الطريق إلى الحوار / بابا آدّو

ورقة تمهيدية حول الحوار الوطني المرتقب في موريتانيا (أفكار ومقترحات)

أعلن الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في التاسع من مارس الجاري عن إطلاق حوار شامل خلال الأسابيع المقبلة؛ جاء هذا الإعلان خلال مأدبة إفطار نظمها رئيس الجمهورية بحضور ممثلين عن الأحزاب السياسية من الموالاة والمعارضة، إضافة إلى المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ورغم تأكيد الرئيس أن الحوار لن يستثني أحدًا، كما سبق أن أعلن أنه لن يستثني أي موضوع، إلا أنه لا يزال من غير الواضح ما إن كان الهدف من هذا الحوار هو معالجة القضايا الوطنية الكبرى، بما في ذلك قضايا الوحدة الوطنية، أم أنه سيكون مجرد حوار سياسي يقتصر على الأحزاب السياسية ويركز على بعض جوانب العملية السياسية، كما كان الحال في تجارب سابقة عرفها البلد.
يأتي هذا الحوار عقب تعهد الرئيس الغزواني خلال حملته الرئاسية، وبعد فشل محاولة إجراء حوار سابق في مأموريته الأولى. كما يندرج ضمن سلسلة طويلة من جولات الحوار التي شهدتها البلاد منذ بداية التحول الديمقراطي في التسعينيات؛ بعضها نجح في الخروج بتوصيات أثرت على العملية السياسية، بينما لم يُكتب النجاح لأغلبها.
في هذه الورقة الموجزة، نحاول الإسهام في النقاش العمومي حول الحوار المرتقب، بهدف إثراء النقاش، وتحفيز النخبة للمشاركة فيه، حتى يتحول الحوار من مجرد عملية محدودة مقتصرة على دائرة ضيقة من السياسيين إلى حوار مجتمعي شامل، كما سنعرض هنا أفكارا ومقترحات عملية قد تساعد القيمين على الحوار في إخراجه من دائرة التيه والتلاعب السياسي واحتمالات الفشل، مستفيدين من تجارب دول أخرى في تنظيم الحوارات الوطنية، إضافة إلى دراسة الحوارات السابقة في البلاد من واقع متابعة مجرياتها عن كثب والمشاركة عن قرب في أعمالها أحيانا.

أولا: مسوغات الحوار
قد يرى البعض أن السلطة الحاكمة غير ملزمة بإجراء حوار وطني، لا سيما في ظل غياب أزمة سياسية أو اجتماعية حادة، خاصة بعد انتخابات تشريعية ورئاسية شاركت فيها مختلف الأطراف السياسية. ومع ذلك، نرى أن الحاجة إلى الحوار تظل قائمة لعدة أسباب جوهرية:
وجود قضايا وطنية عالقة:  ما تزال ملفات مهمة مثل تسوية الإرث الإنساني، ومكافحة العبودية ومخلفاتها، وتعزيز التعايش بين مكونات المجتمع، والتوزيع العادل للثروة،....إلخ، تُطرح بإلحاح، مما يستدعي نقاشا جادا لإيجاد حلول دائمة لها.
زيادة حدة التناقض الاجتماعي: في ظل غياب دولة العدل والقانون التي تضمن المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وفي ظل غياب هوية وطنية جامعة، يلجأ أغلب الأفراد إلى الاحتماء بهوياتهم الفرعية – هويات ما دون الدولة (القبيلة – الإثنية – الشريحة الاجتماعية) - والانخراط بالتالي في صراع هويات قد يتسبب في انفراط عقد المجتمع.
أزمة الثقة في العملية الديمقراطية:  تعاني المؤسسات السياسية من أزمة ثقة متجددة، فمنذ انطلاق المسلسل الديمقراطي ظلت نتائج الانتخابات محل رفض دائم، ومصدر نزاع بين المتنافسين، ولم  تحظ في يوم من الأيام بالرضى ولا بالقبول من قبل الرأي العام الوطني عموما حتى أصبح التشكيك في نزاهة الانتخابات القاعدة الثابتة بعد كل استحقاق.
تصاعد الاحتجاجات:  بات تكرار المظاهرات والاحتجاجات العنيفة بعد إعلان نتائج كل انتخابات السمة البارزة خلال السنوات والعقود الماضية، ما يعكس هشاشة الاستقرار السياسي وضرورة إيجاد آليات توافقية للحد من التوتر الدائم، الذي قد يتحول إلى عنف يهدد الاستقرار والسلم الأهلي.
إن هذه العوامل وغيرها تجعل من الحوار الوطني ضرورة ملحة لإصلاح المشهد السياسي، ولتعزيز الجبهة الداخلية في وجه تحديات خارجية وداخلية كثيرة، ولإعادة الثقة بين مختلف الأفرقاء، وللبحث عن حلول مستدامة للقضايا الوطنية العالقة. ففي السياقات التي تفشل فيها العملية السياسية ومؤسسات الحكم في احتواء الخلافات، يصبح الحوار الوطني فرصة لإعادة بناء هذه المؤسسات على أسس قوية وصحيحة و لترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع. 

ثانيا: في سياق التحضير للحوار 
تمثل مرحلة التحضير للحوار عاملا حاسما في إنجاحه، بل قد تكون أهم من الحوار نفسه، ومن الضروري أن تتسم  هذه المرحلة بالشفافية والشمول منذ بدايتها لضمان ثقة المشاركين، وقد جرت العادة أن لا تُعقد المفاوضات والحوارات – سواء أكانت دبلوماسية أم سياسية أم اجتماعية – إلا برعاية دولة (أو دول)، أو في ظل مؤسسة محترمة ذات صدقية، ولأن المؤسسات مثل الأبنية منها ما يُبنى على مهل بعد أن توضع له الأسس والقواعد المتينة، ومنها ما يُبنى وينصب على عجل كالخيام دون أن يمنعه ذلك من أداء وظيفته فإن التسرع والرغبة في تسوية القضايا العالقة يجب أن لا يدفعنا إلى إجراء حوار في العراء خارج الأطر والمؤسسات التي يمكن أن توفر له البيئة المناسبة للنجاح، وعليه فإننا نقترح على مختلف الفرقاء السياسيين - قبل الانخراط في الحوار المرتقب - التوافق على تنصيب هيئة وطنية مستقلة تعنى بالحوار ويعهد إليها بمهمة التحضير له، والإشراف على جلساته، وتنفيذ قراراته وتوصياته، على أن تضم في عضويتها شخصيات وطنية مستقلة مشهود لها بالاستقامة والحياد والنزاهة الفكرية، بالإضافة إلى خبراء وأكاديميين من أصحاب الكفاءات في ميادين السياسية والقانون والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية.
ولضمان استمرارية الحوار وعدم اقتصاره على مناسبات سياسية محددة يجب أن تتحول هذه الهيئة إلى مؤسسة دستورية ذات مهمة دائمة، تتحمل مستقبلا مسؤولية وضع الآليات الضرورية لإنجاح الحوارات الوطنية، وتوفير إطار مستدام للنقاش بين الأحزاب، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، ومختلف الفاعلين الآخرين بهدف فض النزاعات، وإدارة الخلافات، وتحقيق توافق حول القضايا الوطنية الكبرى.

ثالثا: عن موضوعات الحوار
لا تسعى هذه الورقة إلى اقتراح أجندة جاهزة للحوار، أو تقديم حلول للقضايا التي يمكن التحاور بشأنها، وستكتفي بفرز الملفات وتصنيفها لتسهيل تناولها من قبل المتحاورين، وبالنظر إلى طبيعة الملفات والقضايا المطروحة نعتقد أن البلاد بحاجة إلى مستويين من الحوار مختلفين لكنهما مترابطان في الوقت ذاته:
حوار وطني شامل: يتناول القضايا الكبرى: كمعالجة الإرث الإنساني، ومكافحة العبودية ومخلفاتها، والتفاوت الطبقي الناتج عن اختلالات في العقد الاجتماعي، وقضايا الحكامة الاقتصادية،.....إلخ، ويتوقع من هذا الحوار أن ينتج حلولًا ومعالجات جذرية لهذه القضايا، التي قد تهدد الكيان الوطني في سياق إقليمي مضطرب.
حوار سياسي: يتعلق بالإصلاح الديمقراطي ويهدف إلى إصلاح جذري وعميق للمنظومة السياسية، وتحسين للعملية الديمقراطية، وإيجاد المقاربات المناسبة لضمان الحوكمة الرشيدة، ومكافحة الفساد، وتعزيز سيادة القانون. ومن بين المحاور التي ينبغي التأكيد على معالجتها على وجه الخصوص؛ مراجعة وإعادة النظر في  قانوني الاحزاب والانتخابات، وتحديد العلاقة بين الجيش والسياسة.

رابعا:  حول الأطراف المشاركة في الحوار
حسب تجارب شعوب ودول مختلفة فإن نجاح الحوارات الوطنية مرهون بشمولية المشاركة وشفافيتها، وباستيعاب كافة وجهات النظر دون إقصاء أي طرف. ومع ذلك – ومن تجارب الحوارات السابقة في بلادنا -  من الضروري وضع معايير واضحة وعادلة تضمن التوازن بين تمثيل أوسع للأطراف المختلفة، وبين حضور وازن وفاعل للأحزاب والمجموعات السياسية ذات الثقل الشعبي. وذلك لتفادي تمييع الحوار، وإغراق جلساته بأعداد كبيرة من المشاركين الذين لا يمثلون رأياً مسموعا داخل المجتمع. 
كما تختلف الأطراف المعنية بكل مستوى من مستويات الحوار حسب أجندات النقاش، والملفات المطروح على الطاولة؛ ففي حين يُتوقع أن يكون الحوار السياسي أقرب إلى المفاوضات، وتقتصر المشاركة فيه على ممثلي الأحزاب السياسية، فإن الدعوة للمشاركة في الحوار الوطني الشامل يجب أن توجه للفاعلين الجادين في المجتمع المدني، وللنشطاء المعروفين بالدفاع عن قضايا النساء والشباب، بالإضافة إلى قادة الرأي من الكتاب والإعلاميين والأكاديميين.

خامسا: حول منهجية و آليات تنظيم جلسات الحوار
من الترتيبات الضرورية لإنجاح أي حوار اتباع منهجية محددة في إدارته تُسهل التفاعل الإيجابي بين المتحاورين، وكلما اتسمت هذه المنهجية بالعلمية والعملية، أصبحت عاملاً مساعداً على إبراز النقاط المشتركة وفتح الطريق إلى التفاهم والاتفاق. ونظراً لأهمية وضع الآليات الكفيلة بضبط وتنظيم الحوار، وهي مهمة لا يمكن لفرد أو مجموعة أفراد النهوض بها بمفردهم، فإننا نقترح في هذه الورقة استحداث مؤسسة مستقلة ومحايدة تمتلك الموارد البشرية والمادية الضرورية لرعاية الحوار والإشراف على تنظيمه وضبط إيقاعه. وبعد تنصيب هذه المؤسسة، يمكنها إطلاق تشاور مع ممثلي الأطراف المشاركة للتوافق على أجندة الحوار ووضع القواعد الناظمة لسيره، ومن النقاط التي قد تساعد في بناء منهجية فعالة في هذا المجال نذكر - على سبيل المثال لا الحصر- عشرين نقطة رئيسية موزعة على المحاور التالية:  
المحور الأول: الترتيبات الأساسية للحوار
تحديد الهدف الأساسي والأهداف الفرعية للحوار.
تحديد مكان انعقاد الحوار (مكان يوفر بيئة آمنة ومريحة).
التأكيد على التمثيل العادل والمتوازن بين الأطراف المشاركة في الحوار الوطني الشامل (سياسيون، مجتمع مدني، قادة رأي).
التأكيد على التمثيل المتساوي بين الموالاة والمعارضة على مستوى الحوار السياسي.
إعداد ونشر قائمة بأسماء وصفات المشاركين والجهات التي يمثلونها، مع الحرص على تحقيق التمثيل العادل وتجنب الإقصاء.
المحور الثاني: موضوعات الحوار وآلياته
وضع جدول زمني واضح للحوار، يشمل تاريخ انطلاقه، مدته، وعدد ورشاته، بحيث يكون كافيًا لمناقشة جميع القضايا المطروحة، مع ضمان منح المشاركين الوقت الكافي لعرض وجهات نظرهم.
تحديد عناوين الورشات والموضوعات التي سيتم تناولها داخل كل ورشة.
إعداد ونشر قائمة بالملفات والقضايا التي سيتم تناولها خلال الحوار، على أن تكون واقعية وقابلة للمناقشة ضمن الإطار الزمني المحدد.
إعداد ونشر قائمة بأسماء الشخصيات الوطنية المستقلة التي ستقود جلسات الحوار (رؤساء الجلسات والمقررون)
تحديد عدد الجلسات المتضمن في كل ورشة، وإعداد جدول أعمال الجلسات بحيث يوزع على المشاركين قبل انطلاق أعمال كل جلسة.
المحور الثالث: المبادئ والقواعد المنظمة للحوار
التأكيد على الالتزام بقيم الحوار (التقيد بالموضوع، احترام الرأي المخالف، المرونة في التعاطي، احترام الوقت، إلخ).
وضع الآليات الضرورية لضمان حرية التعبير، واحترام الآراء المختلفة، وعدم ممارسة أي ضغوط على المشاركين.
توفير الترجمة الفورية، بحيث يتمكن كل مشارك من التعبير عن رأيه بحرية تامة، وبالطريقة التي تناسبه.
تحديد الآليات الضرورية لضمان العدالة عند توزيع الوقت بين المتدخلين.
إعطاء الوقت الكافي لمناقشة كل الموضوعات، وفي حال تعذر الاتفاق حول بعض القضايا والملفات المطروحة، يمكن للقائمين على الحوار تشكيل لجنة حكماء لتقريب وجهات النظر.
المحور الرابع: آليات اتخاذ القرارات وتوثيق الحوار
وضع آليات واضحة لاتخاذ القرارات، مثل التصويت أو الإجماع أو التوافق.
وضع آلية مناسبة لكتابة المحاضر وتوثيق أعمال الجلسات، وتسجيل كافة المداخلات والقرارات والتوصيات.
المحور الخامس: التواصل مع المجتمع والمتابعة
إطلاع الرأي العام الوطني على نتائج الحوار أولًا بأول، عبر بيان يومي يصدر عن المؤسسة الراعية للحوار.
فتح المجال للتواصل الفعّال مع المواطنين، وإشراك وسائل الإعلام، واستطلاع آراء المجتمع حول القضايا المطروحة.
وضع آلية واضحة لمتابعة تنفيذ القرارات والتوصيات التي سيتوصل إليها في الحوار.

إن الحوار الوطني يمثل بالفعل فرصة ثمينة لمعالجة التحديات التي تهدد الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي ومستقبل التجربة الديمقراطية في البلد، بشرط أن يتحلى المشاركون فيه من الموالاة والمعارضة بالمسؤولية الأخلاقية وأن يكونوا مدركين للتحديات الحقيقية التي تواجه البلاد. إن حجم هذه التحديات لا يسمح لنا بالاستمرار في الدوران داخل الحلقة المفرغة التي جعلت الحوارات السابقة مجرد أدوات بيد السلطة الحاكمة للتحكم في المشهد السياسي، وفرصًا لبعض السياسيين لتحقيق مكاسب شخصية. ولتجنب تكرار هذا السيناريو العبثي، لا بد من إعداد الحوار بشكل جاد ومنهجي، وإسناده إلى هيئة وطنية مستقلة، وذات صدقية، تتولى رعايته وتنظيمه بطريقة شفافة وسليمة، وتضع له الآليات الكفيلة بتنفيذ مخرجاته عمليًا، ليكون خطوة حقيقية نحو التغيير، لا مجرد تكرار ممل لتجارب سابقة ضاع فيها عقد أو يزيد من عمر الوطن.

بابا آدّو / باحث في العلوم السياسية – جامعة فلوريدا 
الدكتور / الشيخ أحمد دومان/ طبيب و كاتب مهتم بالشأن السياسي الموريتاني

 

20. مارس 2025 - 9:36

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا