مقالات الملحدين (1) / سعدن ولد أحمدو ولد حمّـَينّ

altكنت إلى وقت قريب أعزف عن الكتابة في موضوع الإلحاد والملحين، ليس خوفا من خَيْلِهم ورَجْلِهم، فهم أَوْهَنُ مقالةً من بيت العنكبوت، وأَدْحَضُ حجةً من المُحَّاجِّين في الله من بعد ما استجابت له طائفة ُ المؤمنين.

كنت أحجم عن الكتابة في هذا الموضوع، وأنا متيقن من أن الواجب على كل شخص مهما كان صغيرا أو كبيرا أن ينهض من موقعه ويدفع شُبه أولئك الذين سوَّلت لهم أنفسُهم استلابَ الدين بدعوى العلم والتعقل، واحتكارَ الدنيا باسم التقدم المادي والحداثة. لكني تركت خوض غمار الرد لإفساح الطريق لمن هم أوسع مني باعا وأعلم بخبايا خطاب القوم ومداخيله، أوَّلَا. ولأني خِلـْتُ غرسَ شجرة خبيثة على أرض طيـِّبة مثل موريتانيا مآلـُه الاجْتِثاثُ، ثانيَّا. أما وقد قدّر الله ما كان،  وبدأت أغصان تلك الشجرة تنمو شيئا فشيئا، وتمتد كل يوم شبرا، نهضت بدافع الغيرة الدينية والعقلية، للرد على ما أثمرتْ من فكر وترهات، خوفا من أن تَبْسُق أشجارٌ أُخَرْ، أخبثُ وأضرْ، وأَرْدَأُ في طلعِها وأَمَرْ. آخذا مقالات القوم أصحابِ العقول المكسورة، بالتنقيب والتدقيق، سابرا أغوارها، مبينا ما اشتملت عليه من المغالطات الجَمَّة، التي لا تَرْقُبُ في العاقل إِلًّا ولا ذِمَّة. مستعينا بالله تعالى في تتبعها ونسف شبهتها، فهو حسبي ونعم الوكيل. وقبل أن أورد هنا أولى مقالاتهم، أود الإشارة والتنبيه على حقائق ثلاث: الحقيقة الأولى: أن اللَّائِكِينَ الجدد للإلحاد، ما أتوا بجديد، فقد شهد تاريخ المسلمين موجة من المشككين في الدين أكبر وأشد شراسة، وما فتئت تضمحل وتتلاشى تحت ضربات الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة.

الحقيقة الثانية: أن ظاهرة الإلحاد دائما ما تظهر في المجتمعات التي تشهد نهضة فكرية أو ثقافية، ولا يحسب الدارسون أنها مرتبطة فقط بالمجتمعات الدينية، بل ارتبطت أيضا بالمجتمعات التي شهدت نهضة عقلية وفلسفية كالمجتمع اليوناني. فقد ظهرت في اليونان مجموعات السفسطائيين، الذين يمكن اعتبارهم نوعا من الملحدين في القوانين العقلية السائدة  . وما لبث ألئك أن اضمحلوا ومجـّت أفكارَهم النفوس. وعلى هذا فلا تستغرب ـ أيها القارئ الكريم ـ إن سمعْتَ في قابل الأيام إلحادا على "العلم" وحقائقه، الذي كثيرا ما تشدق الملحدون باتباعه. الحقيقة الثالثة: أن مفهوم الإلحاد كما المفاهيم المرتبطة به، شابَهُ غموضٌ على مر التاريخ الإسلامي، جعله ينحصر في إطلاقين: الأول: إطلاق أولائك الذين جعلوا من محاربة الإلحاد مطيّة لمحاربة كل أنواع المخالفين سواء خالفوا في الأصول، أو الفروع، وقد لعبت السياسة دورا كبيرا في هذا الصدد، فقـُطعت رقاب ورؤوس، وعُذب أشخاص ونفوس، والتاريخ مليء بالأمثلة على ذلك وخصوصا حقبة ملوك بني العباس. الثاني: إطلاق انتهجه كثير من الناس في القديم والحديث، وهو حصر معنى الإلحاد وتقزيمه حتى لا يكاد يفهم عند إطلاقه، لدلالته عندهم على عدم، فكأن المفهوم في واد، والإطلاق في واد. فإذا أردت وصف أحد ما بأنه ألحد، صبوا عليك جام الغضب والنكير، وكأنك أتيت أمرا نكرا، وكأن لا وجود للملحدين على وجه الأرض. ولْنَعْمَد بعد التنبيه إلى الحديث عن أولى مقالات الملحدين:

المقالة الأولى: "لا نبوة ولا نبي". هذه المقالة تشكل إحدى ركائز الإلحاد، بل المنطلق الأساس الذي نشأ عنه الإلحاد العربي، كما يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي، رحمه الله وعفى عنه . إن فهم كل ما يجري من سب وتنقص من مقام النبوة صلى الله على صاحب المقام وسلم، مرتبط شديدًا بفهم الأصل الذي بني عليه، ومعرفة أسسه وأسبابه. وإن نقض عروة من عرى ذلك الأصل لكفيلة بنقض ما ترتب عنه من تفريعات. إذا علمت هذا، فاعلم أن أول من قال بهذه المقالة، هم المبراهمة، وتعلقت بمقالتهم طائفة من الملحدين ظهروأ في تاريخ الأمة الإسلامية، وعلى رأسهم: ابن المقفع، وأبو نواس، وابن الريوندي، وأبو بكر محمد بن زكرياء الرازي ـ الطبيب والكيميائي المعروف ـ  وغيرهم ممن تراوحت مواقفه في الإلحاد بين الجحود والصدع. وكان الرازي من أكبر المنظرين لنفي النبوة مُحيلا وجودَها وإمكانَها، بأدلة ـ زعم ـ عقلية وواقعية، تقوم على أسس وأركان، أوردها د / عبد الرحمن بدوي، أطنب في إيرادها وأسهب، ثم لخصها في أسس ثلاث: الأساس الأول: العقل يكفي وحده لمعرفة الخير والشر، والضار والنافع في حياة الإنسان، وكافٍ وحده لمعرفة أسرار الألوهية، وكاف كذلك وحده لتدبير أمور المعاش وطلب العلوم والصنائع، فما الحاجة بعد إلى قوم يُختصون بهداية الناس إلى هذا كله؟ الأساس الثاني: لا معنى لتفضيل بعض الناس واختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعا، إذ الكل يولدون وهم متساوون في العقول والفِطَن، والتفاوت ليس.. في المواهب الفطرية والاستعدادات، وإنما هو في تنمية هذه المواهب وتوجيهها وتنشئتها. الأساس الثالث: الأنبياء متناقضون في بينهم، وما دام مصدرهم واحدا، وهو الله في ما يقولون، فإنهم لا ينطقون عن الحق، والنبوة بالتالي باطلة . تلك هي الأسس التي بنى عليه الرازي مذهبه، هو ومن تقدمه وتبعه، وسأختصر الرد على كل أساس لضيق المقام. فأما الأساس الأول فظاهر التهافت والبطلان، وذلك أن إدراك العقل لكل الأشياء على حقيقتها، ومن ثم إدراك حسنها وقبحها، أصل غير سليم، لأن العقل يمكن خداعه، والتلاعب به. فهب أن شخصا نام ـ على طريقة حجة الإسلام الغزالي في الاستدلال ـ ثم رأى رؤيا، فهو في حال نومه لا تراوده الشكوك في أن ما يراه حقا، فإذا استيقظ وظهر له غير ما ظن، عرف أن ما كان فيه حلما. فالعقل إذا يمكن خداعه والتلاعب به، وليس إدراكه لكل الأشياء على إطلاقه. وهب أن شخصا صالحا لجأ إليك من عدو يلاحقه فسترته، فجاء العدو يسأل عنه، فهل الأحسن أن تريهم مكانه؟ أم تكذب عليهم؟ فإن أبنت مكانه فعلت فعلا يستهجنه العقل، وإن كذبت عليهم فعلت فعلا يستهجنه العقل أيضا. فليس إذا مجرد العقل كاف ٍ لإدراك حسن كل الأشياء وقبحها، بل من الأشياء ما يدرك حسنه بالعقل وقبحه، ومنها ما يحتاج إلى بينة أخرى. وما اختلاف العادات والميولات والطباع إلا مثال على ذلك. وأما الأساس الثاني: فهو في غاية السفسطة، وذلك لأنا لا نقر لك ولا نسلم أن الناس ولدوا سواسية في الإدراكات وفهم المدركات، وإن سلمنا أنهم يولدون بقابلية الإدراك. فإن قلت: بلى، لقد ولدوا كافة بنفس الإدراك إلا أنهم يختلفون في الاستعداد والتهيئة للمعرفة وقبول الأدلة؟ قلنا: ألا يعد هذا اختلافا أيضا؟ وأما الأساس الثالث: فغير سليم أيضا لوجوه كثيرة ليس هذا موضع نشرها. لكن هب جدلا أنهم متناقضون، فهل هذا ينفي الحقيقة، بمعنى هل إذا تناقض لديك زيد وعمرو في مسألة ما، هل هذا وحده كافٍ لنسف المسألة المدعاة من الأساس؟ أم لا بد من قرائن أخرى تثبت صدق أحدها. فإن قلت تناقضهما كاف ٍ، فأنت غير عاقل، وإن قلت لا بد من قرينة أخرى قلنا لك: هذه القرينة هي التي نريد وهي التي نطلق نحن عليها: المعجرة، واطلق عليها أنت ما شئت، حتى يكول لذلك موضع آخر. ولكل مقام مقال.

15. يناير 2014 - 14:11

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا