قراءة في انتخابات 2013 في موريتانيا / السالك بن إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على القائد العظيم سيدنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين ..

وبعد : فهذه قراءة شخصية على ما بعد العملية الانتخابية تسلط الضوء على موقع وواقع حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية تواصل ، ولا شك أن بعض المواقف قد تبرز في سوق الدعاية الانتخابية ، ومن حق القارئ أن يستفيد من دلالات هذه المواقف  .

ثم إن كثيرا من المحللين قد يختلفون في تقويم الأجواء التي أجريت فيها هذه الانتخابات ، ولن أقف عند هذه النقطة الجدلية كثيرا وإنما نبحث في بعض الدلالات والعبر ، مرتبا لها فيما يلي : 

أولا : من الملاحظ أن حزب تواصل كان ندا للحزب الحاكم في العاصمة في الشوط الأول ، إذ لم يحسم كل منهما أي بلدية من بلديات العاصمة في الشوط الأول ، وكان الصراع محتدما في الشوط الثاني وحصل ما حصل ، بأنْ حازَ الحزبُ الحاكمُ على نصيبِ الأسد ، وحصَدَ حزبُ (تَوَاصُل) قدرًا مُعتَبَرًا من أصواتِ الناخِبِينَ حيثُ ضاعَفَ العَدَدَ الذي حصَلَ عليهِ فِي الموسِمِ السالِفِ 3 مرات في النيابياتِ والبلدياتِ ، وأعتقد أنه قدْ حصَلَ على حَجْمٍ يناسِبُ التدرُّجَ الكونيَّ الطبيعيَّ إِذْ لَوْ حَصَلَ على أكثَرَ من هذا لكان عرضَةً للتحريضِ من قبَلِ المناوِئِينَ لهُ ، ولو حصل على أقلَّ مما حصلَ عليهِ لكانَ عرضَةً للاستهزاءِ والاستخفافِ . 

أما الخارج على وجهِ العموم فقد تفوق فيه حزب تواصل على الحزب الحاكم ، وهذا فيه دلالة على أنه كلما كانت البيئة بعيدة عن الإكراهات القبلية والجهوية فإن (تواصل) يأخذ حجما مناسبا ، إذ العاصمة والخارج أقرب إلى الانْعِتَاق من سَيْفِ الإغراء وكابوس ِالتهديد ، الَّذّينِ مُورسا في بعض المناطقِ الداخليةِ القبلِيةِ .

ثانيا : يلاحَظُ بوضوح اتساعُ مسَاحَةِ أنْصَارِ حزب تواصل جغرافيا من العاصمة غربا إلى باسكنو شرقا ، وهذا دليل على تعاطي الأطياف المختلفة مع أفكاره وأدبياته ، ونحن نعلم أن الصحوة الإسلامية قد يقف أمامها -وفي بعض الأحيان عن حسن نية- صنفان من المجتمع :

صنفٌ يرى أنه أهل علمٍ واستقامة وتاريخه مجيد ، وله مرجعيته الدينية ، وقد يظن أن الصحوة الإسلامية قد تغير شيئا مما كان عليه ، أو أنها تريد أن تنافسه فيما كان عليه ذلك الصنف من مكانة .

وصنفٌ آخر عنده قصور في المعارف الإسلامية ، وقد يعتبر ثقافة الصحوة الإسلامية جديدة عليه ، مما يجعل ذلك الاعتبار حاجزا بينه وبينها .

لكن انتخابات -2013- أثبتت أن الصنف الأول أصبح يحتضن الصحوة الإسلامية ويعتز بها ، ولا أدل على ذلك من نتائج حزب الصحوة (تواصل) في منطقة تسكنها قبيلة من أشهر القبائل علما (أعني مقاطعة قَرو التي يسكنها الجكنيون أعزهم الله ووفقهم) فقد برهنوا على انسجامهم مع الصحوة الإسلامية وانسِجَامُها معهُم ، وهم أهل لذلك ، ولذلك فقد حسمها (تواصل) في النيابيات لصالِحِهِ ، مع وجود حملة شرسة قادها بعض الوزراء تشويها وتحذيرا من أصحاب المشروع الإسلامي .

والصنف الثاني قد برهن من خلال هذه الانتخابات على أنه قريب من الصحوة الإسلامية عندما عرف أصحابها عن قرب واختبرهم بالتجربة . 

ثالثا : يلاحظ المراقبون أن النسبة العظمى المؤيدة للتواصل كانت من فئة الشباب ، ونحن نعلم أن شباب اليوم هم شيوخ الغد ، والحزبُ كغيرِهِ من حملة المشروع الإسلامي نفسه طويل ، ومرور الأيام لصالحه بإذن الله تعالى ، فمن تجمعهم المصالح اليوم قد تفرقهم غدا ، أما من تجمعهم المبادئ فإنهم يسيرون بهدوء ويعملون باستمرار ، ويعتبرون الهدف المشترك بوصلة توجههم إلى قمم المعالي وعلياء الفضائل .

رابعا : يستفاد من هذه الانتخابات سقوط شبهة استغلال الدعاة للدين ورموزه ، لأن بعض منتقدي تواصل كانوا يروجون دائما أن الدعاةَ يستغلون الدين ورموزه سياسيًّا ، والقراء الكرام لعلهم شاهدوا الندوة التي قدمتها قناة الساحل بين الشوطين الانتخابيين ، وكان اللقاء لعدة ضيوف ، ورأينا رئيس حملة الحزب الحاكم أثناء حديثه يفتخر بأن حزبه يدعمه العلماء ولما أراد نائب حزب تواصل أن يبين للمشاهدين أن العلماء ينبغي أن يتركوا بعيدين عن الصدامات السياسية مبرهنا على ذلك أن حزب تواصل له كثير من العلماء الكبار وأبعدوهم عن هذا المعترك ، عندئذ حاول الصحفي المقدم أن يتصيده بإلزامات كيدية ، وأعتقد أن من رجع إلى نفس الندوة وتأمل السياق الذي جاء فيه حديث محمد غلام عرف أن ملخص فكرته أنه أراد ضرورة إبعاد الرموز العلمية عن المشاحنات السياسية حتى تبقى لهم هيبتهم .

وجزى الله خيرا الأخ محمد غلام على مقاله الذي كتبه من الغد ، والذي صحح فيه ما أسيء فهمه من كلامه .

ونحن نأمل من الاخ محمد غلام في المستقبل الهدوء وضبط الألفاظ حتى لا يـَمْتَطِي أحد صهوة العباراتِ المحتملة لدلالات مختلفة ، لأن بعض مؤيدي الحزب الحاكم حاول أن يستغل كلامه تعويضا عما حوصر به رئيس حملة الحزب الحاكم في الندوة ، من طرف رئيسي اللجنة المستقلة لانْتِخَابَاتِ (2006) و (2009) ورئيس حزب الوئام .

وقد شاهد القراء صباح ذلك اليوم بيانا لرابطة العلماء والأئمة في موريتانيا يستنكر على قناة الساحل استضافتها لأفراد لا يحترمون العلماء ولا يحترمون اللحى ، ثم توسعوا في الحديث حتى سجلوا موقفا أعلنوا فيه أن المجتمع كان على ما يرام حتى تلوثت الساحة بتيارات وافدة علينا عقيدة وسلوكا ، ونحن نشكر لهم هذه الغيرة على القيم الإسلامية والسنن الشرعية ، ولكننا كنا ننتظر منهم موقفا مناسبا عندما أعلن زعيم في السابق موقفا شهَّر فيه بأهل اللُّحى متهما إياهم بأنهم يكذبون ، وتبجح أمام الجمهور بأنه هو ليست له لحية مزكيا في الوقت ذاتِهِ نفسَهُ بأنه لا يكذب !

وعلى القارئ أن يستنتج : هل الدافع وراء الدفاع عن اللحى في هذه المرة الغيرة الإسلامية ؟ أم أنها ((حاجَةٌ في نفسِ يعقوب)) لم يقْضِها بعد ؟

أما حديث البيان عن تلوث الساحة بتيارات وافدة غريبة علينا عقيدة وسلوكا ، فلا أعتقد أن آباءنا الكرام الذين نُسبَ إليهم هذا البيان ، أنهم هم الذين كتبوا هذه العبارات لسببين :

الأول : أن شيوخنا الفضلاء عرفوا العاصمة من نشأتها إلى يومنا هذا (لأن أعمار من نسب إليهم هذا البيان تتجاوز الثمانين سنة متعهم الله بطول العمر مع الطاعة) وهم يعرفون ظاهرة انتشار المنكرات الأخلاقية المدمرة للمجتمع في السبعينيات والثمانينيات ، ويشاهدون وهم في آخر أعمارهم الافتراضية نتائج تلك (الأفكار الوافدة الغريبة علينا عقيدة وسلوكا!) إنها الصحوة الإسلامية التي برزت في تعليم شرعي ونصح أخلاقي ، ودعوة إيمانية وريادة للمساجد ، والتزام بالأخلاق النبيلة من ستر وحشمة وإصلاح ...الخ .

ما أجملها من أفكارٍ وافِدةٍ ، ما دامتْ مستمدةً من رُوحِ الدينِ والإيمانِ .

الثاني : أعتقد كذلك أن مشايخنا الكرام يعلمون كامل العلم أن ثقافتنا كلها وافدة ، فنحن نقرأ القرآن الكريم في الألواح ونحن صغار برواية ورش عن نافع ، والإمام ورش مصري وأصله من الأقباط ! وندرس عقيدة الإمام الأشعري ومعروف أنه من أصل يمني إذ هو حفيد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ولد هذا الإمام في البصرة ، وتوفي في بغداد سنة 324 ه ، وندرس في صغرنا متن الأخضري وهو مختصر مبارك لفقيه مصلح جزائري ، وندرس بعده نظم ابن عاشر في الفقه المالكي وهو لعالم من علماء المغرب أصوله ترجع إلى المدينة لأنه أنصاري ، ثم ننتقل بعد ابن عاشر إلى رسالة أبي زيد القيراواني ، وهو من علماء تونس ، ثم ننتقل بعد ذلك إلى مختصر خليل وهو لفقيه جندي من مصر ، وفي مبادئ النحو نبدأ بمتن الآجرومية وهو لعالم من علماء المغرب ! وإذا كنا نتمسك بالعروبة قومية وعرقا فإننا وافدون على بلاد موريتانيا غريبون عليها !

على القدوات وأصحاب الهيئات أن يبتعدوا عن المواقف التي لا تناسب مكانتهم المرموقة ، ومنزلتهم السامقة . إن الحاكم له فترة حددها الدستور ، والعالم والإمام والقدوة لكل واحد منهم عمر طويل من العطاء والإنجاز لا تحده حدود يبقى هذا العمر بعده بالذكر الحسن بعد الرحيل .

، وأنا لست في مقام التوجيه لهؤلاء العلماء والأئمة ، إلا أن أئمة المذهب المالكي ينبغي أن يستحضروا قولة الإمام سحنون المالكي التي نقلها الذهبي في السير حيث قال (مَا وَجَدْتُ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ إِلاَّ المُفْتِي !) [سير أعلام النبلاء جـ23 صـ60] .

ونحن نربأ بأنفسنا عن أن نتهم شخصا بعينه ، لكننا نعتقد في نفس الوقت أنه من المناسب أن يضبط الأفراد ألفاظهم في هذا الموسم القصير حتى يمر بسلامة ! قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ) [صحيح البخاري : برقم (6018)] .

فإذا كان أحدنا يتجاوز الحدود حرصا على نجاح الرئيس أو خوفا من فشله في الديمقراطية فليطمأن ، وليعلم أن من جاء بالسلاح من السهل عليه أن يحافظ على نفسه بالوسائل التي تؤمنه .

إننا نعلم أفرادا قليلين دافعوا عن معاوية بن سيدي أحمد ولد الطايع بألفاظ جارحة وعبارات نابية ، في حق الصحوة الإسلامية وحملتها من العلماء والدعاة فذهب معاوية وبقيت تلك الألفاظ في ذاكرة التاريخ تلاحق أولئك الأفراد ! ، كما أننا نعرف أفرادا صمدوا في تلك الفترة وبقيت لهم مكانتهم ، والجميع يعرف هذه النماذج !

خامسا : من دلالات هذه الانتخابات سقوط شبهة تأسيس الأحزاب على أساس ديني ، سقطت هذه الشبهة التي كان نظام ابن الطايع يتذرع بها في منع تأسيس الأحزاب الإسلامية ، وقد رأينا في هذه الحملة لائحةً شِعَارُهَا (عُلَمَاؤُكُم أمَنَاؤُكُمْ) ، ولا أعتقد بعد اليوم أن خصوم (تواصل) باستطاعتهم أن يفردوا حزب تواصل بهذه الشبهة .

سادسا : سقوط الفكرة التي تعضد تأييد الحاكِم مطلقًا من منطلق فقهي ، إذ رأينا رئيس رابطة العلماء ساند حزب الحراك الشبابي! ، وهذا يدفع الحرج عن كل صاحب قناعة يتحرج من إبدائِها .

سابعا : (قليلٌ ولكنه نقيٌّ) .

مر معنا في الفقرة الأولى أن حزب تواصل يأخذ مكانه المناسب في الأماكن البعيدة عن عين الرقيب ، أما الأماكن المكشوفة قبليا أو جهويا فإن الضغوط على أنصار تواصل تكون أشد ، ولكن المناصرين في هذه الأماكن وإن كانوا قليلين إلا أن أصواتهم نقية من كثير من الشوائب ، لأن دوافعهم ليست قبلية ولا جهوية لأن (تواصل) ليس نظاما قبليا ولا جهويا ، وليست له أموال ولا وظائف ، وإنما يدعو لمبادئ يعتقد أنها نبيلة .

والغالب أن المصوت للتواصل لا يخلو من حالين :

إما أن يكون صوَّت له من أجل تكثير سوادِ ما يرى أنهُ أقرب إلى القيم الإسلامية من غيره وإن كان الجميع فيه خير ، وإما أن يكون صوَّت له قناعة في مرشحه بالقوة والأمانة .

ثامنا : من دلالات هذه الانتخابات أن خصوم تواصل تشويههم له يتطور بتطور حجمه في الساحة المحلية ، إذ كانوا في السابق يتهمونه بالضعف وقلة الأنصار ، وعندما حصل على قدر من التأييد معتبر غيروا لغتهم تجاهه ، حيث صار تواصل هدفا أمام لاعبي الحزب الحاكم ، كل لاعبٍ يرمي حسب قدرته ولياقته ، ما بين تخويف ووعيد وتحذير وتعنيف ، فقد رأينا على سبيل المثال رأيس حملة الحزب الحاكم يتهم تواصل بتبييض الأموال ، مع أن كثيرا من المواطنين الذين يسوَّقُ لهم هذا الخطاب لا يعرفون هذا المصطلح !

وقرأنا مقالا لإمامٍ في مدينة (كِيفَة) يدعي فيهِ أنه يعبِّرُ عن رأي علماءِ (لعْصَابَة) بدأ مقاله بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُم امْرَأَةً) ، وتوصل من خلال هذه المتفرقات التي استعطف بها أبناء (كِيفة) ، مستخدما بعض الأساليب التي تمدح أحد المرشحين وتعرِّض بالآخر ، ثم توصل هذا الإمام في آخر مقالته إلى دعوة الناخبين للتصويت لمرشح الحزب الحاكم ، ومادام هذا الإمام يؤمن بهذا الرأي الفقهي كان عليه أن يعممه حتى يشمل بلدية عرفات ، التي يتنافس فيها أستاذ من حفظة القرآن الكريم مرشحا عن (تواصل) مع امرأة مرشحة عن الحزب الحاكم ، كان عليه أن ينصح الحزب الحاكم بأنه لن يفلح مادام يرشح النساء للبلديات وللمجموعة الحضرية !

ورأينا كذلك وزير الصحة في مقاطعة (قَرُو) يتحدث مُخَاطٍبا الجمهور وكأنه يبشرهم بفشل التجربة الإسلامية في تونس ومصر !

ولا شك أن فشل التجربة في تونس تمثل في تنازل الإسلاميين عن السلطة حرصا على مصلحة الوطن ، ونجاح خصوم الإسلاميين في مصر تمثل في انقلاب عسكري على رئيس مدني منتخب !

وكأن الوزير في تقييمه هذا لا يحتكم إلى الصندوق ، أو يتجاهل أن الديمقراطية في مصر أفشلها السيسي في انقلابه على خمس استحقاقات فاز بها التيار الإسلامي ، وأما النهضة فإن نجاحها الكبير في الاستحقاق الماضي اعتبره كثير من المحللين شبهَ معجزة ، إذ كيف تحصل جماعة على هذا النجاح بعد عشرين سنة من القمع والتشريد والبطش والتشويه وتجفيف المنابع وتغريب المجتمع ؟

ولم يقتصر الوزير على النماذج التي يرى أنها فشلت ، وإنما راهن على فشل التجربة في تركيا ، فهو يعترف في خطابه ضمنيا بأن تركيا الجديدة وفرت لشعبها عيشا كريما وعدالة اجتماعية وحرية مسؤولة ، وقفت تركيا الحديثة مع المظلومين ، وكشفت بمواقفها المبدئية التدين المغشوش عند بعض حكام المسلمين ، والديمقراطية المزيفة عند بعض الغربيين ، ومع ذلك فإن وزير صحتنا الموقر ، وأثناء الدعاية الانتخابية ، يتمنى للشعب التركي أن يعيش في قابل الأيام معيشة ضنكا حتى يستمتع وزيرنا -عافاه الله- بفشل الإسلاميين !!

ويبدو أن الوزير كان مهددا بالفصل من الوظيفة -كما حصل لمجموعة من أُطُرْ (قَرُو) فيما بعد!- مَا لمَ يظهر الولاء العنيف الذي جَاءَ بِنَتَائِجَ عَكسية ، حيث عاقب أهل كرو -أعزهم الله- هؤلاء المتهورين .

كما أننا قرأنا لإحدى الوزيراتِ في العاصمة خطابا دعائيا وصلت فيه إلى حد الفتوى بعدم التصويت لتواصل معتبرة أن التصويت له سيؤدي إلى وجود أنهار من الدماء ، مذكرة بما حصل في سوريا ! والقارئ الكريم لا يدري وجه العلاقة بين التصويت للتواصل في موريتانيا والحديث عن شعبٍ في سوريا تظاهر يريد الحرية والكرامة فقام الطاغية بقتله ، إلا إذا كانت الوزيرة تسرب لنا معلومات مفادها أن رئيسنا سيفعل بمعارضيه ما فعله الأسد بمعارضيه لا قدر الله !!

تاسعا : من خلال تصريح وزير الصحة في حملته ضد تواصل ، يبدو أن الصراع السياسي يريد الوزير منه أن يأخذ طابعا عالميا ، ونحن لا نمانع في هذه الفكرة ، لأن انتصار (تواصل) ومن على شاكلته من أصحاب التوجه الإسلامي سيدخل حزنا ويحدث غَمًّا على ما يبدو للوزير ومن شاطره ذلك التوجه ، وسيدخل سرورا ويحدث فرحا لكل إنسان يفرح بنصر المشروع الإسلامي ، وفي المقابل فإن هزيمة حزب (تواصل) ومن على شاكلته فإنه سيدخل سرورا على وزيرنا حفظه الله ومن على شاكلته وسيدخل حزنا كذلك على كل إنسان أو حزبٍ أو جماعةٍ يحزن لعدم سيادة المشروعِ الإسلاميِّ .

ولا يُفْهَمُ من هذا أننا نلزمُ الوزيرَ بما لمْ يقُلْهُ ، أو أننا نصدِرُ في حقِّهِ أحكامًا وإنَّمَا نتَحَدَّثُ عن كلِّيَّةٍ أثبتها القرآن الكريم تتمثل في اختلاف وجهة النظر في الكون والحياة عند الأفراد ، قال تعالى (ولكلٍّ وجهةٌ هو موليهَا) وقال تعالى (إِنَّ سعيكُمْ لشَتَّى) ولا يُفْهَمُ كذلِكَ من حديثِنا عن تواصُل وأضرابه من أصحاب المشروع الإسلامي أننا نؤمن بعصمتهم ، بل هم بشر يخطؤون ويصيبون ، والوزير وأضرابه يخطؤون ويصيبون كذلك ، ولكننا نعتقد أن أصحاب المشروع الإسلامي يحملون مبادئ نبيلة ، ويرفعون راية شرف تخلَّى كثير منا عن حملها ، فإن كان ما يقومون به من السعي المستمر لإقامة دين الله من فروض الكفاية فأرجو الله تعالى أن يعينهم على ذلك حتى يسقط الإثم عني وعن الوزير وعن  أفراد الأمة القاعدين .

وإذا كنا نختلف مع أصحاب المشروع الإسلامي فإنه لا يضر أن نسمح لهم بما يسمح به القانون ، أو نتخذ معهم القانون الذي عمل به الصديق رضي الله عنه عند بداية الدعوة حيث قال لمعارضي الدعوة ما قاله مؤمن آل فرعون من قبل (فإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) .

فعندما نرى حزبا أو جماعة أو فردا يسعى إلى تطبيق شرع الله أو الدعوة إلى دين الله بمفهومها العام ، ليس من الحزم أو الإنصاف أن نجعل ذلك الطرف خصما لدودا نصب عليه جامَّ غضبنا ، ثم إِنَّ موقفَ الوزيرِ وأَضْرابِهِ في التفكير ، وموقفَ (تواصل) وأضرابه في التفكير يذكرنا بقصة ذكرها أصحاب السير (مع بعض الفوارق لكن الفكرة تدل على تعاطف كل فريق مع الفريق الذي يميل إليه تعاطفا قلبيا) ، ذكر أهل السير أن الروم كانوا أهل كتابٍ وكانَ الفرس مشركين يعبدون النار ، فحصلت بينهما معركة فانتصر فيها الفرس على الروم ، فحزن المؤمنون في مكة تعاطفا مع أهل الكتاب ، وفرح مشركو مكة بذلك النصر ، فنزل القرآن الكريم  مبينا أبعاد تلك الحرب النفسية والعاطفية عند كلا الفريقين في مكة ، ومخبرا على سبيل الإعجاز بالنتائج النهائية لتلك المعركة ، قال تعالى (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) .

فالقارئُ الكريم يعلمُ أن مكة إبَّانَ نزول هذه الآية تقطنها فئة قليلة من المؤمنين وغالبية عظمى من المشركين ، والمعركة التي تحدثت عنها الآيات حصلت بين نصارى أهل الكتاب وهم الروم وبين مشركي فارس عبدة النار وهم الفرس ، ومع البعد الجغرافي والخلاف العقدي النسبي تعاطف كل فريق مع الفريق الذي يرى أنه أقرب إليه ، وخُتِم المشهد بأن المؤمنين سيفرحون بانتصار الفريق الذي يرون أنه أقرب إليهم ، ولا شك أن انتصار هذا الفريق سيحزن الطرف الآخر في مكة .

إنها معادلة بسيطة ، مفهومة شرعا وفطرة ، تقضي هذه المعادلة بأن كل إنسان له إرادة واختيار ، يضع نفسه في الموقع الذي يراه ، وله عاطفة يحب من خلالها هذا ويبغض ذاك ، وقد يكون ولاؤه الباطني مؤشرا على مصيره النهائي مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم (المرء مع من أحب) !.

فالقارئ الكريم قد يرى شخصين ، أحدهما يحب دعاة المشروع الإسلامي وزارعي القيم النبيلة في المجتمع ، ويرى شخصا آخر يحب أعداء المشروع الإسلامي وزارعي القيم الرذيلة في المجتمع ، وأنصار المشروع الإسلامي يفرحون بالنصر لكل حامل لمشروع إسلامي في كل مكان ، ويفرحون كذلك بكبت أعدائه في كل مكان ، بل يصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى أن يكون التنكيل بأعداء الله سببا في شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم ، قال تعالى (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .

هذه حقائق ذكرها خالق هذه القلوب وفاطر هذه الصدور وعلى المسلم التسليم !

وفي المقابل فإن أعداء الإسلام يعلنون مواقفهم العدائية تجاه أصحاب المشروع الإسلامي ، والحقيقة أن ما يضمرونه في صدورهم أشد وما يخفونه في قلوبهم أخطر ، قال تعالى ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) .

إن أعداء الإسلام والموالين لهم يتهمون أصحاب المشروع الإسلامي قديما وحديثا بالعنف والتطرف ، ولكن القرآن الكريم يحسم في هذه القضية مقارنا بين أصحاب المشروع الإسلامي وبين أعدائهم قال تعالى (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) .

ثم بين القرآن موقف أعداء المشروع الإسلامي من انتصار أهله ومن هزيمتهم كذلك فقال (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) . 

إن انتصار أصحاب المشروع الإسلامي يسوء أعداءهم ، أما هزيمة أصحاب المشروع أو تعرضهم للمحن والابتلاءات فإنه يدخل الفرح والسرور عليهم .

عاشرا : أثبتت هذه الانتخابات أن شباب الصحوة الإسلامية يتميزون بنشاطٍ بارِزٍ وحيوية مميزة وتضحية ذاتية (وأقصد بالذاتية أن شباب تواصل يضحون بوقتهم وجاههم ومالهم دون انتظار مقابل من أي طرف لأنهم يعتقدون أنهم لا يخدمون شخصا أو فردا إنما يخدمون فكرة ومبدأً ، وسيبقيان بعد رحيل الأشخاص) ، وبناءً على ذلك فإن أنصار الصحوة يستشعرون دائما أثناء سيرهم قول الصديق رضي الله عنه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) ، إن شباب تواصل أو من على شاكلته لا يصوت لشخص رئيس الحزب ، ولا يصوِّت لغيره من الأشخاص ، وإنما يصوت لمشروع شامل يسعى لتطبيق شرع الله ، قد يمر هذا المشروع بمراحل تدريجية يحكمها نظام الموازنات وقانون ترتيب الأولويات ، لكنه في النهاية سيصل إلى كل ما يسمح له به الواقع ، حتى يحقق الهدف الأسمى والغاية العظمى .

أيها الشباب ، وفي ختام هذه المقالة ..

ينبغي أن تتحملوا كثيرا لإخوانكم ، فأنتم تسيرون في طريق ليس مفروشا بالورود ، وستضحون بكل غال ونفيس إن كنتم مقتنعين بالهدف !

أيها الشباب : ادفعوا بالتي هي أحسن ، ثم اعلموا أنكم ستعاديكم أصناف كثيرة وأطياف عديدة ، قد يعاديكم أفراد مَحَبَّةً فِي أَعْدَاءِ اللهِ ، وَيَرَوْنَ أنَّ مشروعكم ولو على المدى البعيد يمثل بديلا عن مشروع أعداء الله ، لأنهم يحزنون حينما ينتصر المنهج الإسلامي على المناهج الوضعية والأنظمة الأرضية .

وقد يعاديكم من له مصلحة ذاتية ، بمعنى أنه يسبكم ويشتمكم من أجل أن يبرهن بما لا يدع مجالا للشك على صدق ولائه لشخص أو نظام أو جهة يعيش على ما تقدمه له من فتات الدنيا !

وقد يعاديكم من شُحِنَ بتشويهكم ، ومن خلال الاحتكاك بهؤلاء الضحايا ستتبخر تلك الأوهام ، وقد يعاديكم من يرى ضرورة الارتباط بالنظام الحاكم أيا كان نوعه ، والنظام له مدة محددة حسب الأنظمة الديمقراطية ، أما أنتم فليست لكم مدة محددة ، لأنكم تمثلون مشروعا يتجاوز أعمار الأفراد ، إذ كل جيل يسلم الراية لمن بعده ، حتى تنعم الأمة بتطبيق شرع الله على عباد الله !

ثم أختم الحديث بهاتين الكلمتين ، الأولى للإمام الحافظ ابن عبد البر ، والثانية للأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور .

1- قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (جـ13 / صـ15) : (لا أعلم خلافا في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم" أنها الكلمة عند السلطان الجائر الظالم ليرضيه بها فيما يسخط الله عز وجل ويزين له باطلا يريده من إراقة دم أو ظلم مسلم ونحو ذلك مما ينحط به في حبل هواه فيبعد من الله وينال سخطه وكذلك الكلمة التي يرضي بها الله عز وجل عند السلطان ليصرفه عن هواه وبكفه عن معصية يريدها يبلغ بها أيضا من الله رضوانا لا يحسبه والله أعلم) .

2- قال ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير (جـ21 / صـ338) ، معلقا على قول الله تعالى (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) : (وهذا شأن الدهماء أن يسودوا عليهم من يعجبون بأضغاث أحلامه،ويغرون بمسعول كلامه،ويسيرون على وقع أقدامه، حتى إذا اجتنبوا ثمار أكمامه، وذاقوا مرارة طعمه وحرارة أوامه، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه) .

هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

كتبه : السالك بن إبراهيم ..

الأحد 18 / ربيع الأول / 1435 ه

الموافق 19 / 1 / 2014 م 

23. يناير 2014 - 13:18

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا