة لسنة 2024، التي لا يتجاوز نصيبه فيها 2,5% مقابل أكثر من 10% للجيش.
وهذا عكس التزامات موريتانيا في إحدى القمم الإفريقية سنة 2010 وهي التزامات قضت بتخصيص الدول الإفريقية 10% على الأقل من ميزانياتها للزراعة.
وهذا الشح في التمويل الزراعي رمى بالبلاد في ذيل دول المنطقة حيث لا يتجاوز إنتاج موريتانيا من الحبوب في الموسم الزراعي الأخير 5،6% من إنتاج مالي و13% من إنتاج السنغال و 0،7% من مجموع إنتاج غرب إفريقيا كما يبين الجدول التالي:
إنتاج موريتانيا ومالي والسنغال ومجموع دول غرب إفريقيا من الحبوبي في الموسم الزراعي 2023-2024
(الوحدة الحسابية مليون طن)
الدولة
الإنتاج السنوي
نسبة إنتاج موريتانيا إلى كل طرف
موريتانيا
0،56

مالي
9،9
5،6%
السنغال
4،25
13%
غرب إفريقيا
76،5
0،7%

أما جارتانا الشماليتان فقفزتهما الزراعية أكبر، وأكثر تنوعا من أن تقاس بإنتاج الحبوب وحدها.
فقد بلغت قيمة الإنتاج الزراعي الجزائري 2022 نحو 35 مليار دولار، بينما ينفذ المغرب حاليا خطة للوصول بقيمة إنتاجه الزراعي إلى نحو 26،5 مليار دولار قبل حلول 2030.
وهذا التأخر الفادح في الإنتاج الزراعي عن ركب جيراننا، الأغنياء منهم والفقراء على حد سواء، مرده إلى تأخرنا الفادح عنهم في الصرف على القطاع الزراعي حيث لا تتجاوز ميزانية موريتانيا للزراعة للعام الماضي (2024) نسبة 18،7% من ميزانية ا لزراعة في مالي، و 33،4 من ميزانية الزراعة في السنغال و 3،7 و 1.3% من ميزانيتي الزراعة، على التوالي في المغرب والجزائر كما هو واضح من الجدول التالي:
ميزانيات الزراعة في موريتانيا ودول الجوار لسنة 2023
(الوحدة الحسابية مليار أوقية قديمة)
الدولة
ميزانية الزراعة 2023
نسبة ميزانية الزراعة في موريتانيا إلى ميزانية الزراعة في كل دولة
موريتانيا
27،4 مليار أوقية قديمة

النسغال
146 مليار أوقية قديمة
(219،4 مليار افرنك غرب إفريقي)
18،7%
مالي
82 مليار أوقية قديمة 
(123،5 مليار سيفا)
33،4%
المغرب
734،4 مليار أوقية قديمة 
(18 مليار درهم مغربي)
3،7%
الجزائر
2007 مليار أوقية قديمة (661 مليار دينار جزائري)
1،3%

وشح حكومات موريتانيا في تعاملها مع الزراعة لا يتجلى فقط في الميزانيات الهزيلة لوزارة الزراعة، وإنما يظهر بصفة أكبر في الانعدام شبه الكامل للقروض الزراعية كما يبين الجدول التالي:

القروض الزراعية في موريتانيا ودول الجوار
(الوحدة الحسابية مليار أوقية قديمة)
الدولة
حجم القروض الفلاحية السنوية
الفائدة السنوية 
المدى الزمني
نسبة القروض الزراعية الموريتانية إلى القروض الزراعية لكل دولة
القرض الزراعي الموريتاني
0،74
(2017)
12%

القصير فقط

البنك الزراعي السنغالي 
187،29
(288،14 مليار سيفا)
موسم22-2023
7%
القصير والمتوسط والطويل 
0،39%
البنك الوطني للتنمية الزراعية في مالي 
156(240 مليار سيفا) سنويا
الفائدة من 8 إلى10% 
القصير والمتوسط والطويل 
0،47%
البنك الجزائري للفلاحة والتنمية الريفية
1801
(586،4 مليار دينار جزائري)
سنة 2023
من سنة إلى 5 سنوات 0%
القصير والمتوسط والطويل 
0،04%
القرض الفلاحي للمغرب
4633
(113 مليار درهم مغربي)2023
5%
القصير والمتوسط والطويل
0،01%

ويعني غياب القروض المتوسطة والطويلة المدى في موريتانيا عدم تمكن المزارعين من اقتناء المعدات الزراعية وأنظمة الري الحديثة. وعدم تمكنهم من إجراء الاستصلاحات المناسبة مما يحد من الإنتاجية.
هذا مع ملاحظة أنني لم أعثر في الانترنت على أية بيانات عن حجم القروض التي قدمها القرض الزراعي الموريتاني للمزارعين خلال السنوات السبع الأخيرة.
وقد طلبت من عدة زملاء التواصل مع موظفي القرض للحصول على البيانات المحدثة، لكن جميع الموظفين الذين تواصل معهم هؤلاء الزملاء اعتذروا "لأن البيانات لا يسمح بالكشف عنها إلا بإذن خاص من المدير".
والسبب في تحول القرض الزراعي في سريته إلى ما يشبه مقر الكاجيبى هو أن مبالغ القروض الزراعية تدهورت بشكل حاد، حتى صار الناس يتندرون بأن عدد موظفي القرض - على قلتهم – يفوقون عدد مراجعيه. وهذا وضع محرج للقرض وللحكومة التي تدعي إعطاء الأولوية للزراعة.
هذا بينما يقول مدير عمليات البنك الدولي في مالي، إن ثلثي التمويل في القطاع الزراعي بمالي مصدره الدولة.
ولايقل حرج موقف موريتانيا، عند مقارنتها بجاراتها من حيث إنتاج الحبوب وميزانيات الزراعة، وحجم القروض الزراعية، عن حرج موقفها عند المقارنة مع جاراتها من حيث مستوى الدعم المقدم للزراعة. والمقصود بالدعم المبالغ التي تدفعها الحكومات من تكلفة الزراعة حتى تصبح عملية الإنتاج الزراعي مشجعة، أو على الأقل مجدية اقتصاديا للمزارعين.
وإذا كانت حكومة السنغال سلمت لمزارعيها، فقط في عهد ماكي صال 2700 جرار مدعوم لا يدفع من ثمنها المزارع إلا نحو 3.000.000 أوقية قديمة، فإن ببكر كيتا سلم لمزارعي مالي، في عام واحد، 1000 جرار مدعوم دفعت الدولة نصف ثمنها عن المزارعين، معلنا أن ذهب مالي الذي تعول عليه هو الذهب الأخضر، أي الزراعة، وليس الذهب الأصفر الذي تحتل المكانة الرابعة في إنتاجه على مستوى إفريقيا.
والغريب أن الحكومة الموريتانية ظلت تفرض رسوما جمركية تصل إلى 26% على الأسمدة الزراعية، ولم تخففها إلا في العام الماضي حيث أنزلتها إلى 3%.
وما زال المزارعون يدفعون ضرائب عالية على المحروقات ومع ذلك تقول الحكومة أنها تدعم الأسمدة الزراعية بما يتراوح بين 37 و50% ، لكن الفساد الذي يصاحب الصفقات العمومية في بلادنا يرفع التكلفة ويمتص الدعم الحكومي كله، أو جله على الأقل .
ومع عدم توفر بيانات على الانترنت عن مبالغ الدعم الحكومي على الأسمدة، سنعتمد تصريحا لوزير الزراعة يقول إن هذا الدعم بلغ خلال الحملة الأولى من موسم 2021-2022   4،74 مليار أوقية، وهو ما يعني 9،48 مليار سنويا إذا ما وضعنا في الاعتبار الدعم في الحملة الثانية. هذا بينما بلغ الدعم الحكومي السنغالي على المدخلات الزراعية وحدها 120 مليار افرنك سيفا (78 مليار أوقية قديمة) وذلك في الموسم الماضي 2023-2024.
أما مالي فبلغ الدعم على المدخلات فيها 43 مليار افرنك سيفا ( نحو 28 مليار أوقية قدمية) وذلك في ميزانية 2020.
وفي ميزانية الجزائر الماضية (2024) تم رصد 172 مليار دينار جزائري(514 مليار أوقية قديمة) لدعم الشعب الزراعية  ذات الأهمية الاستراتيجية ، بينما رصد المغرب 4 مليارات درهم (164 مليار أوقية قديمة) لدعم سلاسل الإنتاج.
هذا عن الدعم الزراعي، أما عن التأمين الزراعي فإن موريتانيا هي الدولة الوحيدة من بين جميع جيرانها التي لا يتوفر فيها أي تأمين زراعي يحمي المزارع من الكوارث.
 ولنكتف، إيثارا للإيجاز، بمثال السنغال حيث تتولى (CNAAS) وهي شركة بين القطاعين العام والخاص التأمين الزراعي ضد الجفاف والحرائق وموجات الحر والفيضانات والامطار الغزيرة وغزو الجراد وحتى نفوق الحيوانات.
وتتولى الدولة نصف الرسوم المطلوب دفعها من قبل المزارعين.
وقد دفعت هذه المؤسسة سنة2022      1،5 مليار سيفا تعويضا عن الاضرار التي لحقت بالمزارعين في تلك السنة.
ويبلغ عدد المؤمنين في الشركة 612529 شخصا.
وخلاصة القول أن زراعتنا إلى المقارنة مع زراعة الهنود الحمر في حضارة المايا قبل أكثر من 2000 سنة، اقرب منها إلى المقارنة بالزراعة في دول الجوار. وأننا نهدم دولتنا بأيدينا وأيدي الموردين، لأننا نقوم بالزراعة خارج التاريخ.
(للمقارنة بين زراعتنا وزراعة الهنود الحمر يمكن أن تراجع على كوكل مقالنا: موريتانيا الزراعة على طريقة الهنود الحمر).
 

18. مارس 2025 - 17:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا