ما إن تلقف الغرب مشعل الريادة الحضارية للبشر، حتى انطلق يغزو بقية الشعوب، ولم يكن حظ العالم الإسلامي من الغزو الغربي أبخس الحظوظ، وهو غزو طال مختلف جوانب الحياة، وتلونت أشكاله، وكان الغزو الفكري أشد أنواعها استفحالا وتأثيرا
وامتدادا، حتى رأينا في العالم العربي الإسلامي من يجاهر بضرورة التخلي عن القيم الموروثة والتحلي بالقيم الغربية بقضها وقضيضها، لنعيش تقدما وازدهارا كما نظر لذلك طه حسين في مستقبل الثقافة العربية بمصر، وحتى وجد من يردد أقوال أشد المستشرقين حنقا على الإسلام وكأنها مسلمات ضرورية من التفاهة والبدائية نكرانها، وظهر من يعتبر القرآن وثيقة تاريخية، يقول نصر حامد أبو زيد: "الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكون النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيهمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا، والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا، وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة" (الخطاب الديني)
ومنهم من سوى بين الله وبين الشيطان كما في أغاني مهيار لأحمد بن سعيد أودونيس:
"لا الله أختار ولا الشيطان
كلاهما جدار
كلاهما يغلق لي عينيّ-
هل أبدل الجدار بالجدار
وحيرتي حيرة من يضيء
حيرة من يعرف كل شيء.."
وقد ظلت بلادنا والحمد لله بمنآى عن تلك الموجات العلمانية الإلحادية، رغم وجود حالات من اللامبالاة بالدين ورغم الحديث مؤخرا عن ضلوع بعض المواطنين في التنصير إلا أن كل ذلك كان حالات فردية معزولة يتخفى أصحابها، وربما أنكروا ما يلصق بهم من تهم، غير أنه منذ أشهر بدأت تطفو تدوينات ومقالات تدل على مجاهرة صريحة بالكفر والإلحاد، وتسفيه قيم ومبادئ الدين والطعن في رسوله صلى الله عليه وسلم، ورغم شناعة هذا الأمر في بلد كبلدنا ورغم ما تلقاها به الشعب بكافة مكوناته الاجتماعية واتجاهاته السياسية والفكرية من الرفض والاستهجان، فإننا وجدنا من ينشر أقوالا أو يكتب مقالات خاطئة في وقت خاطئ وإن كانوا لم يقصدوا إلا الخير، غير أن عملهم شكل دعما غير مباشرا لهذه الموجة، وعلاوة على ضحالة وهشاشة مرتكزاتها العلمية فإنه يكفي في خطئها أنها صارت بحق فتاوى تلك الطغمة من العلمانيين فلا تكاد تلاقي على صفحاتهم وصفحات من على شاكلتهم ومن يناصرهم مما يمت إلى الإسلام بصلة غير تلك المقالات، وكأنها الدليل والمخرج، كما أن موقع مغاربية وهو موقع ترعاه القيادة الأمريكية الإفريقية، وهي القيادة العسكرية المشتركة المسؤولة عن تعزيز ودعم الجهود الأمريكية وجد في تلك المقالات ضالته ويمكن مراجعة الرابط التالي:
http://magharebia.com/ar/articles/awi/features/2014/01/10/feature-02
من تلك المقالات ما كتب الدكتور الشنقيطي ومنها تدوينة للدكتور محمد المهدي بن محمد البشير وكان آخر ذلك مقال كتبه الدكتور عبد الله بن بمب وسنبدأ في نقاش مقال هذا الأخير باعتباره آخر السلسلة وحاويا ما اشتملت عليه وذلك من خلال النقاط التالية:
استهل الكاتب بمدخل تحدث فيه عن امتطاء السلاطين حد الردة لتصفية خصومهم السياسين ونحن لا ننكر أن يكون حدث شيء من ذلك في التاريخ الإسلامي، غير أن ذلك لا يغير شيئا من حقيقة الحد، إذ هناك انفصام تام بين الحكم المجرد وبين تنزيله وتحقيق مناطه على من يستحقه أو من لا يستحقه، وهذا يمكن أن ينطبق على سائر الحدود وخاصة حد الحرابة، وكم سمعنا من بعض فقهاء السلطان من يستدل استدلالا في غير محله بقوله تعالى: { إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذالك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة:33].
استطرد الكاتب بعد ذلك جملة من الآيات الدالة على عدم الإكراه في الدين منها ما لا يصلح دليلا أصلا كقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل:125] فأحسن تعريف للحكمة أنها كالبلاغة مراعاة مقتضى الحال فقد تكون باللين والمجادلة بالحسنى، وقد تكون بالمجالدة بالمشرفية لا زالت مشرفة، ولله در أبي الطيب حين قال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ودر ابن محمدي حين قال مادحا التبي صلى الله عليه وسلم:
بهُدى الكتاب دعا فمن لم يرتــــــــــدعْ بهُدى الكتاب فبالكتــــــائب يُردع
أما قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فقد أجمع المفسرون على أنها للتهديد لا للتخيير، يقول الشيخ محمد الأمين بن محمد المختارالشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: "ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي التخيير بين الكفر والإيمان ـ ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير، وإنما المراد بها التهديد والتخويف، والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية. والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف ـ أنه أتبع ذلك بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف. إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم. وهذا واضح كما ترى" .
والحقيقة أن هناك فرقا بين الإكراه على الإسلام والإكراه على الإيمان فالإكراه على الإسلام الذي هو الأحكام الظاهرة والنظام العام ممكن وجائز أما الإيمان فإنه مسألة قلبية باطنة لا يتصور الإكراه فيها، يقول القرافي في الذخيرة: "الإكراه على الإسلام في الحربي مشروع إجماعا ويثبت إسلامه مع الإكراه ج12 ص39، ويقول الشربيني في مغني المحتاج: "وأما الإكراه على الإسلام بحق فإكراه المرتد والحربي عليه بخلاف الذمي فإنه مقر على كفره بالجزية والمعاهد كالذمي" ج3 ص289، ويقول عبد الرحمن الجزيري في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في ذكر المسائل التي تصح مع الإكراه: ومنها الإكراه على الإسلام فإنه يصح ويعتبر المكره مسلما تجري عليه أحكام الإسلام ج4 ص 142. وبذلك يتضح أن كلام محمد شلتوت الذي ذكر الكاتب من الإجماع على بطلان الإكراه على الإيمان غير دقيق إذ المسألة لا تتصور أصلا حتى يكون لها حكم، أما إذا كان يعني الإسلام فما قال مناقض لهذه النقول من هؤلاء الأعلام.
حاول الكاتب أن يكون ذكيا في عدم إنكار حد الردة وذلك بالاعتراف به مبدئيا حتى لا يثير شعور القارئ ويصدمه، لكنه خلص إلى أن الردة لا تستوجب حدا لذاتها وإنما الحد في ما يصحبها من خروج مسلح، فأي تناقض أكبر من إقرار انطلاقا ثم رفض ختاما؟
لا أدري هل الكاتب كسلفه الشنقيطي يجهل أو يتجاهل أن للخروج المسلح والإخلال بالأمن العام عقوبة لا علاقة لها بالردة فإن كان المتمرد إنما خرج فسادا في الأرض فأحكامه مبينة في حد الحرابة، وإن كان تمرده سياسيا فأحكامه مفصلة في حد البغاة، والفقهاء واعون ما يأتون وقد قرروا بابا فقهيا للردة المجردة عن السلاح، وكذلك فهم الصحابة واستشهدوا به في أحلك الأوقات، ففي سنن أبي داوود حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبى أمامة بن سهل قال كنا مع عثمان وهو محصور فى الدار وكان فى الدار مدخل من داخله سمع كلام من على البلاط فدخله عثمان فخرج إلينا وهو متغير لونه فقال إنهم ليتواعدوننى بالقتل آنفا. قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين. قال ولم يقتلوننى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ». فوالله ما زنيت فى جاهلية ولا إسلام قط، ولا أحببت أن لى بدينى بدلا منذ هدانى الله، ولا قتلت نفسا فبم يقتلوننى؟" ورجال هذا الحديث كلهم من رجال الصحيحين، وهو صريح في تعلق القتل بالردة المجردة، وهذه الرواية أوضح وأصح من جميع الروايات التي أراد الكاتب أن يرجع بها الحديث إلى حد الحرابة، ويشهد لقتل المرتد حديث معاذ أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن، قال له: أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها». رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال الحافظ ابن حجر: «وإسناده حسن، وهو نص في موضوع النزاع، (يعني مع الحنفية القائلين بعدم قتل المرأة المرتدة) فيجب المصير إليه) وفي هذا الحديث وفي سابقه رد على ما استشهد به الكاتب من كلام ابن الطلاع من أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل مرتدا، إلا إذا كان يعني مباشرة الفعل من يده الشريفة، فهي لم تقتل سوى أبي بن خلف، ومن أدلة حد الردة أيضا ما رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم على أبي موسى قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا ؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس. قال: نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل. وأخرج البيهقي عن ابن عباس: أن أم ولد لرجل سبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقتلها فنادى منادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن دمها هدر" قال ابن حجر في بلوغ المرام: "رواه أبو داود ورواته ثقات".
إن من يسلم بحديث " من بدل دينه فاقتلوه " (في إطار عرضه على غيره من الأدلة الأخرى والتوفيق بينها سواء كانت أدلة قرآنية أو سنة عملية أو قولية ,وكذلك عرضه على السياق التاريخي واللغوي) كما يدعي الكاتب يجب أن يقول بقتل المرتد نظرا للأدلة المذكورة، لا أن يستدل بما يروى عن النخعي من استتابته أبدا، فقد ثبت عنه أن المرتد يقتل رجلا أو امرأة يقول ابن حجر في فتح الباري: "وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال إذا أرتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فان تابا تركا وأن أبيا قتلا وأخرج بن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا يقتل والأول أقوى فان عبيدة ضعيف وقد اختلف نقله عن إبراهيم " [فتح الباري (12/268)] ويكفي في قوة ذلك أن البخاري أورده تعليقا إليه بصيغة الجزم فقال: "وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم (يعني النخعي) : تقتل المرتدة.
وأما القول بأن عمر كان لا يرى قتل المرتد فباطل، لأن حديث قصة نفر بني بكر بن وائل الذي نسبه الكاتب إلى ابن عبد البر وهو موجود في كتابيه التمهيد والاستذكار وفي بعض مدونات الحديث الأخرى لا يخلو من أن يكون نفس القصة التي في الموطأ وهي كما رواها مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ عن أبيه انه قال : "قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل كان فيكم من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه فقال عمر أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ثم قال عمر اللهم اني لم احضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني" فإذا كانت القصة واحدة فعمر لم ينكر إلا عدم الاستتابة لا القتل كما هو واضح، وأما إن كانا قصتين فإن ما أجمل من السجن في قصة نفر بني بكر بن وائل مفصل في حديث الموطأ وهو أعلى إسنادا، وإن كان لا بد من اعتبار التعارض فما في الموطأ مما هو متصل السند كما هنا أرجح. ولهذا قال ابن عبدر البر تعليقا على قول عمر رضي الله عنه "لأودعتهم السجن" يعني: "استودعتهم السجن حتى يتوبوا فان لم يتوبوا قتلوا هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم (من بدل دينه فاضربوا عنقه) ثم قال: "ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد فكأنهم فهموا من قول النبي صلى الله عليه و سلم (من بدل دينه فاقتلوه) أي بعد ان يستتاب والله اعلم" الاستذكار ج7ص 155
وبذلك يتبين أنه لا يوجد في عصر الصحابة بل ولا في من بعدهم من قال بعدم قتل المرتد بوجه صحيح ليس فيه عنه اضطراب وإذا ثبت الإجماع في عصر كانت كل فتوى تخالفه باطلة، أحرى إذا لم تصدر إلا في عصر الانهزام النفسي لا سيما في أمر من جوهر الدين لا ارتباط له بتغير الأزمان والأحوال والعادات.
ينتهج الكاتب كسابقيه منهج تتبع الغرائب والشواذ من الأقوال وهو منهج شبيه باتباع المتشابه من القرآن قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} {آل عمران: 7} فتتبع الشواذ من عمل الزنادقة، قال الأوزاعي من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وقال الإمام أحمد لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابا لأنظر فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل واحد منهم، فقلت مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث على ما رويت، فقلت: ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب، ورحم الله القاضي إسماعيل فقد صدق، لأنه لكل عالم زلته فلو اتبعت تلك الزلات ما قام الدين، ثم إن من يطالع كتب الفقه المقارن والتفاسير وشروح الحديث يدرك أن الكثير من المؤلفين جامع ليل فينقل كل ما يقف عليه ولو كانت نسبته لا تثبت عند التحقيق إلى قائله حتى إن منهم من ينقل مذهب اليهود والنصارى في بعض المسائل، وبمجرد نقل مثل هذه المسائل تصير أقوالا عند غير المحققين أو من في قلوبهم مرض، وما أحسن ما قال أبو الحسن ابن الحصَّار:
وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
إن على الباحث أن يفتش عن قوة الدليل العلمي لا عن شواذ الأقوال.
إن من يسلكون هذا المسلك غالبا ما يجتزئون شواهدهم ويقتطعونها اقتطاعا بعيدا من العلمية فكاتب المقال ينسب إلى ابن عبد البر قصة عمر ويغفل قوله بعدها مباشرة في الاستذكار إن الصحابة مجمعون على قتل المرتد كما تقدم، بل يأتي ما هو أشد من ذلك حين يعمد إلى كلام الشافعي في معرض حديثه عن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المرتدين فيبتر منه جملة هي نص في محل النزاع: جاء في السنن الكبرى للبيهقي: قال الشافعى رحمه الله : "... وقد آمن بعض الناس ثم ارتد ثم أظهر الإيمان فلم يقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتل من المرتدين من لم يظهر الإيمان" فقد حذف الكاتب هذه الجملة الأخيرة وهي ربع عزة.ج8 ص196
ومثل ذلك نسبة القول بعدم قتل المرتد إلى الباجي الذي ذكره الدكتور محمد المهدي في تدوينته، ومن شاء فليراجع باب الردة من شرحه على الموطأ المسمى المنتقى ج4 ص 23-24.
يتناقض الكاتب تناقضا عجيبا فهو أحيانا يود الجمع بين الأدلة، ثم يصرح بأن حديث من بدل دينه فاقتلوه لا يمكن الجمع بينه وبين الآيات القرآنية، ثم يتعسف في جعله مخصصا، وهذا اضطراب من لا يرتكز على أساس وإنما يريد أن يصل إلى أمر لا يمكن أن يوصل إليه عبر سلم علمي، والحق أن الحديث وما في معناه من الأحاديث هي المخصصة لعموم آية لا إكراه في الدين على القول بأنها آية محكمة، أما على القول بأنها منسوخة فالأمر أجلى.
إن كل الآثار التي أسس عليها الكاتب ومن قلدهم بطلان العقوبة على الردة، هي كلها آثار –رغم وهنها وتحريفها عن محلها كما تقدم- توجب عقوبة أخرى هي السجن المؤبد، وهذا ينافي ما انطلقوا منه، إذ ما دام الإكراه موجودا فلا فرق في فقد الاختيار بين أن يكون الإكراه بالقتل أو بالسجن المؤبد، وهذا وحده يعود على كل ما نسجوه في هذه المسألة بالإبطال، إذ يتولد منها إجماع عام على لزوم معاقبة المرتد وهو مناقض للحرية التي يزعمون، غير أنه خيل إليهم أنه بمجرد أن يوجد من يقول بعدم قتل المرتد -ولو كان ذلك لا يثبت عند التدقيق- كاف في القول بعدم وجود عقوبة، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا.
أعجب العجيب أن الكاتب يورد قوله تعالى :(يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) "74" التوبة.ويستدل بها على أن المرتد مواعد بعذاب أليم في الدنيا والآخرة ثم يخلص إلى هذه النتيجة: "ومتى لم يترتب عليها فساد من خروج على الجماعة ودعوة لها "الردة " بحيث بقيت معتقداً شخصيا(الخروج من الإسلام) لا يتعدى الشخص المرتد للمجتمع فحسابه على ربه".
والأغرب من كل ذلك أن يتصدى كاتب للترجيح ثم يسخر من قواعد أصول الفقه قائلا: "ولانريد في هذا المقال البسيط والمتواضع الدخول في جدل عقيم من قبيل اعتبار حديث " من بدل دينه فاقتلوه " حديث آحاد وإشكالية هل يفيد حديث الآحاد العلم أو العمل؟ , ولا فيما قيل عن عكرمة مولى ابن عباس من ضعف وتجريح؟ ولا في هل السنة ناسخة للقرآن أم لأ؟ لأننا لن نخرج بطائل في هذه القضايا في ضوء الدليل، والدليل المضاد وفي حلقة مفرغة لا تؤسس لمعرفة وعلم ولا يمكن الخروج منها برأي حاسم). إن أصول الفقه وعلوم الجرح والتعديل ليست جدلا عقيما، بل هي آليات استنباط الأحكام والتثبت من الدليل، ومنها ما هو مجمع عليه ومنها ما عليه الجمهور ومنها ما هو محل خلاف لكلا طرفيه حجة، ومنها ما هو ضعيف مردود وكل ذلك مبين في كتب هذا الفن، فهل يتجاوز القانوني قواعد القانون ومواده وروحه وهرميته ثم يوفق إلى رأي سليم؟