المثقف وحدود التفكير / د. باب ولد أحمد ولد الشيخ سيدي

alt"من عرف الحق شهده فى كل شيئ، ومن فنى به غاب عن كل شيئ، ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئا"، مقتبس من حكم بن عطاء الله.

لعل العنوان يحمل فى طياته نوعا من الاستفزاز المعرفي المراهق فى الطرح المنطلق من فرضتين أساسيتين حول ماهية العقل وحدوده

 المعرفية والأخلاقية بالدرجة الأولى حول الواجب والممكن فى مرتكزاته العلمية أحرى إذا اختلطت بمعايير العرف والقبلية فى واقعها المتخيل، بغض النظر عن المقدس وثوابته الإيمانية كاشعاع روحي لا يرتبط بالطرح المقدم هنا.

 

 

أن تفكر معناه أنك كائن موجود يفكر أو ينتج خطابا معرفيا يتفق أو يتعارض مع طرح سابق له أسسه المعرفية الثابتة كوعاء حاضنلذلك التفكير أو كقاعدة على أساس منها يتحرك المفكر أو من يقوم بهذه العلمية التركيبية السطحية حينا والمعقدة حسب من يمارس والحدود المعرفية للممارس.

 

لذا فلا غرابة أن يتعاطى كل ذي بصيرة أو غيره هذه العملية فى تعريفها السطحي ويبقى التفاضل بين أولى الألباب والقريحة المصدر الأساس والمحدد بشكل كبير لتلك العلمية. غير أن تجاوز هذا التعريف المبسط إلى تعريف آخر قد يكون أكثر تحديدا وعمقا من سابقه يضع الأمر فى قواعد نخبوية للفعل وفاعله كي لا نفكر من منطلقات سطحية تغيب عنها العلمية والتريث والقواعد المنطقية لتبقي دولة بين ممارسين قد لا يفقهون فى هذا الفن ولا آلياته.

 

بمعنى أكثر شعبوية ما كل من يفكر يحمل هذا الوصف المركز التكريمي للممارس وأفعاله ومساهماته الفكرية فى نهضة أمته وتراثها عبر العصور، ليتسم طرحه أو ما يقدم من أفكار بالجدة والندرة التى تستمد معانيها من رؤية تتماهى فى حسن نظر وبصيرة قد لا يفهمها معاصروه ولا أقرانه ممن عاش معهم، وأنتج خطابه المعرفي بينهم نظرا للقوالب التى استعملها والتى فى غالبها تتعارض أشد المعارضة مع مخيال اجتماعي لديه ما يتأسس من ثقافة شعبية صنعتها أيادي مثقف نوعا ما لكنها تتبعد عن صفة التميز والندرة التى يتميز بها المفكر فى ظل فوضي ثقافية لها مبرراتها المعرفية المعاشة فى عموم دار الإسلام خصوصا فى أطرافه القصية جغرافيا والمبتعدة عن اشكالات الثقافة المصيرية، و إن شئنا أن نبتعد عن الأحكام الذامة أو القدحية لنعالج اشكاليات صارت اشكالا ونازلة تستوجب الاظهار والدراسة حتى لا نتمثل أو نتقمص دور الحاكم أو المفتى المحدد فى إطاره لما يجب ولما لا يجب.

 

ليس المشكل بتاتا فى المتون المعرفية رغم أنها كانت استنساخا معرفيا باهتا لا شكالات تنبع منها مركزية قاتلة فى العالم العربي لأطرافه رغم بروز الأنا الاجتماعي الحاضن لها بكثير من الفخر والتميز على علاتها غير أن هذا القول لا ينفى جدة بعضها وتميزه ومساهماته المعرفية فى بقاعه قبل أن يكون اسهاما عربيا رغم المشكل الثقافي المعترف به أصلا فى هذه البقاع.

وفق هذه القاعدة المتماهية فى طرف معين يجعل من المقدس الاجتماعي كائنا اعتباريا له ابجدياته التى ينطلق الوعي الجمعي منها ووفقها تصدر الكتابات التى أنجزها على علاتها بدون مقيم إلا ماكان من تمجيد و تفنن فى أنواع المجاملة التى قد تكون خارجة عن المعتاد والمباح ومحتضنة لها على الأقل فى تجلياتها الأولى لتعاد سياقاتها وما أكثرها على أساس قواعد ثابتة حول النشأة والتطور والذبول والاندثار حتى.

 

لذا فلا غرابة وفق هذه المنطلقات السابقة الذكر أن يتأسس الوعي الثقافي على قواعد من الواجب تبيانها وإظهارها على الأقل كممارسة من قبل مثقفين ودارسين وما أنتجوا وفق رغبات المعنيين وحدود عصرهم المعاشة بألقاب وفرضيات قد تبتعد كل البعد عن كتابة تتخذ الإطار الجمعي إطارا جامعا لكل متقول فى هذا المجال، ومما يدرك بداهة هنا أن الفعل التراكمي لا يعطي أحقية الفعل والمشروع إذا كان ناقصا أو مركزا على ما يراد منه وفق الغايات الآنية فى عصر انحطاط أو ازدهار ما.

 

فالفعل الاجتماعي ومكامن خلله المعروفة بين أهل الاختصاص لا ينبي على رؤية معرفية فلسفية بقدر ما يركز على المعاش والمراد من فكرة معينة لتصير مقدسا جامعا مانعا لكل الداخلين فى هذا الإطار خوفا أو طمعا أو بحثا.

 

غير أن الغريب والمدعاة للحيرة أن تؤسس وجهة النظر هذه ثقافيا من قبل أهل الرأي والمهتمين إما خوفا من رقيب اجتماعي أو محاولة مداراته حتى يدور فى فلكه مؤسسا له ولفعله ولرأيه، لتكون المنافع جامعة للجميع بكتابة جامعة للأجيال رغم ما يشوبها من توزيع للألقاب والمناصب، وإعدام كل رأي معارض أو سمه إن شئت المخالف بوصفه خارجا عن المقدس الاجتماعي وما ينسحب على هذا يستجيب بالضرورة لغيره.

 

 المثقف مرآة صادقة لمجاله:

 

رغم تعودنا نظريا على الأقل فى وسائل الأعلام وغيرها مما بقي تنابزا بالألقاب واعطاءا لها لكل متقول، بدون مراعاة الذوق والطباع للمشاهد العادي فى أغلبها حتى يتم تصوير الجميع كحاضن للتراث مهتما به وراعيا لقضايا أمته ومصيرها، على أن المشكل سيرتفع تدريجيا مع هذا الطرح العامي الشائع بين متداوله المنسي حين التعريف والبروز والظهور، لنعالج ما نريد من فوضوية ساهم فيها بشكل كبير من يتسمى بهذه التسمية، لنبحث فى رواسب تستساغ فى حين من الدهر مالم توجد سلطة بغض النظر عن أحقيتها وما يعطى عادة من مبررات عبر تاريخ هذا المجتمع من مرتكزات تعامل القوم وفقها فى غياب السلطان لتنتفي تلك المراجعات بغياب الإشكال ودوافعه، غير أن هذا الحدث ارتبط فى الوعي أو المخيلة الاجتماعية التى تصدر نخبا وفق هذا المقياس وفية كل الوفاء لمحيطها من الناحية الثقافية والفكرية، لتؤسس المعارف والعلوم وفق هذه القاعدة، وليصدر من ذلك الإناء فلسفة تتعلق بوجوده انطلاقا من تماهي مسبق فى قواعد رصدت لغيره وعلى أساس منها تموقع فى سالف ماضيه.

 

ليبقى المجال ـ بمعناه الضيق ـ الحاضن له ولحدوده العقلية متماهيا فيه أشد التماهي حتى يخيل إليه فى أحايين كثيرة أنه يتحدث عن مقدس من الواجب الإيمان والدفاع عنه بما كان و ما لم يكن وعلى أساس من ذلك يتلقف مناصروه أي من لهم المرجعية الثقافية والأخلاقية كل تصور يتفوه به فى أفكاره ولم لا رصدها كأنها وحي منزل. يجب الإيمان به والتأسيس له مستقبلا بكتابات تخدم النص المراد تصويره لتبقى المخيلة راصدة لكل تحرك يتحرك وفقه، بمعني آخر ما كل من يفكر خارج هذا السياق إلا متمرد على ثوابت أمته وكيانها المؤسسي لتبقى فى إطارها مانحة لما تشاء من الألقاب معتزة بمثقفيها ورجالاتها الأكفاء بمنطقها القبلي والدرامي الموزع لما يشاء بدون رقيب ولا حسيب.

 المثقف بين السلطة والقبيلة:

 

من بداهة القول أن هذه الإشكالية عولجت كثيرا وطرح فيها أكثر من رأي غير أن الاستثناء يبقى معروفا وسنة متبعة فى هذا المجال القصي على التعريف فما أكثر الفوارق والاستثناء فى تاريخه أصلا أحرى إذا تعلق بالمثقف ودوره الأخلاقي الذي يمليه ضمير غائب أو مغيب، بمعني أكثر دقة وشمولا ظل المثقف تتصارع فى وجدانه فكرتان وإن كان المنتهي يفرض توحدهما أو هما من مشكاة واحدة فما السلطة إلا نتاج قبلي أو هكذا أريد لها أن تكون، بمنطق النفع والضر واقتسام المنافع.

 

فلم يكن المثقف أو من أريد له أن يكون مدونا للأحداث وكاتبا لها لتصلنا فى ثوبها الحالي إلا طرف تابع بمنطق القبيلة لها ولتراثها وأيامها مدافعا ومنافحا حين الحاجة، ولذا فإن السلطة أو النظام كشكل مؤسساتي غاب شكليا وضمنيا مع الاعتراف بجميله وما قدم، على الرغم من أن السلط الحاكمة فهمت مبكرا الاشكالية المعاشة وعلى أساس منها تموقعت حفاظا لوجودها وديمومة نشاطها.

 

لذا فإن المثقف فى عمومه كان نتاجا لهذه الإفرازات كشخص فهم المراد والمقصد منه على أن ما يميزه عن الشخص العامي هو أنه نظر لهذا الاتجاه وكتب على أساس منه، فلم يكن نتاجه وتفكيره إلا مرآة صادقة لهذين العاملين مبتعدا كل البعد عن دوره كوعاء حاضن لتراثه واشكالات أمته المصيرية بمنطق الدول وحاجتها حول كتابة تتجاوز رصد الفعل والأمجاد فى ثوبها القصير النظر بدون البحث عن مكنونات الأشياء العميقة ودلالتها البنيوية.

 

ولعل هذا ما يفسر دوران الكتابات المنتجة فى حلقة مفرغة، تعاد صياغاتها حسب الزمن المعرفي لها بمواضيع مجتزئة معيارية بالأساس، لاهي أعطت بدائل ولا أنتجت خطابا جديدا، إلا بمواضيع لا تخدم النص ولا الموضوع ولا سياقها الزماني ليبقي المنتج على شكل سير بدون الفهم العميق للفعل وتحولاته البنيوية التى أثرت فى المجتمع والذاكرة المجتمعية.

 

لم يكن المثقف ولا المفكر وأتحفظ على الكلمة حلقة وصل بين الوعائيين ولا طرحا ثالثا بين سلطة القبيلة وتراثها المدائحي ولا بعيدا عن السلط الحاكمة وهو ما يفسر تموقعه فى اشكاليات عفى عليها الزمن وتجاوزها الواقع الثقافي والاجتماعي. فبدل أن يكون واعيا باللحظة التى تنتج التغيرات الاجتماعية مساهما فى بلورة مشروع لأمة تحتاج إلى كل مقومات النهوض، كان أزمة من أزماتها الخانقة والمحتاجة إلى كثير من التحليل من أجل تحديد الأدوار وتغيير واقع يزداد قاتمة مع مرور الأيام.

 

غير أن هذ لا يقضي بالترافع على قواعد ليس العيب فى أصولها وإن انحرفت واندرست وفق آليات سار عليها البحث فى البلاد ووفقها وزعت المراتب و المغانم اللحظية، ولم لا غيب من غيب ورفع من رفع فى هذه اللحظات الفارغة من تاريخ مجتمع يعيش أزمات فكرية خانقة وتصورات رديئة تعبر عن تدني عميق فى الذوق والطباع، معبرة بكل المقاييس عن أزمة ثقافية لم تكن وليدة الصدفة ولا جرة قلم فى غفلة من الزمن، بل هي اشكالية عميقة نتجت عن قصور مثقف غائب من الواجب أن يرعي أجيالا ليس بمنطق الرقيب وإن كان موجها وحاضنا لها بكل المقاييس، أنتج هو بنفسه خطابا على المستوى يمنحه أو يؤهله للقب المعياري الذي يتبناه ويتحدث وفقه.

 

اشكالية اليوم تتمثل فى كيفية انتاج خطاب يتجاوز المثقف الشكلي الذي تعود عليه فى فترات غير يسيرة بقياس الزمن فى اجترار وتبني رؤية مستساغة حينا من الدهر على الأقل فى عدم محاولة فهم تخطى الرقيب الاجتماعي بما يضع من مقاييس وما يملي من رؤية ضيقة لا تتجاوز إطارها القبلي الدال على عدم تجاوز القطرية المقيتة القاتلة للإبداع والتفكير والمدمرة له أيما تدمير والغير مستساغة فى باقي الظروف والأحوال.

22. يناير 2014 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا