لقد قرأت العديد من الكتابات للفتى الأديب والمفكر الإسلامي المعروف الدكتور: محمد المختار الشنقيطي، وأعجبت بالكثير من مقالاته لما فيها من حسن الصياغة وجودة العبارة وعمق الفكرة ودقة النظرة؛ ووقفت حائرا أمام البعض الأخر منها لما فيه من الخروج على المسلّمات والثورة على الماضي والحاضر والانتقاد المبطن لتاريخ العصر الذهبي للأمة الإسلامية، ولم يسلم عصر الخلافة الراشدة من ذلك.
بيد أن ذلك كله لم يزهدني في كتابات الرجل ولم يثنني عن قراءتها، وفاءً لما يفيض به قلم الرجل مما تمليه عليه خواطره وأفكاره، أنتقي السمين من كتاباته وأضرب بالغث منها عرض الحائط. إلا أن القطرة التي أفاضت الكأس، والقشَّة التي قصَمت ظهرَ البعير، هي تبني الرجل مؤخرا لاجتهادات فقهية خارقة لإجماع علماء وعوام الأمة الإسلامية سلفها وخلفها؛ وقد قال العلامة: سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في باب الإجماع من كتاب:
مراقي السعود: (وخرقَه فامنعْ لقولٍ زائدِ **** إذْ لم يكنْ ذاك سِوى مُعاندِ).
ورده أيضا للأحاديث النبوية الصحيحة التي تخالف هوى في النفس دون مبرر للطعن في هده الأحاديث الصحيحة سندا ومتنا ومعنى، واعتباره إياها مناقضة للقرآن دونما وجه حق، وهذا –والله - أسلوب غريب، فالسنة وحيٌ، كما هو معلوم من الدين ضرورة قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، [النجم: 3 - 4].
تأملت هذه الخرجات كثيرا وحاولت التماس العذر لصاحبها غير ما مرةٍ، لكنني لم أفلح في ذلك؛ قلت في نفسي: صبراً لعل الله تعالى يقيض لهذه الشبه من يدحضها ويكشف عوراتها ويسد أبوابها حتى لا تنطلي على جاهل أو غافل وحتى يزهق الباطل المبرقش بالحق الناصع؛ إلا أنني ــ وبعد تمهل ــ لم أجد من تصدى لهذه الشبه ولو على استحياء.
وفي الآونة الأخيرة طالعنا الرجل بمقال مثير تحت عنوان: (التطاول على مقام النبوة بين كسب الألباب وقطع الرقاب)، ورغم أن البعض يعتبر أن هذا المقال ينكأ الجراح نظرا للظرفية المعروفة التي كتب فيها، إلا أنني لست مع هذا الاتهام بل أحسن الظن بالكاتب كثيرا، ولا أتناول المقال من هذه الزاوية بل أتناوله من زاوية أخرى، وهي اشتماله على اجتهادات فقهية خارقة لإجماع المسلمين، شأنه في ذلك شأن التغريدة التي سبقته على موقع تويتر؛
وهذه الاجتهادات هي: ــ أن المرتد لا يقتل ــ أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتل أيضا. وقد وضعت لدحض هذه الآراء محورين بارزين:
المحور الأول
مناقشة الأدلة التي استدل بها: لقد استدل الدكتور ـــ على ما ذهب إليه من أن المرتد وساب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتلان ـــ بآية وحديثين:
1 – الآية وهي قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... [سورة البقرة الآية: 256]؛ ـ أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم، [أبو بكر الصديق رضي الله عنه]
ــ، تأويل هذه الآية فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن ذلك في أهل الكتاب , لا يُكْرَهُون على الدين إذا بذلوا الجزية, قاله قتادة.
والثاني: أنها نزلت في الأنصار خاصة, كانت المرأة منهم تكون مِقْلاَةً لا يعيش لها ولد, فتجعل على نفسها, إن عاش لها ولد أن تهوّده, ترجو به طول العمر, وهذا قبل الإسلام, فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير, كان فيهم من أبناء الأنصار, فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية, قاله ابن عباس.
والثالث: أنها منسوخة بفرض القتال, قاله ابن زيد، [تفسير الماوردي ج 1، ص 327]؛
ووافقه جمهور المفسرين، ويشهد له سبب نزول الآية، ولم أقف على من فسرها بشيء يشهد لرأي الدكتور.
2 ــ الحديث الأول: حديث جَابِرِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَ الأعرابيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِى بَيْعَتِى، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا ثَلاَثًا، فَخَرَجَ الأعْرَابِىُّ ...) البخاري.
هذا الحديث محتمل لمعنيين: أ – أن الأعرابي أراد الرجوع عن الهجرة لمّا استوخم المدينة، وبقي على إسلامه؛ ويدل له قوله: (فَخَرَجَ الأعْرَابِىُّ ..) أي من المدينة إلى البدو، ولم يقل: (فارتد عن الإسلام).
ب – أنه ارتد عن الإسلام وعلى هذا المعنى يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فليس في نص الحديث ما ينفي أنه أقام عليه الحد أو لم يقمه عليه، وقصارى الأمر أن الحد مسكوت عنه في لفظ هذا الحديث، وقد ورد في أحاديث أخرى نذكرها في محلها إن شاء الله تعالى؛ [هذا ملخص أقوال الشراح في هذا الحديث]؛
والدليل إذا تطرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، كما هو معروف في علم الأصول. 3 – الحديث الثاني: حديث جابر أيضا وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: أتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ يَقْسِمُ شَيْئًا فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ ...) مسلم.
هذا الحديث كما معروف ورد في رجل من رؤوس الخوارج، وقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني
بقوله: إنما ترك النبي صلى الله عليه و سلم قتل المذكور لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام وأما بعده صلى الله عليه و سلم فلا يجوز ترك قتالهم إذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا الأئمة [فتح الباري ج 12، ص 291]. المحور الثاني: الأدلة الشرعية على بطلان ما ذهب إليه الدكتور المفكر من آراء واجتهادات:
1 – الأدلة على قتل المرتد منها: أ – حديث ابن عباس: (..مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) صحيح البخاري].
ب – قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)، [صحيح مسلم].
ج – حديث أبي موسى الأشعري أنه لما قدم عليه معاذ بن جبل اليمنَ: (إِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ: مُوثَقٌ:، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ)، متفق عليه.
د ــ حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل المرتد، وحكاه غيره كالإمام النووي، [المجموع ج 19، ص 228] وإنما محل الخلاف هل يستتاب أم لا؟ وهل تقتل المرأة المرتدة أم لا؟
. 2 – الأدلة على قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقص منه، كثيرة منها:
أ – قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب: 57]، والقتل يأتي بمعنى اللعن في القرآن قال تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10]، وقال: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30]، أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
ب ـ أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل كعب بن الأشرف وقال: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ [متفق عليه]، ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من الكفار فإنه لا يقتل إلا بعد الدعوة. ج – أمره صلى الله عليه وسلم بقتل أبي رافع، قال البراء بن عازب: وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ [صحيح البخاري].
د - أن امرأة كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن يَّكفيني عدوِّي؟» فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها؛ [أخرجه عبد الرزاق في مصنفه]. هــ - أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ، فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»، فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ، وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا، فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ، وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ، [أخرجه الدارقطني في سننه ج 4، ص 117، وأبو داواد في السنن ج 4، ص 129، وصححه الألباني].
و – الإجماع: فقد حكى كثير من أهل العلم الإجماع على قتله، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم عَلَى وجوب القتل عَلَى من سب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ [الإقناع لابن المنذر ج 2، ص 584]. وقال القاضي عياض: قال محمد بن سحنون أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر؛ إلى أن قال: وقال أبو سليمان الخطابى لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلما؛ [الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج 2 ص 612].
وهاهنا أثني عنان القلم **** خوف الإطالة وخوف السأم؛
حسبنا الله ونعم الوكيل. والله من وراء القصد وهو الهادي إلي سواء السبيل.
(إِن الْحق لَا يخفى على ذِي بَصِيرَة **** وَإِن هُوَ لم يعْدم خلاف معاند).