ليس غريبا أن نسمع كل يوم المصادقة على العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الفارغة و اصدار الكثير من المراسيم القانونية القاضية بمنح تراخيص تنقيب لشركات أجنبية في الأراضي الموريتانية المترامية الأطراف، ليس غريبا على نظام فاسد مفسد أن يسعى دوما لاستجلاب الشركات متعددة
الجنسيات من أجل مصالح ذاتية مغلفة بداوي وطنية ، فكم عرفت موريتانيا من الاتفاقيات والمراسيم في مجال التنقيب!، لكن يصدق المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرا، ها هي الشركات الأجنية تعمل وتنتج وتصدر لكن نصيب موريتانيا هو السموم و الأمراض الكثيرة الناجمة عن تلك السموم، وأخيرا يكون الضحايا هم المواطنون، فكيف تفصل عمالا شغلتهم كل هذه الفترة بحجة عدم الخبرة، أليست هذه السنوات الطوال كفيلة باكتسابهم لتلك الخبرات؟ ، ثم أليس غريبا أن تفصلهم بحجة الوضع الدولي والمشاكل الاقتصادية في حين تجلب عمالا أجانب وتشغلهم؟ ، ألا يجب أن تتدخل الدولة للمحافظة على العمالة الوطنية ؟ أليس هذا دورها؟، لكن هيهات تلك هي المصالح الضيقة لرجال الأعمال وغياب الروح الوطنية والنظرة الاستشرافية ، ذلك هو ما تعانيه موريتانيا بفعل أنظمة دكتاتورية انقلابية تحكمها منذ 1978 إلى اليوم ، لا بل إن الوضع اليوم أمر و أقسى ، فالنظام رفع الدعم عن المواد الأساسية (النفط مثلا) وتركها في تصرف رجال أعمال خونة همهم الوحيد هو الربح ولا شيء غير الربح، ليذهب العديد من العمال كما نظرائهم في الشركات المعدنية الى البطالة وما أدريك ما البطالة؟ فكل هذه المآسي والإهانات التي يتعرض لها المواطنون ، كل هذ التدهور الاقتصادي المزمن ، كل الصفقات الاقتصادية المشبوهة ، كل عمليات الفساد الملاحظة بشكل فاضح لن تكون الا من صنع نظام واحد هو النظام الانقلابي الذي زور كل شيء ، زور معدلات النمو وزور الارقام التي تقدم للمؤسسات الدولية من اجل الحصول على المزيد من الاموال لتذهب الى خزائنهم وفي النهاية الشعب الذي استجدى النظام باسمه يبقى هو الضحية الأولى ولا يبدو أن هناك أفق لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية للاسف الشديد.
قبل أيام تداولت وسائل الإعلام خبر إلغاء البنك الاسلامي للتنمية لتمويل كان يعتزم تقديمه لتمويل توسيع محطة طاقة فى نواكشوط ليتراجع بعد أن أخطرته منظمة (شربا) المتخصصة في مكافحة الفساد بعدم شفافية الصفقة المبرمة بين (صوملك) والشركة الفنلندية (ورتسيلا) ، وليست هذه المرة الأولي لوجود فساد في الصفقات وعلى ما يبدو لن تكون الأخيرة ، فمنذ فترة تم الكشف عن صفقة فساد أخرى فحواها اقتناء تسعة (9) مولدات لتزويد نوكشوط بالكهرباء لكن تلك المولدات المقتناة كانت مستعملة كلها ولم يستطع العمل منها الا 4 من أصل 9 ، وللتذكير فإن هذه المولدات تم استيرادها من أجل محطة "الورف" بقيمة 60 مليون دولار منحت بالتراضى من الحكومة الحالية لصالح شركة أجنبية وأحد أقارب الرئيس الموريتاني . وتبين أن المولدات المستوردة من دولة الإمارات العربية المتحدة كانت مستعملة وسبق أن تم رفضها من قبل إحدى الدول الإفريقية. زد على ذلك أنه عند وقوع أي خلل في المحطة يتعين استدعاء خبراء اجانب من الاتحاد الأوربى مقابل مبالغ مالية كبيرة. وتصل أعمال التصليح في بعض الأحيان إلى شهر كامل مما كبد الشركة خسائر باهظة، هذ مثال بسيط على عظم الخسائر التي تتكبدها الدولة الموريتانية في ظل هذه الانظمة الانقلابية المفسدة، فكيف يسكت الخبراء الاقتصاديون على هكذا اعمال ستتحملها الاجيال القادمة دونما أي ذنب؟.
ما ذكر أعلاه نمط من الفساد الاقتصادي والمالي والمحسوبية وكل أنواع الفساد الذي يتخبط فيه النظام الحالي والأنظمة العسكرية قبله، أما النمظ الثاني فيتمثل في تزوير الأرقام التي يقدمها النظام الى الممولين الدوليين بهدف الحصول على المزيد من التمويل الذي يذهب بطبيعة الحال إلى جيوب المتنفذين، وإلا كيف يمكن تفسير الوضع الاقتصادي الهش ومديونية هائلة جدا ترزح تحتها الدولة الموريتانية؟ وسيعاني منها الجيل القادم والذي يليه والذي يلي ذلك كما يتحمل جيلنا تماما ديونا روكمت علينا بفعل شرذمة من العسكريين الساعين الى المصلحة الذاتية فقط، فقبل أيام ذكر كاتب فرنسي في مؤلف جديد بعنوان " بابا هولاند في مالي" أن النظام الموريتاني الحالي يقوم بنهب المساعدات الأجنبية عن طريق البنك المركزي وإخفاء أثرها، وهو ما يشارك فيه الزين ولد زيدان المحافظ السابق للبنك المركزي الموريتاني حيث حث النظام الموريتاني على تقديم أرقام مغلوطة للممولين الدوليين، وقد ذكر مؤلف كتاب " الاقتصادي الموريتاني" معلومات مشابهة إذ قال أن أحد الوزراء السابقين صرح له أنهم كانوا يقدمون أرقاما مزيفة للممولين بغرض الحصول على التمويل الدولي .
ما تعانيه موريتانيا من فساد جاء نتيجة التحالف المشؤوم بين رجال الأعمال والسلطة والضحية للأسف هم المواطنون الذي لا حول لهم ولا قوة ، آخر مثال على ذلك هو ميناء نواكشوط الذي يشهد حراكا ثوريا متواصلا ، فأحد أبرز رجال الاعمال المستوردين للمواد الغذائية يحاصرهم ويجوعهم والسلطات المعنية لا تحرك ساكنا في حين أن نفس الرجل كان قد وقع برعاية النظام اتفاقا مع هؤلاء العمال يبدو أنه لا يريد الإلتزام به .
من ناحية أخرى لم تنبس المعارضة ببنت شفة، فقط أصدرت بيانا ومطالبات خجولة لإنصاف هؤلاء العمال كما أن فضائح الفساد التي تظهر بين الفينة والأخرى لم تحظ هي الأخرى بالإهتمام اللازم من طرف المعارضة فقط مطالبات بإجراء تحقيقات لا تقدم ولا تؤخر ومحسومة النتائج إن حصلت ، في حين المطلوب منها التحرك بالبحث عن حقائق هذه الأمور ورفع دعاوي إن لزم الأمر ، حتى تنكشف حقيقة هذا النظام الذي يرتكز على بعده القبلي و شراء ذمم كل من تخول له نفسه أن ينطق حرفا في غير صالحه. فيا ترى هل يكفي إصدار البيانات والمؤتمرات الصحفية فقط؟
إن نظاما عسكريا متوارثا وإن بطريقة غير سلمية لن يألو جهدا في سبيل الحفاظ على بقاءه مهما كلف الأمر، أما السعي لفضح معاملاته ورشاويه وصفقاته الفاسدة فيحتاج إلى جهود كبيرة من الجميع ، لأن المسألة تتعلق بمصير دولة محتكرة من قبل مجموعة مفسدة تصرِّفها كيف تشاء للأسف الشديد.