المجتمع والدولة : إشكاليات البناء والتغيير / الحاج ولد المصطفي

البناء الإجتماعي مفهوم سوسيولوجي يشير إلي حالة المجتمع  "السكونية" ووضعه المستقر بعد تحولات تاريخية ،إقتصادية وثقافية وطبيعية ومناخية.... والتغير الإجتماعي  مفهوم آخر يعبر عن الحركية ويصف وضعيات المجتمع خلال مسيرة التطور و التغير (الفجائي أو الطبيعي) .

أما التوظيفات السياسية لمفاهيم المجتمع البنائية والحركية فهي أساليب خاطئة لتحقيق مكاسب وقتية مرتبطة بأجندة أصحابها وليست طرقا سالكة لإحداث التغيير الإيجابي أو التحول الواعي ضمن  المشروع الإجتماعي للدولة .فهل سعت الدولة الموريتانية إلي تبني استيراتيجية تغيرية واضحة ؟ وهل واكبت مستويات التحول وتفاعلت معها ؟ أم أن تخلي الدولة عن مسؤولياتها الإجتماعية هو ما فتح الباب للتوظيف الإديولوجي والسياسي؟ لعل اللافت في المشهد الموريتاني اليوم هو تعدد الدعوات والمطالبات الفئوية انطلاقا من وضعيات المجتمع التاريخية أو تحولاته اللاحقة وهي محاولات للقفز علي الحقائق العلمية للمجتمع الموريتاني (مجتمع البيظان) .

وتستند معظم تلك الدعوات إلي البناء الإجتماعي في معطاه السكوني "استاتيكي" دون النظر إلي التغير الإجتماعي وما يحدثه من تحولات هامة ..

إن البناء الإجتماعي يتأسس علي معطيات ثقافية واقتصادية وجغرافية وطبيعية وتاريخية ويشترك المجتمع الموريتاني مع غيره من المجتمعات البشرية في التعاطي مع الظروف التاريخية التي واكبت نشأته ، فقد نشا المجتمع البدوي الموريتاني في بيئة قاسية يطبعها الترحال والرعي وسلوكيات الإنتجاع والحروب المستمرة مع الغزاة والمحاربين له ، وقد فرضت تلك الظروف أنماطا من العيش ووصعيات من السلوك وتقسيم واضح للعمل ،ترتب عليه توزع العائلات المكونة للمجتمع إلي:

- محاربين يحملون السلاح ويضمنون أمن المجتمع والدفاع عنه ،يسمون ب(لعرب) وقد جعلتهم طبيعة عملهم السلطوي قادة للمجتمع.

- من يشتغلون بالعلم والتعليم وينشرون المعرفة بين الناس وقد نالوا بذلك دور توجيه المجتمع وامتيازات أخري.

- عائلات اشتغلت بالصناعة وإعداد مستلزمات المسكن من أدوات ومعدات وسميت ب(لمعلمين)

- واختصت عائلات بالرعي والتنمية الحيوانية وسميت ب(آزناك)

- ثم بالعمل اليدوي وحمل الأثقال واستخدام الجهد العضلي في العمل وسموا ب"العبيد" ثم بالحراطين .(مع ملاحظة أن هؤلاء أجبروا علي نوع العمل دون إرادة واختيار نتيجة أسرهم في الحروب أو شرائهم من الأسر الزنجية الفقيرة).

إن تقديمنا لهذا التقسيم الإجتماعي للعمل لاينطلق من منطق تفضيلي أو عنصري وإنما هو استقراء للمعطيات التاريخية وهو يشير إلي واقع اجتماعي واقتصادي مستقر في مراحل طويلة من الزمن وقد ساد التعايش بين الأطياف والمكونات وتباها كل طرف بعمله ومهاراته ولم يؤدي السلوك الإجتماعي في ذلك الوقت إلي تنافر أو تناقض بل كان التكامل والتعاون والتماسك هو السمة البارزة ...

صحيح أن هذا البناء كان مختلا بالنظر إلي معطي القيم الدينية للمجتمع المسلم فلم تؤدي الثقافة الإسلامية دورها في تهذيب النفوس ومنع الممارسات القاسية والإضطهاد الكبير لبعض الفئات خاصة(لحراطين) في بعض الأوقات والجهات. ...ومع ذلك فقد كانت الأوضاع الإجتماعية في بيئات (عالمة كثيرة) تتجه إلي تصويب معطيات الواقع وتغيير بعض العقليات المتخلفة وغير المنسجمة مع قيم المساواة في الدين الإسلامي الحنيف وقد سجلت مواقف مشرفة لبعض العلماء في هذا الإتجاه..(لاداعي.. لذكرهم الآن).

إن صراع الإنسان مع الطبيعة فرض ويفرض عليه تقسيما مستمرا للعمل وهو منحي لايزال المجتمع البشري يسير علي طريقه وإن بأسلوب حديث فقد توسعت دائرة التخصص في الأعمال وأصبحنا أمام فئات كثيرة من المهندسين والعلماء والمدرسين والضباط والجنود والطباخين والحماليين وغيرها من التقسيمات الحديثة والتي لاتزال تثير الكثير من اللقط حول حقوق كل فئة وكل مهنة .....

التطور المجتمعي في ظل الدولة الحديثة إذا كان يجب أن ترافقه استيراتيجية وطنية تستهدف توجيه حركة المجتمع وتطوير أساليب تقسيم العمل وتنفيذ سياسات تمييز إيجابي لصالح الفئات المحرومة والضعيفة ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث نتيجة ضعف إمكانيات الدولة وانتشار الأمية في صفوف القادة والزعماء المحليين مما همش وضع الإستيراتيجيات وفتح الأبواب أمام التوظيف السياسي خاصة مع بروز الممارسة الحزبية والتنافس السياسي ..

بدأت الدولة توظف النفوذ الإجتماعي للأشخاص وتكافئ علي الشعبية (مهما كان مصدرها) مما شجع دعاة الفئوية إلي استغلال تلك الفرصة للدعوات والمطالبات الجارية حاليا والتي أصبحت تطال أغلب الشرائح والفئات في أبنية المجتمع .

إن نضال الفئات الضعيفة والمهمشة حق أريد به باطل ..فهو حق من حيث أنه تراكم لممارسات متخلفة عجزت الدولة عن استيعاب الفئات المتضررة منها وتمييزها إيجابيا والرفع من مستوياتها العلمية والمادية وتهيئة الظروف لمشاركة فاعلة لها في الدولة علي قدم المساواة مع بقية الفئات ..وهو باطل من حيث أنه يستفز المشاعر الإجتماعية ويحاكم التاريخ الوطني دون وجه حق ..

إن أصحاب التوظيف السياسي للفئات الإجتماعية (لحراطين ، لمعلمين ،آزناق وحتي إيقاون) لا يلتفتون كثيرا إلي مسيرة التغير الإجتماعي وما تفرزه من معطيات هامة ..

إن سكان تفرغ زين- مثلا- لا يمكنهم فهم المطالب الفئوية رغم أنهم ينتمون لكل الفئات الإجتماعية (لعرب ، آزواي، لحراطين ، لمعلمين ، آزناق ، إيكاون ...) لسبب بسيط وهو أنهم جزء من بناء اجتماعي جديد مغاير تماما للبناء القديم فهم يعيشون وضعا اجتماعيا تتحدد فيه القيم انطلاقا من المستوي المادي والعلمي للأسرة وليس انطلاقا من المكانة أو المنزلة الإجتماعية ...

وسكان "الكبات" والأحياء العشوائية يشعرون بنفس المعاناة التي تشعر بها الفئات المهمشة تاريخيا ولايمكن اعتبار الأسرة الفقيرة في تلك الأحياء جزء من ملاك العبيد أو الإقطاعيين التقليدين ، تصبح إذا تلك الدعوات الفئوية ضربا من العبث أو التغريد خارج السرب، فالفقراء أصبحوا اليوم فئة واحدة.. والأغنياء كذالك فئة واحدة ....الضباط الكبار فئة... والجنود أخري..... وهكذا تحدث التغيرات داخل النسيج القديم ، لكن أصحاب الدعوات الفئوية يتجاهلون ذلك كله ..ويتناسون أن التحول الإجتماعي مسار طبيعي سيقضي لا محالة علي المفاهيم القديمة وتستبدلها بمفاهيم جديدة...

إن ما يمكن أن يكون مطلبا للجميع هو العمل علي تأسيس وعي مدني وإسلامي صحيح يخلص المجتمع الموريتاني من مفاهيم متخلفة وقديمة لم يعد لها معني في الواقع كالحرطاني ولمعلم والزاري والعربي وغيرها. إن المواطنة مفهوم جدير باحتلال تلك المواقع وينبغي ترسيخه داخل الوعي المجتمعي ولن يحدث ذلك إلا بتضافر الجهود وتأسيس أحزاب ديمقراطية تشكل بدائل حقيقة للقبيلة والفئة والجهة وسلطة سياسية واعية تطلق مشروعا مجتمعيا تصالحيا مؤسسا علي الدين و المعرفة والعلم والسلوك المدني .

الحاج ولد المصطفي:   [email protected]

12. يناير 2014 - 10:03

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا