ولد الذهبي.. ربّان الإصلاحات النقدية والمالية الكبرى / محمد الأمين ولد الطالب أحم

قبل ثلاث سنوات، وفي لحظة فارقة لا يعرف حقيقتَها إلا الاقتصاديون، أو المتابعون للشأن الاقتصادي الوطني، أو من يقرأ لغة البيانات ويصغي إلى نبض الأسواق، اعتلى محمد الأمين ولد الذهبي، القادم من عمق وزارة المالية، سدة القيادة في البنك المركزي الموريتاني. تولى المحافظ الجديد مهامه في سياق مضطرب، حيث كان الاقتصاد الوطني يعيش لحظات حاسمة، تماما مثله مثل معظم الاقتصاديات الإقليمية التي كانت تترنح بأثر من تبعات جائحة كورونا، وما نتج عنها من اضطراب في سلاسل الإمداد، واختناق التجارة العالمية، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين. 

 

لكن وبرؤيته الاقتصادية الحديثة والطموحة، وقدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظات المصيرية، لم يتخذ من ذلك السياق المأزوم ذريعة أو شماعة يحملها المسؤولية، بل جعل من كل تلك الصعاب محرّكًا لإدخال إصلاحات نقدية ومالية ومؤسسية ظل جميع من سبقه من المحافظين يتهيبها، ولا يعرف لمثلها طريقا، هكذا وفي لحظة مفصلية وجد البنك المركزي الربان الذي سيعبر به من حالة الركود والعجز والأزمة، لحالة النجاح والابتكار والريادة التي طالما افتقدها. 

 

وفي غضون السنوات الثلاث التالية سلك المحافظ الطموح، مسلكا مختلفا في إدارة البنك المركزي، سواء فيما يتعلق بالبنية التحتية الداخلية في شقيها الرقمي واللوجستي أو تلك المتصلة بالنظام المصرفي الوطني وعلاقاته بالعالم الخارجي، أو فيما يتعلق بالسياسات النقدية وسياسات سوق الصرف، بل وحتى السياسات التحديثية في مجال الديجيتال والشمول المالي، وأطلق مشروعا تحديثيا عميقا سنرصد بعض معالمه في ما سيأتي لاحقا. 
 

 

ويأتي هذا المقال الذي أردنا أن يكون شاملا ومركزا ووافيا، لا ليرد على بعض المترصدين الذين يتصدرون بعض منصات التواصل الاجتماعي في هذه الأيام،بل يأتي وفاء مني شخصيا للحقائق التي عاينتها وعشتها ووضعا للأمور في نصابها القويم ودرأ للحملات المشبوهة التي تصدر عن من لا يفكون الحرف في مسائل الاقتصاد والتسير والإدارة الإستراتيجية، ممن يعيشون على خنق الحقائق الصارخة، ومحاولات التشويه وتغطية ضوء الشمس بغرابيل مهترئة. 

 

فهذا قبس يسير مما أنجزه المحافظ محمد الأمين ولد الذهبي خلال السنوات الثلاث الماضية:

أنظمة الدفع والبنية التحتية.. نهضة رقمية صامتة

في مجال تحديث البنية التحتية المالية، كان المحافظ الجديد طموحا ومشبعا بالشغف، بل كان صانع تحول حقيقي في عمق النظام المصرفي الوطني. فقد اعتمد البنك المركزي في عهده نظام التحويل التلقائي ATS في شقيه: التسوية الإجمالية الفورية (RTGS) والمقاصة الآلية(ACH)، ونظام الحفظ المركزي للأوراق المالية CSD وهما النظامان المتوافقان مع المعايير المالية العالمية ويهدفان إلى تعزيز الكفاءة والأمان وسرعة العمليات المالية، مما مكّن من تسريع وتيرة الدفع وتقليص المخاطر التشغيلية، كما أُطلق نظامQCBS، الذي جمع بين الكفاءة والشفافية والأمان في العمليات المصرفية. هذا على الصعيد المحلي، وعلى الصعيد الخارجي سعى المحافظ جهده لجعل النظام المالي الوطني أكثر تكاملًا مع المعايير العالمية، إذ اعتمد البنك المركزي الموريتاني في نهاية 2024 نظام SWIFT MX، ليكون من أوائل البنوك المركزية في المنطقة التي تتبنى هذا التحول التقني. ويُمثّل SWIFT MX الجيل الجديد من رسائل الدفع والتسوية الدولية. هذا التحول ينسجم مع الجدول الزمني العالمي لاعتمادMX، والذي سيصبح إلزاميًا ابتداءً من نوفمبر 2025. وقد بادر المحافظ إلى إطلاق هذا التحديث في وقت مبكر، مما يعكس رؤية استباقية في تعزيز كفاءة المعاملات المالية الدولية، وتحسين قدرة المؤسسات المالية الوطنية على التواصل بشكل فعال مع الشركاء الدوليين.

إصلاح سوق الصرف البينية.. 

في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز استقرار الاقتصاد الموريتاني وتطوير بنيته التحتية المالية، شهد سوق الصرف إصلاحات جوهرية تحت قيادة المحافظ محمد الأمين ولد الذهبي. أبرز هذه الإصلاحات كان إطلاق سوق للصرف البينية في 14 ديسمبر 2023، وفقًا للمعايير الدولية. وتمثل هذه الخطوة انتقالا من نظام تحديد سعر الصرف بواسطة البنك المركزي، بناءً على عروض البنوك، إلى نظام يحدد فيه السعر وفقًا للعرض والطلب داخل السوق، مع مراعاة سياسة الصرف ونظام السوق. يهدف هذا التغيير إلى تحقيق توزيع أمثل للعملة الصعبة بين الفاعلين الاقتصاديين، وتعزيز الشفافية والكفاءة في العمليات المالية.

تعزيز فعالية السياسة النقدية

في ظل التحديات الاقتصادية الإقليمية والدولية، قاد المحافظ الاستثنائي مسارا إصلاحيا آخر لا يقل أهمية في مجال السياسة النقدية، هدفه الأساسي الحفاظ على استقرار الأسعار وتعزيز مصداقية العملة الوطنية. وقد ارتكزت سياستة النقدية في بداية الأمر على نهج احترازي سعيا للتحكم في التضخم عبر استخدام أدوات السوق المفتوحة لتعزيز امتصاص السيولة الزائدة ومراقبة الكتلة النقدية. لكبح جماح التضخم المستورد من خلال تعديل نسب الفائدة ومراقبة الإقراض المصرفي. وبموازاة ذلك، حرص على الحفاظ على مستوى مريح من الاحتياطيات الأجنبية، مما ساهم في تعزيز ثقة المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين. هذه المقاربة المتوازنة مكنت من خلق بيئة نقدية مستقرة، تشجع على الاستثمار وتحفز النمو، دون المساس بالأهداف الكلية للاستقرار المالي والنقدي. وبفضل هذه السياسية النقدية المتوازنة، استطاع البنك خفض معدل التضخم من 11% في 2022 إلى 2.4% فقط في سبتمبر 2024، وهي نسبة اعتُبرت نموذجية مقارنة بالتقلبات العالمية. وهو ما أدى في نهاية العام 2024 إلى التحول التدريجي نحو سياسة توسعية عبر تخفيض سعر الفائدة الرئيسي إلى6,5  % لتحفيز الاستثمار والنمو.

ابتكار إستراتيجية للشمول المالي...

من بين الإنجازات الكبرى، برزت الإستراتيجية الوطنية للشمول المالي، التي أطلقها البنك المركزي في مايو 2024، لتكون أول وثيقة من نوعها ترسم خارطة طريق شاملة لإدماج شرائح واسعة من السكان في المنظومة المالية. حددت هدفًا طموحًا: رفع معدل الشمول المالي إلى 63% بحلول 2028، مع تركيز خاص على الشباب، والنساء، والسكان الأكثر هشاشة. ولم تظل الإستراتيجية حبيسة الأدراج، بل تم شرحها في أيام وطنية للشمول المالي، تحولت إلى ورش وطنية للنقاش، والتحسيس، وبناء الثقة. قد بدأت نتائجها تظهر للعيان من خلال زيادة نسبة الولوج للصيرفة وكذلك إطلاق آلية التبادل البني بين المحافظ الالكترونية...
مسار من الشفافية والحوكمة... 

 

في زمن تُقاس فيه المؤسسات ليس بعدد موظفيها، بل بقدرتها على الصمود في وجه الأزمات، عمل المحافظ على إصلاح منظومة الحوكمة المصرفية، من خلال تطوير نظام مكافحة غسيل الأموال، وتعزيز رقابة البنوك، وتوسيع دائرة الشفافية. بل ذهب أبعد، عندما اعتمد المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS)  بشكل تدريجي ضمن مسار تحديثي  لمنظومته المحاسبية والمالية، كجزء من إصلاح شامل للحكامة المالية وتحقيق الشفافية، وهي خطوة جوهرية تندرج ضمن الرؤية الإستراتيجية للتكيف مع أفضل الممارسات العالمية وجعل البيانات المالية أكثر موثوقية وشفافية أمام الشركاء الدوليين.

إصلاح القوانين.. عندما تتحدث النصوص بلغة المستقبل

كان من أبرز مآثر المحافظ، التي لا تجد لها صدى في الإعلام إلا لماما، الدفعُ نحو مراجعة جذرية للنصوص القانونية التي تؤطر عمل البنك ومن ثم القطاع المصرفي ككل. فتمت مراجعة النظام الأساسي للبنك المركزي ليعزز استقلاليته ويتيح له أدوات فعالة لمواجهة الأزمات المالية المفاجئة. وفي نوفمبر 2024، أقر البرلمان قانون "عصرنة أسواق ورؤس الأموال"، فاتحًا الطريق أمام إنشاء بورصة نواكشوط للأوراق المالية، ومعها هيئة تنظيم الأسواق، والوديع المركزي، وصندوق ضمان الودائع. وهي خطوة مهمة لما ستتيحه من جذب لرؤوس الأموال وتوسيع لقاعدة التمويل. أما قانون "الإطار التشريعي للسندات المؤمنة"، فكان تتويجًا لجهد مؤسسي لحماية الاستثمارات وتعزيز الثقة في السوق الوطنية. 
ينضاف لكل ذلك  توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي مع بورصة لندن، أحد أعرق الأسواق المالية العالمية، وذلك للمساهمة في بناء بورصة نواكشوط للأوراق المالية، ونقل الخبرات والتجارب التي تزخر بها بورصة لندن وجعل نواكشوط مركزا ماليا مرموقا في المنطقة وفتح السوق الموريتانية أمام تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية.
وأخيرا....

 

إنّ الحديث عن المحافظ محمد الأمين ولد الذهبي، هو حديث عن رؤية اقتصادية وتخطيطية تجمع بين انجاز الأهداف المرسومة وتحقيق الأرباح المنشودة، حيث حقق البنك المركزي في عهدته أرباحا غير مسبوقة بلغت ذروتها في عام 2023 بـ 87 مليون دولار .

 

هو إذن لمحافظ الذي لا يمكن أن يُختزل في أرقام أو تقارير. إذ يجمع بين صلابة الرؤية وهدوء التنفيذ، بين حكمة المالي وجرأة الإصلاحي، وهو بذلك لا يُجدد فقط دور البنك المركزي، بل يُعيد تعريفه. في زمنٍ يعاني فيه العالم من فقدان الثقة في المؤسسات، استطاع أن يجعل من البنك المركزي الموريتاني مؤسسة ذات مصداقية، تواكب التحديات، وتصنع الفرق، وتُحدث الأثر. قد لا يتحدث الرجل كثيرًا، لكن خلف كل مؤشر إيجابي، وكل إصلاح تشريعي، وكل بنية تحتية جديدة، ثمة بصمة واضحة لربّان واحد اسمه محمد الأمين ولد الذهبي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

محمد الأمين ولد الطالب أحمد
اقتصادي

 

 

7. أبريل 2025 - 11:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا