هجمة المدنية الحديثة، ومنتجات الحضارة الغربية دهمتنا فجأة –ونحن مجتمع البداة الرحل؛ الذي ألف خشونة العيش، وصعوبة الحياة- فغيرت في نمط العيش وشكله، وشغلت الرجل والمرأة في آن. فذهب الجيل الجديد ضحية لمناهج تعليمية قاصرة، وتربية منزلية باتت معدومة في أغلب الحالات،
مع التلقي المكثف من مختلف "الوسائط الإعلامية" التي تروج الأفكار الغريبة على قيمنا الإسلامية، وتزيِّن السلوك الشاذ، وتغري بالتمرد على الأخلاق والقيم! دون أن يكون هناك مشرف يراقب علمية التلقي هذه ويوجهها بما يخدم العملية التربوية، ويعزز قيمنا ومثلنا الدينية والثقافية. وذلك هو السبب الرئيسي وراء انتشار أشكال الانحراف، وموجات الشرور والآثام.
إن طبيعة الثقافة الاجتماعية السائدة –كما هو مقرر لدى علماء التربية- هي التي تحدد سلوك الطفل، ونمط شخصيته، وليست المناهج التربوية والنفسية سوى وسائل معينة.
والحضارة الغربية برغم ما أنجزته من دراسات في علم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع عجزت عن التقليص من حجم انتشار الجريمة، والإدمان على المخدرات، والشذوذ الأخلاقي، والتفكك الأسري؛ لأن ثقافتها المجتمعية ترسخ تلك الانحرافات.
وكان أجدادنا الأوائل رحمة الله عليهم –رغم بداوتهم العريقة، ورغم ما يعيشونه من مشاق الحياة- يمتلكون منهاجا أصيلا في تربية الأبناء. لا يقل في عمقه، ودقة تأثيره -إذا نحن حللنا مفرداته- عن أحدث المناهج التربوية التي تعتمد مفردات العلوم الحديثة.
بيد أن ذلك المنهاج التربوي الذي اعتمده الأجداد كان يستمد عمقه ودقة تأثيره في الأساس من ثقافتهم المجتمعية التي كانت سائدة في يوميات حياتهم، ومن سلوكم الذي لم يكن فيه –في أغلب الأحيان، وفي أكثر الحالات- ما يتنافى مع مضمون الرسالة التربوية أو يشعر الطفل بالتناقض بين ما يسمعه وما يشاهده. ولشرح ذلك أكثر نقف مع العناوين التالية:
مجالس الكبار : غراس التربية الأول
كان الولد يفتح عينيه أول ما يفتحهما فيبصر المجالس عامرة بالحمد والتسبيح وشكر المنعم، والحديث عن الآخرة؛ وعن مصير المتقين الذين يلتزمون أداء الفرائض والبعد عن المنكرات، ومصير العصاة الذين يتكاسلون في أداء الطاعات ولا يتورعون عن الغش والكذب وظلم الناس. أو الحديث عن الرجولة، وقيم النبل والشهامة والمروءة. وكان يسمع ذات المعاني في القصص التي تحكيها له الجدات عن الذئب والأرنب.
فيترك ذلك الحديث أثره البالغ في ذهنه الصغير، ويجعله يتساءل عن شكل الجنة؟ وعن شكل النار؟ وربما دفعه إيمانه بتلك المعاني النبيلة والقيم الفاضلة إلى التبليغ عن زملاءه الصغار؛ إن هو رأى أحدهم ينحرف عنها.
كانت تلك التربية –رغم بساطتها- تحدث لدى الأطفال –رغم حداثة سنهم- رقابة ذاتية، وتجعل بعضهم يذكر البعض إن هو اعتدى عليه أو أخذ منه بعض مقتنياته بعدل الله يوم القيامة.
واليوم لأن الحديث عن لأمور الدنيوية أصبح هو الغالب على مجالس الآباء، ولأن الأطفال صار أكثر من يحدثهم ويصغون إليه، هو "الوسائط الإعلامية" تبدلت الأحوال، وشاع العقوق، وانتشر السلوك الشاذ! ثم نحن نشكو ونتحسر من فساد الأطفال.
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب .. ولو نطق الزمان لنا هجانا
لا يكاد يختلف علماء التربية على أن الطفل ثمرة غراس الأبوين بالأساس (وخصوصا في السنوات الأولى من حياته) رغم تعدد الموجهات، والمنابع التي يستقي منها، وفي الحديث 'كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه'(رواه البخاري ومسلم).
الرقابة التربوية على الأطفال
كان الطفل أو البنت إذا بلغ أحدهم سن الصلاة يُخْضَعُ لرقابة صارمة للتأكد من التزامه بأداء الصلاة، ولكي يثبت الطفل –إذا غاب عن نظر الجدة- أنه أدى الصلاة، لا بد له من أن يأتي بمن يشهد له على ذلك. كما كان الأجداد يحرصون كل الحرص على التفريق بين الفتيان والفتيات في المضاجع إذا بلغوا سن العاشرة، ويشعروهم بأن بعضهم صار أجنبيا على بعض، وأن تلك الفوضى في الاختلاط لم تعد مقبولة بحال.
وليس ذلك بأمر مبتدع بل هو وصية نبوية رواها الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع'.
وكان من نهج بعض الشيوخ أنه يفرض على أبناءه في أول تجربة لهم في صيام رمضان أن يلزموه طيلة الشهر المعظم، ويصوموا تحت رقابته؛ حتى لا يدفع أحدهم نزق الطفولة، وطيش الشباب إلى انتهاك حرمة الشهر المعظم.
كان ذلك النمط من التربية –رغم ما شابه في بعض الأحيان من نواقص- يشعر الطفل بجلال الله، وبعظمة دينه الخالد، ويغرس في خلده توقير الشعائر، والحرص على أداء العبادات، والبعد عن الفجور.
خشونة تغرس معاني الجد
مشقة الحياة البدوية وصعوبتها كانت تلجأ الآباء إلى الاستعانة بالصغار في أداء بعض المهام، وذلك بالمشاركة في سقي الماشية ورعايتها، وفي جلب الماء إلى الحي، وفي القيام بمهام أخرى تتلاءم مع طبيعة سنهم في البيئات الزراعية. وكأن رؤبة بن العجاج كان يعيش واقعا مشابها لواقعهم حين شكا جهد الحياة ومشقتها، فقال.
أشكو إليك شدة المعيش .. وجهد أعوام نتفن ريشي
في الحياة البدوية لا يوجد عاطل! الكل يعمل، والكل يكدح، ولكنهم قد تقاسموا المهام بتوازن وعدالة، وكل بحسب طبيعته وخصائصه البيولوجية، فهناك مهام يؤديها الرجال، ومهام هي من اختصاص النساء، وأخرى يقوم بها الأطفال.
ففي الزراعة مثلا يتولى الرجال القيام بالمهام الكبيرة التي تحتاج لياقة بدنية مثل الحفر، والسقاية إذا احتيج لها، ويقوم الأطفال بوضع البذور في الحفر وتغطيتها بالتراب، أما النساء فلهن مهمة أخرى تتعلق بنتف النباتات التي يصعب قلعها بالمحراث.
وكان أسلوب التقشف نظاما تربويا متبعا في حياة الأجداد، لا أحد يخالفه، حتى العائلات الموسرة كانت تحرص على أن يشارك أبناءها في تدبير شؤون الحياة؛ لكي يكتسبوا قدرة على مواجهة مصاعب الحياة، فذلك هو شأن الرجال، ثم إنه "لا حد يعرف ما تخبأه الأيام".
وقد تركت تلك الحياة أثرها البالغ على ذلك الجيل الذي عاشها، فنشأ جيلا جادا منتجا، وقادرا على تحمل المسؤوليات والأعباء الكبيرة.
يكلفه القوم ما عالهم .. وإن كان أصغرهم مولدا
هكذا كُنَّا وكان أجدادنا قبل أن تغزونا منتجات الحضارة الحديثة التي اضعفت إرادة الإنسان، وحولته إلى إنسان مستهلك وخامل؛ تسيطر عليه الأشياء، وتتحكم في تصرفاته، بدل أن يكون هو الذي يسخرها لإرادته(كما لا حظ د.عبد الكريم بكار).