المقالة الثانية: "فكرة المعجزة مخالفة لسنن الله الكونية".
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ### وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
ما فتأت سهام الملحدين توجه إلى النبوة وما اتصل بها من أدلة تثبت إمكانها ووجودها، ولقد كانت فكرة المعجزة باعتبارها ركيزة من ركائز إثبات النبوة محل شك من الكثير منهم في القديم والحديث، رابطين نفيها وعدم إمكانها بمخالفتها لسنن الله الكونية، محتجين بقوله تعالى: "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا".
وما زلت أتعجب من ألئك الذين لا يتذكرون قول الله تعالى إلا في حال موافقته لأهوائهم.
لكن قد أتفهم ذلك لأنهم اعتقدوا في ثنايا أوهامهم أنهم بذلك يلزموننا بالتناقض بين آيات الله تعالى.
ولا يدري الجهول أن الذي أنزل كتابه وبينه، وخلق كونه وأحكمه، جلّ عن التناقض والنسيان.
وإني مبين لك أيها القارئ الكريم بحول الله تعالى مبنى ما ادعاه القوم من تناقض بين المعجزة وسنن الله الكونية.
يقول ابن الريوندي: "إن المخاريق شتى و إن فيها ما يبعد الوصول إلى معرفته و يدق على المعارف لدقته، و إن أورد أخبارها عن شرذمة قليلة يجوز عليها المواطأة و الكذب، كتسبيح الحصى و كلام الذئب و شاة أم معبد و حديث سراقة ، وغيرها، مما تنكره العقول" .
هذا هو الأسّ الذي بنيت عليه فكرة التناقض بين المعجزة وسنن الله الكونية، وقبل أن أبين زيف الفكرة وتهافتها، أشير إلى أن ابن الراوندي هنا ذكر أن سبب نفيه للمعجزات يقوم على أمرين:
الأمر الأول: في طريقة النقل، إذ النقلة كما يزعم لا تقوم بهم الحجة، فإن أراد بذاك أنهم لا تقوم بهم الحجة عقلا، فهذا مسلم به.
وإن أراد أنهم لا تقوم بهم الحجة مطلقا فهذا لا حجة عليه، بل هو نفسه في نقله كلام البراهمة إنما اعتمد على نفس الطريق.
وعلى أي فلذلك موضع آخر، ربما نذكره فيه إن شاء الله .
الأمر الثاني ـ وهو الذي يعنينا هنا ـ : زعمه أن تلك المعجزات تنكرها العقول.
وتلك شكاة ساقط عنك عارها
ولنبدأ في رد دعوى التعارض بين المعجزة وسنن الله تعالى الكونية.
فأقول وبالله التوفيق: أما كون الله تبارك وتعالى لا يخرق سننه الكونية، فهو قول بموجب لأني أومن به ولا أنكره، لكن دعني أنزل معك الأمر على موضوع المعجزة الذي هو مدار حديثنا، فهل ظهور المعجزة يعتبر تبديلا لسنة الله تعالى؟
أنا أدّعي أنه لا يعتبر تبديلا لسنة الله تعالى، وسترى الدليل على ذلك
وأريد هنا أن أقرر أمرا بالغ الأهمية، وهو أن الطريق التي أوصلتنا إلى اعتقاد التناقض بين إظهار المعجزة وبين سنن الله الكونية، هو حصر العلاقة بين الأشياء وتفاعلها في ما ألفناه منها واعتدناه، ولذا أطلقنا على بعض الظواهر الكونية أنها سنة لاعتيادنا على عدم ظهور ضدها، مع أنها ليست سننا كونية أبدا.
فإذا قلت لك الآن إني شاهدت حجرا طائرا في الهواء يحلق من مكان إلى مكان، يهبط هنا ثم يطير هناك، فستنكر ذلك محتجا بأن الله تعالى لا يبدل سننه الكونية، وهذا أمر مخالف لقانون الجاذبية، لكن إذا شاهدت طائرة تقلع في الهواء فلن تحتج على نفي ذلك بقانون الجاذبية، لأن قانون الجاذبية هنا اخترق بتجهيز الطائرة بآلات تمكنها من الإقلاع.
فهل هذا يعتبر أمرا مخالفا لسنن الله تعالى الكونية؟
حتما ستقول: لا
إذا فما الذي دفعك إلى إنكار خرق السنن الكونية في الأولى، وقبوله في الثانية؟
إنه بكل بساطة الدافع الإنساني الذي يجعله ينكر كل شيء لم يعتد عليه، ولم يعرف سببه وعلته، لا أكثر من ذلك.
فبما أنك لم تشاهد عادة حجرا طائرا بلا سبب ظاهر، حسبت أن ذلك من سنن الله الكونية، ولم تقبل مخالفته.
وإن معرفتك بسبب طيران الطائرة أغفلك عن الالتفات إلى سنن الله الكونية.
مع أن كلا الأمرين لا علاقة لهما البتة بالموضوع، بل محض العادة جعلك تعتقد في الأولى ما لم تعتقده في الثانية.
إذا تقرر هذا فاعلم وفقني الله وإياك وأرشدنا للحق بإذنه أن علاقة المعجزة بالأشياء والعادات علاقة سببية، وجودية كانت أم عدمية، كعلاقة الماء بالنار، وعلاقة الوقود بالسيارة، وكعلاقة ارتباط الهيدروجين بالأكسجين لإنتاج الماء.
وإني على يقين أنك لو تحدثت إلى أحد من القرون الماضية ممن لا علاقة له بعلم الكيمياء، وأتيته بماء مالح وقلت له من الممكن أن أُصيّر هذا الماء حلوا دون إضافة عليه، لحسبك تسخر منه، لاعتقاده أن الماء المالح يستحيل أن يصير حلوا دون إضافة عليه، ولو قرأ علم الكيمياء وطرق فصل المخاليط لعلم أن ملوحة الماء ليست ذاتية، وبالتالي يمكن فصلها عنه بالتبخير.
فما الفارق إذا بين تصيير الماء المالح حلوا بالتبخير، وبين انشقاق القمر بسبب ظهور نبي وطولب بشقه؟
فإن قلت: الأولى بينة لأنا ندرك الفرق بين الملح والماء، فهما عنصران متغايران، وندرك سبب انفصلاهما وهو التبخير، وأما انشقاق القمر فهو مستحيل لأنه لا يقبل الانشقاق بطبعه.
قلت لك: لقد أخطأت وادعيت ما لا برهان لك عليه، إذ لا مانع عقلا من انشاق القمر وعودته إلى ما كان عليه قبل الانشقاق، لأنه مكون من عناصر مثل اليورانيوم، والبوتاسيوم، والأكسجين، وغيرها، ولا دليل عقلا ولا علما على عدم إمكان افتراق هذه العناصر بعد اجتماعها.
فإن قلت: جوزنا إمكان انشقاقه، ولكن لا يتم ذلك إلا بالتفاعلات المادية التي لها التأثير الظاهر في تحويل تلك العناصر إلى ما ادّعيت، كما إذا ضربه نيزك ونحوه.
قلت: هذا ما لا أسلم به، لأن هناك عوامل أخرى تأثر في الماديات وتحولها إلى غير حقيقتها وليس ضرورة أن يرجع ذلك إلى سبب علمي واضح.
وما ادعيته من إمكان انشقاق القمر بأسباب اعتدت عليها وشاهدتها، ادعيناه في إمكان انشقاقه بأسباب لم نعتد عليها، فلا فرق عندنا بين الأمرين في أحكام العقول.
واعلم أن سبب اعتقاد هذا القول من عدم إمكان تغير ما نشاهده من المادة إلا بالاقتران بأسبابه المألوفة لدينا، راجع إلى اعتقادنا أن المادة لها قوة ذاتية وتنفعل بنفسها أو باقتران مثلها بها، والحق أن قوتها مودعة، جرت قدرة الله تعالى على أن تنفعل إذا ارتبطت بأسباب معينة، وقد يوجد السبب ولا يؤثر، إذ لا ارتباط بين وجود الأسباب ووجود أثرها حتما.
واعلم أيضا أن منشأ هذا القول راجع إلى اعتقادنا أن إدراك حقائق الأشياء محصور في الأدلة العلمية المحسوسة فقط، والحق أن الأدلة التي تدرك بها الأشياء فيها ما هو عقلي وفيها ما هو علمي حسي وفيها ما هو مرتبط بالنقل والإخبار.
فإذا قلت لشخص إنك تكتب سطرا الآن، فلن يقول لك اثبت لي ذلك علميا أو عقليا، وإلا فلن أصدقك.
وإن قصصت عليه قصة وقعت، فلن يطالبك بالدليل العلمي على ما رويت، بل سيقول لك ممن سمعتها؟ وهكذا.
فالأدلة إذا غير محصورة في الحقائق العلمية فقط، ولا معنى لمن يقول: اثبت لي المعجزة علميا، فهو كمن يقول اثبت لي علميا أنك تكتب الآن.
إن عدم معرفة طبيعة الأشياء وتراكيبها، وعدم البحث في كنهها وقوانينها، يدفعنا أحيانا إلى أن ننكر ظواهر ممكنة الحدوث لاعتيادنا على عدم ظهورها، ونثبت أشياء ونعتقد عدم تخلفها أو نفيها، نخلط في الأمر بين ما هو مستحيل عادة وما هو مستحيل عقلا ، وليت شعري كيف يختلط الأمران، والعاقل يعرف بطبعه أن لا تشابه بين إمكانية كلام البهائم واجتماع النقيضين.