هل نأخذ من الماضي العبر و نستثني مواطن الخور/ الولي ولد سيدي هيبه

رحل الجميع إلى "ولاته" كما رحلوا من قبل إلى "وادان" و "شنقيط" و "تشيت". أربع محطات شامخة في تاريخ و حضارة بلاد "الملثمين" من الحياء كما أسماها قديما زوارها الأوائل و دونوا عنها كالرحالة العربي ابن بطوطة، و "أرض الرجال" من المروءة والشهامة كما دعاها ذات يوم الطيار ألطلائعي

 و الكاتب المغمور و الموهوب أنطوان دي سان أكزوبري Antoine de Saint Exupery و استلهمته فكتب حولها رائعته الأدبية التي حملت ذات الاسم (أرض الرجال)  Terre des Hommes و هو من حولته وقائع أحداثها و سمو نفوس أهلها و علو شمائلهم في الصحراء الكبرى الموحشة، من مستعمر في الصميم يربط مستعمرات بلده بالبريد الجوي آنذاك إلى أحد أكبر الدعاة للقيم الإنسانية و مساواة الجنس البشري بكل سلالاته.

ذهب الجميع إلى هناك، وزراء و شعراء و غاوين و نوابا و شيوخا و مجاملين، شبابا و شيبا، جاءوا من كل فج عميق و على كل محرك صاخب، فنيين و فنانين، إعلاميين و طامعين، عاملين و عاطلين، مؤيدين و منافقين، مستكينين و مغامرين، إلى ولاته التي تأسست في القرن الأول ميلادي و كانت تدعى وقتها "بيرو"  فـ"إيوالاتن" أو "أيوالاتن" قبل أن يستقر حال اسمها على "ولاته"، مدعين أنهم إنما فعلوا ليستنشقوا عبق التاريخ وليتزودوا من مفاخره و أمجاده و شمائل أهله، و قد انفضوا خفافا و تركوا الحاضر وراءهم يتخبط في أوحاله و يبتلعه حتى الثمالة قذى أقداحه.

صحيح أنهم في جوهريتهم المضروبة عليهم لفظا و نعتا التقوا، على هامش ماضي ولاته التاريخية، أفواجا من السياح الغربيين الذين قدموا إليها خروجا خاطفا عن مألوف و صخب الحياة المدنية الحديثة التي أبدعوا في صنعها، و استجماما لا غير و تعمد بعض عذاب النفس و البدن في بقية أصقاع العالم الذي ما زال يشقى و أهله يتخبطون في جهالات التخلف، بعيدا عن أسباب الراحة التي يرفلون فيها تحت قبة العدالة الاجتماعية التي أرسوا دعائمها. قدموا ليشاركوا - زوار ولاته و محيي مكانتها من أهلها- نظرتهم الفنية إلى لوحة ماضيهم ترفا من عند أنفسهم بعدما كانوا من لتحررهم من القيود الواهية قد أبوا الانغماس في متاهات الماضي داخل أوطانهم و انعتاقهم من "ربقته" ثم قولبوه ماض يُصَرًفُ في زمن الحاضر لتزويد المستقبل في حركية مضبوطة تستجيب لمنطق الأشياء و متطلبات الحضارة الواعية.

و إذا كان الماضي، هو بمنطق العقلانية الجديدة ترفا و سياحة فحسب فإن هوان الحاضر وخسارة المستقبل يبقيان مرهونين للضياع باعتباره فوقهما وخاصة إذا لم تكن تؤخذ منه الدروس والعبر وتستثنى الهنات ومواضيع الخور رفعا لتحديات التخلف عن الركب الذي ما زالت جحافل ظلاميته تغشى البصائر و تدهس قيم التحضر و المدنية.

بمنطق "اللاشعور" بهذا الوعي الذي يحمل في طياته أسباب الاستفادة من الماضي، فإن التناقض سيظل ينخر جسم البلد المترنح بين:

·        آثام الماضي بفقره و ضعف مرتكزات اللحمة فيه دون تقدير منافعه و الأخذ بها من ناحية،

·         و بين حاضر يضح بأسباب انفصام العرى و التحلل مما تبقي من منظومة أخلاقية انفرط عقدها هي الأخرى فتناثرت درره في متسخ خارطة التحول المفاجئ المحفوف بالقراءات الجديدة لماهية الإنسانية في دائرة عهد جديد بكل المقاييس تفتقت فيه العقول و استنارت بغزارة علومه و في ظل حكم الاتصالات الشاملة التي جعلت العالم قرية صغيرة يسمع كل أهلها بأذن واحدة.

و في ظاهرة استثنائية جمعت بين السيئتين، تمضي الأمور هنا في غفلة من هذا الزمن الجديد و أهله مصرين على رسم لوحة مستقبله باللونين الرمادي و الأسود و يدقون في جدار واقعه المتصدع إسفين تابوت الضياع.

و ليست الأصباغ التي تمزجها أنامل هذا الواقع المرتعشة إلا من عمق المتناقضات الكبرى التي تطبع مساره و قد استقت ألوانها من واقع التحولات الخطيرة التي تشهدها معطيات الثوابت من معتقد يتعرض للمد الإلحادي و وحدة يتصدع جدارها و تزيد عوامل هشاشتها و لحمة باتت مستهجنة تقبض بها أقل الأثمان و عدالة غائبة في خيوط الفساد و الغبن و القفز على كل مقتضيات و ضرورات سير الدولة ضمن مفهومها الذي لا يتجزأ في سياقاته المتشابكة.

و إذ الحال على هذا النحو الخطير فإن الشعب على خوره لا يبدو هو الآخر منتبها مباليا و لا صاحيا مكترثا لقتامة الأفق من حوله و الذي لا تحجبه عن البصائر المتقدة ظلاله السوداء و كأنه في واقع هذا الأمر الشاذ إنما هو القابع تحت تأثير مخدر الهوان.

فإلى ماذا يمكن إذا إيعاز هذه الحالة الخطيرة و التي لا يبدو أن أحدا يحسها أو يتراءي له منها أي وجه حتى يمكن استدراك الأمر أو حتى يجدر التصدي لها وضعية منذرة بالزوال و بما يناسب من الوسائل و العمل؟

هل هو التخلف عن الركب الأممي في تقدير التاريخ بمعانيه السامية و استلهام العبر من قوته ماضيا و استخلاص التجربة من ضعفه في بعض مساراته أم هي انحسارية الفكر في التغني بالأمجاد بالحضور السلبي و باستنزاف أوقات الجد و المثابرة على حساب محاربة ظواهر الضعف و التخلف و أسباب الانجراف إلى اختراق الثوابت و تشرذم النسيج الاجتماعي.

و هل نحن إلا أمة عصية حقا على الالتحام بالعصر و مسايرة روحه أو أننا نعمى و نعجز عقليا عن إدراك التحولات من حولنا و الأخذ بها وجوبا للبقاء؟

إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا لم نجن إذا فوائد التعليم الذي نقطف ثماره شهادات و إجازات منذ أكثر من العقدين زيادة على الثلاثة و الخمسين سنة التي هي عمر الدولة المستقلة. عشرات الآلاف من المتعلمين و المتخرجين في أحسن جامعات العالم و معاهده المرموقة، فمنهم من قضى نحبه من الرعيل الأول و منهم من لا يزال ينتظر و من الشباب من تخرج و تسلم المسؤوليات و تقلد المناصب المتقدمة في أجهزة الدولة و على أدق مفاصل تسييرها و بنائها و تنميتها. و مع ذلك لا وجود لأثر يذكر من جراء هذا التعليم و التحصيل و التكوين و التأهيل على أرض الواقع بشقيه السلوكي المدني و لا الميداني التأسيسي و التشييدي.

ما زال الجميع عاجزا أو ممتنعا عن الخروج من أثواب الماضي البالية و إفادة البلد و مواطنيه من "نخبوية" فكره و "علمية" احترافه تحقيقا لالتحام متوازن بعصر مؤهل بكل مقتضيات و أسباب الرخاء و العدل و المساواة لأن يحتضن البلاد يفسح لها مكانا في واقع وعلى خارطة  الانسانية.

تتخذ في العديد من دول العالم المهرجانات ذات الطابع التاريخي أبعادا تربوية و علمية و اقتصادية في ثلاثية مدروسة تجمع بين:

·        صقل الشخصية المميزة للمواطنين من خلال استحضار التاريخ المجيد للأمة أولا؛

·        و الاستفادة من عبره و دروسه حلوة و مرة ثانيا؛

·        و إنتعاش اقتصادي موسمي ربحي مضمون لفائدة البلد و صناعاته و المواطن و مهاراته ثالثا.

و هي المهرجانات الناجحة التي تستقطب في مواسمها كل فئات الشعب و من خارج البلد السياح و الباحثين و الفنانين و الاقتصاديين كل ينشد ضالته و يشحذ مهاراته و يضيف فيترك بصماته في لوحة متكاملة العناصر تحفظ للتاريخ أهميته دون أن يخدش الحاضر أو يقف في وجه المستقبل.

فأين مهرجانات مدننا القديمة - حافظة تاريخنا العظيم الذي كان له ذات مرة دور حقيقي في بعث الحياة في كل أرجاء الصحراء الكبرى - من هذه الرؤية الواعية و الطريقة المثلى للاحتفاء بالتاريخ و الحفاظ عليه و الاستفادة منه؟

لا شك أننا بعيدون كل البعد عنها طريقة مثلى و أسلوبا حضاريا إذ لا يعد أمر المهرجانات التي تقام في مدننا القديمة سوى ضربا متقدما من ترفنا الذهني الخصب في استمطار الفائدة السهلة و من نزواتنا المضطربة التي لا تعرف من الجد إلا ما يكون لإشباع رغبة الملك و التملك فينا أو الاستئثار بما يصح ما كانت الرياح تنفخ لذلك في أشرعة سفن الأهواء و المطامع.

فمتى نأخذ من الماضي الدروس و العبر و نستثني منه مواطن الخور؟

17. يناير 2014 - 21:06

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا