لقد عظم الله نبيه محمدا ــ صلى الله عليه وسلم ــ واختاره بأن اصطفاه من سائر خلقه ــ علما أن اختيار الرسل أمر يختص به ولاعلاقة له بمقاييس البشر ــ ليكون رسولا منه ، محملا إياه الرسالة الخالدة ، التي قامت على إسعاد البشرية جمعاء ، وجلبت لهم كل أنواع الخير ، مجسدة بذلك مثلى عليا ، ظلت مفقودة إلى أن بزغ نجمه الساطع وضائت بضيائه كل أرجاء الكون ، معلنة بذلك عن صبح جديد مشرق ، حول الناس من أنواع الظلام والضيق ــ الذي عاشوه ــ إلى النور الساطع وسعة الأفق.
تلكم هي رسالته ــ صلى الله عليه وسلم ــ القائمة على الوسطية والإعتدال ، الخاتمة لما سبقها من الرسائل الناسخة المهيمنة عليها ، وهو الأمر الذي جعلها صالحة لكل زمان ومكان ، وهي الرسالة والشريعة العامة التي دعت جمــــــيع البشر إلى اتباعها ، ومسايرتها والإيمان بها ، قال جل من قائل : ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)) سورة ، سبأ ، الآية : 28.
وقد كان لهذا الرسول الأعظم ورسالته السمحة ــ التي جاء بها ــ الأثر البــــــالغ في نفوس الأمة ، وإن كان ــ هذا الأثر ــ لا يستغرب ممن أيد ونصر بأنواع المعجزات البــــاهرة ، التي لم تكن تخطر على ذي بال. ولله در ابن ثابت حين قال في حقه : نَبِيٌّ أَتانــــــــــــــــــــــا بَعدَ يَأسٍ وَفَترَةٍ *** مِنَ الرُسلِ وَالأَوثانِ في الأَرضِ تُعبَدُ
فَأَمسى سِراجاً مُستَنيراً وَهادِياً *** يَلوحُ كَما لاحَ الصَقيلُ المُهَنَّدُ
وَأَنذَرَنــــــــــــــــــــــــــــــا نـــــاراً وَبَشَّرَ جَنَّةً *** وَعَلَّمَنـــــــــــــــــــــــا الإِسلامَ فَاللَهَ نَحمَدُ
هذا وإن الأثر الذي تركه نبي الرحمة محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ على أمته ، منه ما تجسد في آثار دينية ، وأخرى دنيوية. آثار النبي الأعظم ــ صلى الله عليه وسلم ــ الدينية وتتمثل في أمور ، منها :
ــ ظهور الإسلام وتغييره لحياة العرب تغييرا جذريا جعلهم يرتاحون له ، وإبطاله لأنواع الشرك وصوره التي كانت ــ أنذاك ــ سائدة ، إضافة إلى ماقام به من تحرير للإنسان من ماكان يعيش فيه من عقائد فاسدة وخزعبلات لاتتماشى وروح الإيمان ، لتبقى العبادة لله الواحد الأحد. ــ ما امتازت به هذه الرسالة والعقيدة الإسلامية من صفاء وموافقة لأصحاب العقول والفطر السليمة النقية ، وخلوها من كل أنواع التعقيد والغموض.
ــ كما أنها امتازت أيضا بميزة لم تعهد في دين من الأديان الأخرى ، ألا وهي : تحول الأفراد والجماعات عن أديانهم ــ التي شاءت الأقدار أن يعتنقوها ــ إلى هذا الدين ، ولعل هذه من أكبر الميزات التي لم تشهدها ديانة أخرى قط ، وهذا ما نبه عليه عباس محمود العقاد ــ في كتابه : (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) قائلا ــ : "وهي التي أفردت الإسلام ــ أي : العقيدة ــ بميزة لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية ، فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا جماعيا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضا والاقتناع ، إذ كان المتحولون إلى المسيحية أو اليهودية قبل في أول نشأتها أمما وثنية لاتدين بكتاب ، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد ، أو الإله الخالق المحيط بكل شيء ، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها إلى دين كتابي غير الإسلام ، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر ، وفارس ، وفارس : أمة عريــــقة في الحضارة ، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس ، وصقلية ، ومن أهل النوبة الذين غبروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة ، ورغبهم جمــــيعا في الإسلام ذلك الشمول الذي يعم النفس والضمير ، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان" ، وهذا ــ لاشك ــ مصداقا لقوله تعالى : ((وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(( سورة ، النصر ، الآية : 2.
ولا يخفى من أن الآية صــــالحة لأن تحمل على عموم الزمن ، بناء على دلالة الحديث الصحيح ــ الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان ، وغيرهما ــ ونصه : ((لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا بر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، إما يعزهم الله ــ عز وجل ــ فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها)).
ولعل من أجلى صور عظمة الإسلام ورسالته المميزة ، ما يحدثنا به د حسن إبراهيم ــ في كتابه : (تاريخ الإسلام السياسي) نقلا عن رسائل الإصلاح ، لمحمد خصر حسين ــ من أنه لا يعرف من بين ما نزل به من الخطوب والويلات خطبا أشد هولا من غزوات المغول ، فقد انسابت جيوش جنكيز خان انسياب الثلوج من قمم الجبال واكتسحت في طريقها الحواضر الإسلامية ، وأتت على كل ماكان لها من مدينة وثقافة لم يتركوا وراءهم من تلك البلاد سوى خرائب وأطلال بـــالية ، على أن الإسلام لم يلبث أن نهض من تحت أنقاض عظمته الأولى ، وأطلال مجده التــــالد ، واستطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين المتبربرين ويحملهم على اعتناقه ، وبينما كان المغول يغيرون على بغداد وينهبونها عام 656هـ ويحتلون بيت الخلافة من بني العباس ويغرقونه بالدماء ، وبينما كان فرديناند يكتسح بقايا المسلمين في قرطبة عام 634هــ ويرغم غرناطة وهي المعقل الأخير للمسلمين في الأندلس على أداء الخراج... كان الإسلام يظفر في خلال ذلك بالتقدم والانتشار في جزائر سومطة".
ومعلوم ــ والحمد لله ــ أن أتباع الرسالة المحمدية اليوم هم الأكثر عددا ، كما أن عددهم في ازدياد دائم ، ولعل السر في ذلك هو فقدان غذاء الروح الذي لاغنى للبدن بدون ، مع ماتعانيه الحضارة الغربية من إفلاس وتدهور ســــــافر لم يعد يخفى على أتباعها ، أحرى غيرهم.
وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا من أنه لا يعرف خروج للمسلمين من دينهم وتركهم لرسالته العظيمة الخـــالدة ــ بعد أن من الله عليهم بالإيمان ــ تحت أي ظرف ، وإن كان من ارتداد لبعض الأفراد ، فإنه يكاد يعد على رؤوس الأصابع لقلته. كما لا يخفى أن من الآثار الجليلة التي تركها لنا النبي الأعظم ــ صلى الله عليه وسلم ــ هو ما مثلته الرسالة المحمدية من وسطية واعتدال ، وذلك بعد أن أغرقت اليهودية في المادة العاتية ، والمسيحية في الروحانية والرهبانية ، وجاء هو بهذا الدين الحنيف والرسالة الخاتمة ، صانعا بذلك أمة وسطا ، ظلت بعيدة عن حدي الغلو ، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) سورة ، القصص ، الآية : 77. هذا كله إضافة لما يتسم به هذا الدين العظيم من آثار تجلت في طمأنينة النفس وإحياء القلوب ، بما يجعلها على اتصال دائم بربها ، وينبهها حين تركن لما لاينبغي الركون إليه ، قال تعالى : ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) سورة ، الأنعام ، الآية : 122. ومن هذا نعلم ــ علم اليقين ــ أن العقيدة الإسلامية هي وحدها التي تملأ نفوس المؤمنين الطمأنينة والسكينة وكل ماله بهما صلة ، مما يشعر براحة البال ويساهم في إبعاد اليأس ، وهذا مانجده في قول جل من قائل : ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) سورة ، الرعد ، الآية : 28. وكل من يحمل هذه الرسالة العظيمة ــ التي جاء نا بها الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ الأعظم الأكرم ، هو من يؤمن ويرضى بقضاء الله وقدره ، لا يجزع إن مسه الشر ، ولا يمنع إن مسه الخير ، ولايندم على مافات لعلمه أن لاراد لقضاء الله وقدره ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وهذا ماجاء في معناه وحصل عليه التواتر في كثير من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة ، فمن الآيات قوله جل من قائل : ((لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) سورة ، الحديد ، الآية : 23. ومن الأحاديث النبوية الشريفة قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ : (((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له))). الآثار الدنيوية وكما كان للنبي الأعظم ــ صلى الله عليه وسلم ــ ورسالته ، آثارا دينية ، فقد كانت له أيضا آثارا دنيوية ، منها : ــ تغيير الحالة التي كان العرب يعيشونها في الجاهلية ، والمتمثلة في سيادة القوي وهيمنته ونظرته الدونية للضعيف ، وتولية الناس للأمور العامة على أساس طبقي... إلخ. ومعلوم أن العالم كان قبل ظهور الإسلام يعيش أحلك الظروف العصيبة ، ويعاني العرب من اطهاد ، ولامكان لهم ولاوزن ، وبي الحال على ماهو عليه ، إلى أن جاء نور الإسلام وانقشع الظلام به وببعثة الحبيب المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم ــ التي أزالت كل الحجب وتركت آثارا عظيمة بادية للعيان ، شملت جمــــيع مناحي الحياة ، ومنها ــ على المستوى الاجتماعي ــ أمره بالعدل والإحسان ومراعاة جوانب الإنصاف ــ في كل مايقام به ــ والحث على التآخي والألفة والتصافي ، بعد أن عاش المجتمع كل مظاهر الشقاق والخلاف وساد فيه التفاوت القبلي والطبقي واستشرت فيه كل الرذائل والأوصاف غير الحميدة ، فجعل هو ــ صلى الله عليه وسلم ــ برسالته السمحة القائمة على الأخلاق والقيم النبيلة ، لكل فرد حقوقا ، وكلفه بواجبات ، وأعطىاه كــــــامل الحرية ، ونظم الأسرة وأحسن بناء أسسها بناء يقوم على المحبة والتعارف والألفة ، معززا ذلك بميزان التفاضل القائم على التقوى والقرب من الله. ومن المعلوم أن الطفلة كانت ــ قبل بعثته ــ صلى الله عليه وسلم ــ توأد في مهدها ، ولاحق للمرأة ــ أيا كانت ــ في ميراثها ، بل أكثر من ذلك ، يرون أنها تعد عارا يعاب بهيا أهلها ، ولامكانة لها ولاقيمة في المجتمع.
ومن هنا تظهر آثار الإسلام وعظمة هذا النبي الأعظم ، التي تركها لأمته ، ذلك أنه أعطى المرأة كـــامل حقوقها ، بعد أن ظلت مهانة محتقرة ، فأثبت لها الميراث ، وترك لها الخيار والحرية فيمن أرادت أن يكون لها زوجا ، بل وقنن النبي الأعظم ــ صلى الله عليه وسلم ــ هذا كله بقوله : (((إنما النساء شقائق الرجال))).
وهذه الآثار العظيمة الواضحة ، التي تركها نبي الرحمة ــ صلى الله عليه وسلم ــ بعد بعثته ، هي التي أشاد بها علماء الغرب ومفكريه ، فضلا عن علماء المسلمين وفلاسفتهم. فهذا فارس الخوري يقول ـ في ص : 20 ، من كتابه : (ماذا قال الغربيون والمنصفون في الإسلام والمسلمين) ــ : "إن محمدا أعظم عظماء الأرض سابقهم ولاحقهم ، فقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم ، وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العالم ، وجاء لها بأعظم ديانة ، عينت للنساء حقوقهن وواجباتهن وأصول تعاملهن ، ، تعد من أنقى دساتير العالم وأكملها".
ويقول عالم الإجتماع غوستاف لوبون ــ في كتابه : (حضارة العرب) ــ : "إنني لا أدعو إلى بدعة محدثة ، ولا إلى ضلالة مستهجنة ، بل إلى دين عربي قد أوحاه الله إلى نبيه محمد ، فكان أمينا على بث دعوته بين قبائل تلهت بعبادة الأحجار والأصنام ، وتلذذت بترهات الجاهلية ، فجمع صفوفهم ، بعد أن كانت مبعثرة ، ووحد كلمتهم بعد أن كانت متفرقة ، ووجه أنظارهم لعبادة الخالق ، فكان خير البرية على الإطلاق حبا ونسبا وزعامة ونبوة ، هذا هو محمد الذي اعتنق شريعته أربعمائة مليــــــون مسلم ، منتشرين في أنحاء المعمورة ، يرتلون قرآنا عربيا مبـــــــينا"
كما يقول ــ أيضا ــ السويسري ماكس فان برشم : "إن محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية ، وإن افتخرت آسيا بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم ، إن من الظلم الفـــــادح أن نغمط حق محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي جاء من بلاد العرب وإليهم ، وهم على ماعلمناه من الحقد البغيض قبل بعثته ، ثم كيف تبدلت أحوالهم الأخلاقية والاجتماعية والدينية بعد إعلانه النبوة ، وبالجملة مهما مهما ازداد المرء اطلاعا على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مستوى الإنسانية ، أنه لايجوز أن ينسب إلى محمد ماينقصه ويدرك أسباب إعجاب الملايين بهذا الرجل ويعلم سبب محبتهم إياه وتعظيمهم له".
إن القارئ لما جاء في مضمون هذه الشهادات لحري به أن يقف حائرا ، ليزداد إعجابا وقربا ونصرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن عظيم آثار نبي الرحمة على المستوى السياسي ، أنه كسب للعرب وحدتهم حين صاروا يخضعون لحاكم واحد ، وبذلك تجمعت الفرق وتآلفت القلوب وتوحدت النظم ، وصار بعد ذلك من قواد المسلمين أمراء وولاة ، سجلو نصرا لا مثيل له ، ظل الناس يفخرون به ، روته الأيام وتناقلته الأخبار شرقا وغربا ، إضافة لما كان لرسالته ــ صلى الله عليه وسلم ــ من عظيم الأثر في حياة العقول والأفكار النيرة ، فأبدع علماء المسلمين وفلاسفتهم ، وصدروا العلوم لغيرهم ، خــــاصة علمي الفلك والحساب.
ونختم الحديث ــ في هذا المقال المختصر عن عظيم أثر نبي الرحمة على الأمة وكلام المنصفين من العلماء والمفكرين ــ بما قاله عباس محمود العقاد ، وهو يتحدث عن عظمة هذا النبي العظيم الأكرم في ثنايا كتابه : (عبقرية محمد) ــ قائلا : "قد نقل العالم كله من ركود إلى حركة ومن فوضى إلى نظام ، ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية ، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات ، إن عمله هذا لكــــاف لتخويله المكان الأسنى بين صفوة الأخيار الخالدين".