في كل مرة تعيش فيها البلاد على وقع حدث بارز أو خطب داهم ذي أهمية فإن المهتم بشأنها من داخلها و من خارجها يرى وحدها العامة من الشعب تتظاهر تلقائيا و مبدية في ذلك و بحيوية بالغة موقفا حازما أو تطلق استنكارا شديدا يليق بالمقام الذي يحدده ذلك الحدث
أو ذاك الخطب و في إفصاح شديد الوضوح عن الاهتمام به حدثا أيضا أو خطبا بالغ الأهمية و قوي التأثير والخطورة فتترجم كل ذلك أفعالا للتعلق بالثوابت و التصدي للكروب و مواجهة النوازل و الخطوب، و لكنه لا يرى الرسميين و الميسورين يخرجون من بروجهم العاجية يبدون أو يظهرون أي اعتبار و لا يشهد غليانا في أحيائهم التي "تنتهي جميلة" بأسمائها الأوربية أو العربية المتميزة في فسيفسائها و وعمرانها و لا تجمعا مناوئا ينطلق من مساجدها، و كأن الأمر لا يعنيهم من قريب و لا من بعيد أو كأنما الوضع بهذه الحال هو الصحيح لديهم بكفتيه في وضعية التباين بين صخب العامة و هدوء الخاصة. و ليس ببعيد جفاء هذا الظهور الطافح المطلوب وجوبا و شرا و البعد عنه في الوجه اللائق و بالتصدي المراد من ناحية:
- عن الأحزاب السياسية التي يظل بعضها لا يكاد يصدر إلا أصوتا خافتة بالكاد تسمع أو تكشف من آن لآخر عن صورة حراك باهتة و ابداء اهتمام فاتر،بعكس ما يكون عليه الأمر من صخب و حدة إذا ما تعلق الأمر عندها بالمكانة السياسية "الهاجس" أو المطالبة بالسلطة "المبتغى"؛
- عن و المجتمع المدني الذي ينحصر كل همه في "المصالح المادية" الصرفة للحسابات الضيقة بكل أنواع المطالبات و التحركات و المظاهرات و الضغوط.
فئة تتلقف بصدورها الطعنات الموجهة إلى البلد كي ما لا تمس ثوابته و لا يكدر صفو استقراره فيما تنعم فئات بالأمن و تستأثر بخير البلد و تفرط ترفا في استخدام مواقعها المتقدمة في السلطة و الوجاهة السياسية المنحوتة من كيان الديمقراطية المخدر و المحقن بسموم التحايل على مقوماتها و ثوابتها و مراميها بأيدي أفراد هذه الفئات الضارية و المتموقعة في السياقات السياسية والمجتمعية المدنية كقنوات للوصولية فحسب تصديقا لا يقبل الشك لقولة علي كرم الله وجهه الشهيرة "حق يراد به باطل".
أو ليس في الأمر على هذا النحو و بهذه المرارة ما يدعو إلى التأمل مليا و إلى مراجعة الحسابات و الممارسات؟ و من يدري فقد تفضي بأسرع مما ليس متوقعا هذه المراجعة إن قيض الله لها من يسعى إلي قيامها و كتب لها أن تتم - منطلقة من إرادة حقيقية و نزيهة و متسمة بالشمولية يقودها الحزم و حسن المقصد و خلصت فيها النوايا استقصاء جديا و مجردا لمكامن الاختلالات التي تقف وراء هذه الظاهرة الجد خطيرة – فقد تفضي إذا هذه المراجعة إلى بداية موفقة و تلمس أولى دروب التصحيح و الامساك بدقائق خيوط قواعد إعادة البناء على أسس صحيحة و متينة تنتشل الوطن و المواطن من انتكاسات الفكر و الشذوذ والضلال عن الطريق القويم في دائرة الهدي النبوي العظيم و منهجه القويم.
من المعلوم و الذي لا ريب في أنه كلما ارتفعت أسعار المحروقات أو أي سلعة أو خدمة مما تتطلبه المدنية لسير أحوالها كالمواد الاستهلاكية الأولية بكل تشعباتها، فإنه لا يرصد من المتظاهرين و المستنكرين لتلك الظاهرة إلا عموم الطبقات المعدمة تؤازرها الطبقة التي فوقها في الهرم التراتبي لمستويات المعيشة و تدعى جزافا بـ"الطبقة الوسطى"دون أدني سبب مبرر لذلك حيث أنها تستمد صفتها من المضمون المتعارف عليه عالميا و الذي يعنى تقريبا أنها في وضعية ما بين "اليسر و العسر" و أنها تنعم بمستوى لائق و مقبول من الاستقرار المادي و النفسي.
و إذا ما حصل و تراجعت نسبة بعض الأسعار عما آلت إليه من ارتفاع يحصل على العادة لتلبية حاجات في نفوس كبار التجار و الأثرياء و أترابهم من القائمين على سياسيات التجارة و التوزيع و الجمركة و غير ذالك يقضونها و هم ليسوا مطالبين بتبرير أي من أعمالهم أو قراراتهم، فإن نعمة ذلك التراجع تعود عليهم بالادخار و تزيد قدرتهم على البذخ و الترف.
و بالطبع فإن الأمر لا يقتصر مطلقا على ذالك الوجه المتمثل في طاحونة ارتفاع الأسعار والذي هو سمة أيام المغلوبين على أمرهم في الدولة العصرية المنتمية إلى دائرة مثلث الدول المعروفة اصطلاحا بـدول "العالم الثالث" و "السائرة على طريق النمو" و "الأكثر فقرا"، بل و يتجاوزه إلى التظاهر غيرة على كل ما من شأنه المساس بالوطن في صميم معتقده وحوزته الترابية و وحدة مكوناته المختلفة و في مواقفه السياسية المبدئية و مكانته الدوليتين أو نصرته للقضايا العادلة لشعوب العالم الشقيقة و الصديقة أو في الانشغال على قضايا مواطنيه الداخلية حقوقية كانت أم غيرها في دائرة البحث عن العدالة الاجتماعية و انتزاع الحقوق الشرعية الضائعة و المهدورة.
و تتجسد قمة هذه الموقفية العملية فيما يكون، على العدو و بعفوية تمليها نوعية الاحداث و جسامتها، من انتصاب و انفعال و اندفاع أو ردة فعل كاسحة جارفة و واضحة المعالم و المقاصد كما كان الأمر في المواقف المشرفة:
- قبل و عند طرد سفير الكيان الصهيوني و إغلاق سفارته التي كان وجودها نشازا في ظل معاناة الشعب الفلسطيني الشقيق المضطهد و المشرد عن أرضه و مقدساته.
- و الغضبة الشديدة من رسوم الكاركاتيير المسيئة إلى رسول الانسانية جمعاء سيد المرسلين و خاتم النبيين محمد صلى الله ليه و سلم
- و الصولة "الضرغامية" ضد الفلم المسيء الذي عرض مؤخرا و لم يلق غير الكساد و البوار،
- و ما يحدث هذه الأيام من غيرة على الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم و سيرته العطرة و رسالته الخاتمة وغليان و دعوة إلى مراجعة الوضع العقائدي و السلوكي و الأخلاقي المتسم في البلد بالانفلات من قبضة شرع الله العادل بما كان من تجاسر على المقدسات و الثوابت وميل الخطاب الهجومي الآثم و الأقلام الرخيصة الببغاوية و الأفعال المنكرة الشيطانية المشوبة بدنس الردة في البلد و الغرف من فكر وافد حاقد وحانق على رسالة الاسلام الخالدة المزجاة لخير و خلاص الإنسانية، و هي الرسالة إن ترجمت و لو بأقل جهد خالص لوجهه جل و علا على أرض الواقع في المعاملات و توزيع العدالة أخذا و عملا بهديها النير المبين لانقشعت الكرب و ذابت الفروق المصطنعة و حل الأمن و الأمان. و أنى لغير الإسلام أن يوصل إلى هذا المبتغى و قد بلغ رسالته كاملة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم و شهد بذلك و هو الذي لا ينطق عن الهوى في خطبة الوداع التي ألقاها في حجة الوداع يوم عرفة من جبل الرحمة وقد نزل فيه الوحي مبشراً أنه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً". و قد جاء في بديع صياغتها و جزيل معانيها و قوة مدلولها و وجوب الأخذ بها بعد "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، "أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا – ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها."
فأي أمانة في أعناقنا نؤديها اليوم أكبر من أن نقف كلنا و بصدق و تجرد بالمرصاد لكل من تسول له نفسه المساس بهذه الرسالة الخالدة و بصاحبها الذي اجتباه خالق الأكوان و مبدع الخلق، أم أننا نترك سفهاءنا يعرضونا و أجيالنا من بعدنا للهوان و الخذلان بعيدا عن صدفة أخرى من أصداف لآلئ الخطبة المعجزة حيث يقول المصطفي عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام "فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت... اللهم فاشهد."